التفاسير

< >
عرض

إِذَا ٱلشَّمْسُ كُوِّرَتْ
١
وَإِذَا ٱلنُّجُومُ ٱنكَدَرَتْ
٢
وَإِذَا ٱلْجِبَالُ سُيِّرَتْ
٣
وَإِذَا ٱلْعِشَارُ عُطِّلَتْ
٤
وَإِذَا ٱلْوُحُوشُ حُشِرَتْ
٥
وَإِذَا ٱلْبِحَارُ سُجِّرَتْ
٦
وَإِذَا ٱلنُّفُوسُ زُوِّجَتْ
٧
وَإِذَا ٱلْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ
٨
بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ
٩
وَإِذَا ٱلصُّحُفُ نُشِرَتْ
١٠
وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ كُشِطَتْ
١١
وَإِذَا ٱلْجَحِيمُ سُعِّرَتْ
١٢
وَإِذَا ٱلْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ
١٣
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ
١٤
-التكوير

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

تكرر لفظ "إذا" فى هذه الآيات اثنى عشرة مرة، وجواب الشرط قوله: { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ }. وهذا التكرار بلفظ إذا من مقاصده التشويق للجواب، لأن السامع عندما يجد هذا الظرف وقد تكرر يكون فى ترقب وشوق لمعرفة الجواب.
وعندما يسمعه يتمكن من نفسه كل التمكن.
ولفظ "الشمس مرفوع على أنه فاعل بفعل محذوف يفسره ما بعده، أى: إذا كورت الشمس كورت، وأصل التكوير: لف الشئ على جهة الاستدارة، تقول: كورت العمامة، إذا لففتها.
قال صاحب الكشاف: فى التكوير وجهان: أحدهما: أن يكون من كورت العمامة إذا لففتها. أى: يلف ضوء الشمس لفا فيذهب انبساطه وانتشاره فى الآفاق، وهو عبارة عن إزالتها والذهاب بها، لأنها ما دامت باقية، كان ضياؤها منبسطا غير ملفوف.
وثانيهما: أن يكون لفها عبارة عن رفعها وسترها، لأن الثواب إذا أريد رفعه، لف وطوى ونحوه قوله - تعالى -:
{ يَوْمَ نَطْوِي ٱلسَّمَآءَ } أى: إذا الشمس أزيل ضوؤها بعد انتشاره وانبساطه، فأصبحت مظلمة بعد أن كانت مضيئة، ومستترة بعد أن كانت بارزة.
{ وَإِذَا ٱلنُّجُومُ ٱنكَدَرَتْ } أى: تناثرت وتساقطت وانقلبت هيئتها من اللمعان والظهور، إلى الميل نحو الظلام والسواد.
أى: وإذا النجوم تساقطت وانقضت. يقال: انكدر البازى، إذا نزل على فريسته بسرعة، وانكدر الأعداء على القوم إذا جاءوا أرسالا متتابعين فانصبوا عليهم.
ويصح أن يكون المعنى: وإذا النجوم تغيرت وانطمس نورها، وزال لمعانها، من قولهم: كدرت الماء فانكدر، إذا خلط به ما يجعله مائلا إلى السواد والغُبْرة.
{ وَإِذَا ٱلْجِبَالُ سُيِّرَتْ } أى: اقتلعت من أماكنها فسارت فى الفضاء بقدرة الله - تعالى -. قال - تعالى -:
{ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ ٱلْجِبَالَ وَتَرَى ٱلأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } وقال - سبحانه -: { وَسُيِّرَتِ ٱلْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً } { وَإِذَا ٱلْعِشَارُ عُطِّلَتْ } والعشار: جمع عُشَراء كنُفَسَاء، وهى الناقة التى أتى على حملها عشرة أشهر. وتسمى بهذا الاسم إلى أن تضع لتمام السنة. والنوق العشار كانت من أثمن الأموال عند العرب، وكان يحافظون عليها حتى فى أشد حالات الخوف.
ومعنى "عطلت": أهملت وتركت بدون راع يحميها، أو يلتفت إليها، وهذا تصوير بديع لما يصيب الناس من أهوال، تجعلهم لا يلتفتون إلى أعز أموالهم لديهم.
