التفاسير

< >
عرض

فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلْخُنَّسِ
١٥
ٱلْجَوَارِ ٱلْكُنَّسِ
١٦
وَٱللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ
١٧
وَٱلصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ
١٨
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ
١٩
ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلْعَرْشِ مَكِينٍ
٢٠
مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ
٢١
وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ
٢٢
وَلَقَدْ رَآهُ بِٱلأُفُقِ ٱلْمُبِينِ
٢٣
وَمَا هُوَ عَلَى ٱلْغَيْبِ بِضَنِينٍ
٢٤
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ
٢٥
فَأيْنَ تَذْهَبُونَ
٢٦
إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ
٢٧
لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ
٢٨
وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ
٢٩
-التكوير

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والفاء فى قوله - تعالى -: { فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلْخُنَّسِ... } للتفريع على ما تقدم من تحقيق وقوع البعث، وهى تعطى - أيضاً - معنى الإِفصاح، و "لا" مزيدة لتأكيد القسم، وجواب القسم قوله - تعالى - { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ }.
و { الخنس } - بزنة رُكَّع - جمع خانس، والخنوس: الاستخفاء والاستتار، يقال: خنست الظبية والبقرة، إذا اختفت فى بيتها.
و { الجوار } جمع جارية، وهى التى تجرى بسرعة، من الجرى بمعنى الإِسراع فى السير.
و { الكنس } جمع كانس. يقال: كنس الظبى، إذا دخل كناسه - بكسر الكاف - وهو البيت الذى يتخذه للمبيت، وسمى بذلك لأنه يتخذه من أغصان الأشجار، ويكنس الرمل إليه حتى يكون مختفيا عن الأعين.
وهذه الصفات، المراد بها النجوم، لأنها بالنهار تكون مختفية عن الأنظار، ولا تظهر إلا بالليل، فشبهت بالظباء التى تختفى فى بيوتها ولا تظهر إلا فى أوقات معينة.
أى: إذا كان الأمر كما ذكرت لكم من أن البعث حق.. فأقسم بالنجوم التى تخنس بالنهار، أى: يغيب ضؤوها عن العيون بالنهار، ويظهر بالليل، والتى تجرى من مكان إلى آخر بقدرة الله - تعالى - ثم تكنس - أى: تستتر وقت غروبها - كما تتوارى الظباء فى كُنُسِها.. إن هذا القرآن لقول رسول كريم.
قال ابن كثير ما ملخصه: قوله - تعالى - { فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلْخُنَّسِ. ٱلْجَوَارِ ٱلْكُنَّسِ }: هى النجوم تخنس بالنهار، وتظهر بالليل، روى ذلك عن على بن أبى طالب وابن عباس ومجاهد.
وقال بعض الأئمة: وإنما قيل للنجوم "الخنس" أى: فى حال طلوعها، ثم هى جوار فى فلكها، وفى حال غيبوبتها، يقال لها "كنس"، من قول العرب. أوى الظبى إلى كناسه: إذا تغيب فيه.
وفى رواية عن ابن عباس: أنها الظباء، وفى أخرى أنها بقر الوحش حين تكنس إلى الظل أو إلى بيوتها.
وتوقف ابن جرير فى قوله: { بِٱلْخُنَّسِ. ٱلْجَوَارِ ٱلْكُنَّسِ } هل هى النجوم أو الظباء وبقر الوحش قال: ويحتمل أن يكون الجميع مرادا..
وقوله: { وَٱللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ. وَٱلصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ } معطوف على ما قبله. وداخل فى حيز القسم.
وقوله { عسعس } أدبر ظلامه أو أقبل، فهذا اللفظ من الألفاظ التى تستعمل فى الشئ وضده، إلا أن المناسب هنا يكون المراد به إقبال الظلام، لمقابلته بالصبح إذا تنفس، أى: أضاء وأسفر وتبلج.
وقيل: العسعسة: رقة الظلام وذلك فى طرفى النهار، فهو من المشترك المعنوى، وليس من الأضداد، أى: أقبل وأدبر معاً. أى: وحق النجوم التى تغيب بالنهار، وتجرى فى حال استتارها.. وحق الليل إذا أقبل بظلامه، والصبح إذا أقبل بضيائه.
{ إِنَّهُ } أى: القرآن الكريم { لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } وهو جبريل - عليه السلام - الذى أرسله ربه إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لكى يبلغه وحيه - تعالى -.
وأقسم الله - تعالى - بهذه الأشياء، لأنها فى حركاتها المختلفة، من ظهور وأفول، ومن إقبال وإدبار.. تدل دلالة ظاهرة على قدرة الله - تعالى -، وعلى بديع صنعه فى خلقه.