أى: وإذا النوق العشار - التى هى أغلى الأموال - عطلت، أى تركت دون أن يلتفت إليها أحد. لانشغال كل إنسان بنفسه.
وقيل: المراد بالعشار: السحب المحملة بالأمطار. أى: وإذا السحب الحاملة للأمطار قد عطلت عن نزول المطر منها، وصارت خالية من الماء الذى يحيى الأرض بعد موتها.
قال القرطبى ما ملخصه: { وَإِذَا ٱلْعِشَارُ عُطِّلَت } أى: النوق الحوامل التى فى بطونها أولادها، الواحدة عُشَراء.. وإنما خصت بالذكر، لأنها أعز ماتكون عند العرب.. وهذا على وجه المثل. لأن فى القيامة لا تكون ناقة عشراء، ولكن أراد به المثل، أن هول يوم القيامة، بحال ما لو كان للرجل ناقة عشراء لعطلها واشتغل بنفسه.
وقيل: العشار: السحاب يعطل مما يكون فيه وهو الماء فلا يمطر، والعرب تشبه السحاب بالحامل.
وقيل: الديار تعطل فلا تسكن.. والأول أشهر، وعليه من ناس الأكثر.
{ وَإِذَا ٱلْوُحُوشُ حُشِرَتْ } أى: وإذا الحيوانات المتوحشة - كالأسد والنمر وغيرهما.
{ حُشِرَتْ } أى: جمعت من أماكنها المتفرقة، وخرجت فى ذهول، وتلاقت دون أن يعتدى بعضها على بعض، مخالفة بذلك ما طبعت عليه من النفور والتقاتل.
قال الآلوسى قوله: { وَإِذَا ٱلْوُحُوشُ } جمع وحش، وهو حيوان البر الذى ليس فى طبعه التأنس ببنى آدم.. { حُشِرَتْ } أى: جمعت من كل جانب. وقيل: حشرت. أى: أميتت.. وقيل: حشرت: بعثت للقصاص، فيحشر كل شئ حتى الذباب.
أخرج مسلم والترمذى عن أبى هريرة فى هذه الآية قال:
"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لتُؤدَّنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجماء من الشاة القرناء.." .
{ وَإِذَا ٱلْبِحَارُ سُجِّرَتْ } أى: امتلأت وفاض ماؤها واختلط عذبها بملحها، وصارت بحرا واحداً، مأخوذ من قولهم: سجر الحوض، إذا ملأه حتى فاض من جانبيه.
ويصح أن يكون معنى "سجرت": أحميت بالنار حتى تبخرت مياهها، وظهرت النار فى مكانها، من قولهم: سجر فلان التنور، إذا ملأه بالحطب المعد للحرق.
{ وَإِذَا ٱلنُّفُوسُ زُوِّجَتْ } وقوله: { زُوِّجَتْ } من التزويج وهو جعل الشئ زوجا لغيره، بعد أن كان كلاهما فرداً، ويطلق الزوج - أيضاً - على الصنف والنوع، كما فى قوله - تعالى -
{ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ } أى: وإذا النفوس اقترنت كل واحدة منها ببدنها، أو بمن يشبهها، أو بعملها.
قال الفخر الرازى قوله: { وَإِذَا ٱلنُّفُوسُ زُوِّجَتْ } فيه وجوه: أحدها: قرنت الأرواح بالأجساد.
ثانيها: يصيرون فيها - أى: يوم القيامة - ثلاثة أصناف، كما قال - تعالى -
{ وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً } ثالثها: أنه يضم إلى كل صنف من كان من طبقته، فيضم الطائع إلى مثله..
ثم قال - تعالى -: { وَإِذَا ٱلْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ. بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } ولفظ "الموءودة" من الوأد، وهو دفن الطفلة الحية.
قال صاحب الكشاف وأد يئد مقلوب من آد يؤود: إذا أثقل. قال - تعالى -
{ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } لأنه إثقال بالتراب.
فإن قلت: ما حملهم على وأد البنات؟ قلت: الخوف من لحوق العار بهم من أجلهن، أو الخوف من الإِملاق.