ونسب - سبحانه - القول إلى الرسول - وهو جبريل - لأنه هو الواسطة فى تبليغ الوحى إلى النبى صلى الله عليه وسلم.
ثم وصف - سبحانه - أمين وحيه جبريل بخمس صفات: أولها: قوله { كريم } أى: ملك شريف، حسن الخلق، بهى المنظر، ثانيها: { ذِي قُوَّةٍ } أى: صاحب قوة وبطش.
كما قال - تعالى -:
{ عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ... } ثالثها: { عِندَ ذِي ٱلْعَرْشِ مَكِينٍ } أى: أن من صفات جبريل - عليه السلام - أنه ذو مكانة رفيعة، ومنزلة عظيمة عند الله - تعالى -.
رابعها: قوله - تعالى - { مطاع } أى يطيعه من معه من الملائكة المقربين.
وخامسها: قوله: - سبحانه - { ثَمَّ أَمِينٍ } و "ثم" بفتح الثاء - ظرف مكان للبعيد. والعامل ما قبله أو ما بعده، والمعنى: أنه مطاع فى السموات عند ذى العرش، أو أمين فيها، أى: يؤدى ما كلفه الله - تعالى - به بدون أية زيادة أو نقص.
قال الشوكانى: ومن قال إن المراد بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم فالمعنى: أنه ذو قوة على تبليغ الرسالة إلى الأمة، مطاع يطيعه من أطاع الله، أمين على الوحى.
وقوله: { وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ }: الخطاب لأهل مكة، والمراد بصاحبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمعنى: وما محمد يا أهل مكة بمجنون، وذكره بوصف الصحبة للإِشعار بأنهم عالمون بأمره، وأنه ليس مما يرمونه من الجنون وغيره فى شئ، وأنهم افتروا عليه ذلك، عن علم منهم، بأنه أعقل الناس وأكملهم، وهذه الجملة داخلة فى جواب القسم.
فأقسم - سبحانه - بأن القرآن نزل به جبريل، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس كما يقولون من أنه مجنون، وأنه يأتى القرآن من جهة نفسه.
فالمقصود بالآية نفى الجنون عن النبى صلى الله عليه وسلم بأكمل وجه، وتوبيخ أعدائه الذين اتهموه بتهمة هم أول من يعلم - عن طريق مشاهدتهم لاستقامة تفكيره، وسمو أخلاقه - أنه أكمل الناس عقلا وأقومهم سلوكا.
وقوله - سبحانه -: { وَلَقَدْ رَآهُ بِٱلأُفُقِ ٱلْمُبِينِ } معطوف - أيضا - على قوله - تعالى - قبل ذلك: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } فهو من جملة المقسم عليه.
والمقصود بهذه الرؤية: رؤية النبى صلى الله عليه وسلم لجبريل - عليه السلام - لأول مرة، على الهيئة التى خلقه الله عليها، عندما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتعبد فى غار حراء، وكان صلى الله عليه وسلم قد سأل جبريل أن يريه نفسه، على الهيئة التى خلقه الله - تعالى - عليها.
والأفق:هو الفضاء الواسع الذى يبدو للعين ما بين السماء والأرض.
والمبين: وصف للأفق، أى: بالأفق الواضح البين، الذى لا تشتبه معه المرئيات.
والمعنى: ووالله لقد رأى صاحبكم محمد صلى الله عليه وسلم جبريل، بصورته التى خلقه الله عليها، بالأفق الواضح البين، الذى لا تلتبس فيه المرئيات، ولا مجال فيه للأوهام والتخيلات.
والمقصود من الآية الكريمة الرد على المشركين الذين كانوا إذا أخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه رأى جبريل. كذبوه واستهزءوا به، وتأكيد أن هذه الرؤية كانت حقيقة واقعة، لا مجال معها للتشكيك أو اللبس.
قال الإِمام ابن كثير: وقوله - تعالى - { وَلَقَدْ رَآهُ بِٱلأُفُقِ ٱلْمُبِينِ } يعنى: ولقد رأى محمد جبريل الذى يأتيه بالرسالة عن الله - عز وجل - وعلى الصورة التى خلقه الله عليها، له ستمائه جناح { بِٱلأُفُقِ ٱلْمُبِينِ } أى: البين، وهى الرؤية الأولى التى كانت بالبطحاء - أى بالمكان المجاور لغار حراء. وهى المذكورة فى قوله - تعالى -:
{ عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ. ذُو مِرَّةٍ فَٱسْتَوَىٰ. وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ. ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ. فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ. فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ... } والضمير فى قوله - تعالى -: { وَمَا هُوَ عَلَى ٱلْغَيْبِ بِضَنِينٍ } يعود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم المعبر عنه قبل ذلك "بصاحبكم".
والغيب: ما غاب عن مدارك الناس وحواسهم، لأن الله - تعالى - قد استأثر بعلمه.
والضنين: هو البخيل بالشئ، مأخوذ من الضن - بالكسر والفتح - بمعنى البخل.
قال الآلوسى: "وما هو" أى: رسول الله صلى الله عليه وسلم "على الغيب" أى: على ما يخبر به من الوحى إليه وغيره من الغيوب "بضنين" من الضن - بكسر الضاد وفتحها - بمعنى البخل، أى: ببخيل، أى: لا يبخل بالوحى، ولا يقصر فى التعليم والتبليغ، ومنح كل ما هو مستعد له من العلوم، على خلاف الكهنة فإنهم لا يطلعون غيرهم على ما يزعمون معرفته إلا بإعطائهم حلوانا.
وقرأ ابن كثير والكسائى وأبو عمر { بِضَنِينٍ } - بالظاء - أى: وما هو على الغيب بمتهم، من الظنة - بالكسر - بمعنى التهمة.
ثم قال: ورجحت هذه القراءة، لأنها أنسب بالمقام، لاتهام الكفرة له صلى الله عليه وسلم بذلك، ونفى التهمة، أولى من نفى البخل.
وهذا القول لا نوافق الآلوسى -رحمه الله - عليه، لأن القراءة متى ثبتت عن النبى صلى الله عليه وسلم لا يجوز التفاضل بينها وبين غيرها التى هى مثلها فى الثبوت، والقراءتان هنا سبعيتان، ومن ثم فلا ينبغى التفاضل بينهما. والمعنى عليها واضح ولا تعارض فيه.
أى: وما محمد صلى الله عليه وسلم ببخيل بتبليغ الوحى، بل هو مبلغ له على أكمل وجه وأتمه، وما هو - أيضا - بمتهم فيما يبلغه عن ربه، لأنه صلى الله عليه وسلم سيد أهل الصدق والأمانة.
وقوله - سبحانه - { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ } معطوف - أيضا - على قوله - تعالى - { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } والضمير هنا يعود على القرآن الكريم.
أى: وليس هذا القرآن الكريم، المنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بقول شيطان مرجوم مسترق للسمع.. وإنما هو كلام الله - تعالى - الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وهذا رد آخر على المشركين الذين زعموا أن القرآن الكريم إنما هو من باب الكهانة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو كاهن، تلقنه الشياطين هذا القرآن.
وقوله - سبحانه -: { فَأيْنَ تَذْهَبُونَ } جملة معترضة بين ما سبقها، وبين قوله - تعالى - بعد ذلك { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ }، والمقصود فيها توبيخهم وتعجيزهم عن أن يأتوا ولو بحجة واحدة يدافعون بها عن أنفسهم.
والفاء لتفريع هذا التعجيز والتوبيخ، على الحجج السابقة، المثبتة بأن هذا القرآن من عند الله - تعالى - وليس من عند غيره.
و { أين } اسم استفهام عن المكان، والاستفهام هنا للتعجيز والتقريع، وهو منصوب بقوله: { تذهبون }.
أى: إذا كان الأمر كما ذكرنا لكم، فأى طريق تسلكون أوضح وأبين من هذا الطريق الذى أرشدناكم إليه؟ إنه لا طريق لكم سوى هذا الطريق الذى أرشدناكم إليه.
قال صاحب الكشاف: قوله { فَأيْنَ تَذْهَبُونَ } استضلال لهم، كما يقال لتارك الجادة اعتسافا أو ذهابا فى بنيات الطريق - أى: فى الطريق المتشعبة عن الطريق الأصلى - أين تذهب؟ مثلت حالهم فى تركهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل.
{ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } أى: ما هذا القرآن الكريم، إلا تذكير وإرشاد وهدايات للبشر جميعا.
وهذا الذكر العظيم إنما هو { لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ } أى: هو نافع لمن شاء منكم - أيها الناس - أن يستقيم على طريق الحق، وأن يلزم الرشاد ويترك الضلال.
والجملة الكريمة بدل مما قبلها، للإِشعار بأن الذين استجابوا لهدى القرآن قد شاءوا لأنفسهم الهداية والاستقامة.
فالمقصود بهذه الجملة: الثناء عليهم، والتنويه بشأنهم.
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة، ببيان أن مشيئته - تعالى - هى النافذة، فقال: { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ }.
أى: وما تشاءون الاستقامة أو غيرها، إلا إذا شاءها وأرادها الله - تعالى - رب العالمين، إذ مشيئة الله - تعالى - هى النافذة، أما مشيئتكم فلا وزن لها إلا إذا أذنت بها مشيئته - تعالى -.
فالمقصود من الآية الكريمة بيان أن كل مشيئة لا قيمة لها ولا وزن.. إلا إذا أيدتها مشيئة الله - عز وجل -.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.