فإن قلت: فما معنى سؤال الموءودة عن ذنبها الذى قتلت به؟ وهلا سئل الوائد عن موجب قتله لها؟ قلت: سؤالها وجوابها تبكيت لقاتلها، نحو التبكيت - لقوم عيسى - فى قوله - تعالى - لعيسى:
{ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ } أى: وإذا الموءودة سئلت، على سبيل التبكيت والتقريع لمن قتلها، بأى سبب من الأسباب قتلك قاتلك.
ولا شك أنها لم ترتكب ما يوجب قتلها، وإنما القصد من ذلك إلزام قائلها الحجة، حتى يزداد افتضاحا على افتضاحه.
وقد حكى القرآن فى كثير من الآيات، ما كان يفعله أهل الجاهلية من قتلهم للبنات، ومن ذلك قوله - تعالى -:
{ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِٱلأُنْثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ. يَتَوَارَىٰ مِنَ ٱلْقَوْمِ مِن سُوۤءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي ٱلتُّرَابِ أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } ولم يكن الوأد معمولا به عند جميع قبائل العرب، فقريش - مثلا - لم يعرف عنها ذلك وإنما عرف فى قبائل ربيعة، وكنده، وتميم. ولكنهم لما كانوا جميعا راضين عن هذا الفعل، جاء الحكم عاما فى شأن أهل الجاهلية.
وقوله - سبحانه -: { وَإِذَا ٱلصُّحُفُ نُشِرَتْ } أى: بسطت بعد أن كانت مطوية، وهى صحف الأعمال التى سجلتها الملائكة على أصحابها، سواء أكانت تلك الأعمال خيرا أم شرا، فهذه الصحائف تطوى عند الموت، وتنشر يوم القيامة، يوم الحساب والجزاء.
قال - تعالى -:
{ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً. ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } { وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ كُشِطَتْ } أى: قلعت وأزيلت، وأصل الكشط إزالة جلدة الحيوان عنه. يقال: كشطت البعير كشطا، إذا نزعت جلده منه. أى: وإذا السماء نزعت وأزيلت، فلم تبق على هيئتها التى كانت عليها، من إظلالها لما تحتها.
{ وَإِذَا ٱلْجَحِيمُ سُعِّرَتْ } أى: أوقدت إيقادا شديدا للكفار، والجحيم هى النار ذات الطبقات المتعددة من الوقود كالحطب وغيره، وتسعيرها: إيقادها بشدة.
{ وَإِذَا ٱلْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ } أى: قربت وأدنيت من المؤمنين، كما فى قوله - تعالى -:
{ وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ } من الزلفى بمعنى القرب، يقال: تزلف فلان إلى فلان، إذا تقرب منه.
وقوله: { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ } هو جواب الشرط لكل تلك الظروف السابقة. أى: إذا الشمس كورت، وإذا النجوم انكدرت تبين لكل نفس ما عملته من خير أو شر، ومن حسن أو قبيح.. ورأت ذلك رأى العين، كما قال - تعالى -:
{ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوۤءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً... } والمراد بالنفس عموم الأنفس، لأن النكرة فى سياق النفى تشمل كل نفس وأسند - سبحانه - الإِحضار إلى النفوس، لأنها هى المباشرة لأعمالها فى الدنيا، والتى ستجد جزاءها فى الآخرة.
وجعلت معرفة النفوس لجزاء أعمالها، حاصلة عند حصول مجموع الشروط التى ذكرت فى الجمل الاثنتى عشرة، لأن بعض الزمان والأحوال التى تضمنتها هذه الشروط مقارن لحصول علم النفوس بأعمالها، كما فى الستة الأخيرة، فإنها تكون عند فصل القضاء، وبعضها يحصل قبل ذلك بقليل، كما فى الأحوال الستة المذكورة أولا، إلا أنه لما كان بعض هذه الأمور من مبادئ يوم القيامة، وبعضها من روادفه، نسب علمها بذلك إلى زمان وقوع هذه الأمور كلها، تهويلا للخطب، وتفظيعا للأمر. وإشعاراً بأن ما يسبق يوم القيامة وما يعقبه، كل ذلك من الأهوال التى يشيب لها الولدان.
وبعد أن ساق - ما ساق من أحوال تدل على شدائد يوم القيامة، أتبع ذلك ببيان أن هذا القرآن من عنده - تعالى - وأن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق فيما يبلغه عن ربه، فقال:
{ فَلاَ أُقْسِمُ... }.