التفاسير

< >
عرض

وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْبُرُوجِ
١
وَٱلْيَوْمِ ٱلْمَوْعُودِ
٢
وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ
٣
قُتِلَ أَصْحَابُ ٱلأُخْدُودِ
٤
ٱلنَّارِ ذَاتِ ٱلْوَقُودِ
٥
إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ
٦
وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ
٧
وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ
٨
ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
٩
إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ ٱلْحَرِيقِ
١٠
إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ ذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْكَبِيرُ
١١
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ
١٢
إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ
١٣
وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلْوَدُودُ
١٤
ذُو ٱلْعَرْشِ ٱلْمَجِيدُ
١٥
فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ
١٦
هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ ٱلْجُنُودِ
١٧
فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ
١٨
بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي تَكْذِيبٍ
١٩
وَٱللَّهُ مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ
٢٠
بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ
٢١
فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ
٢٢
-البروج

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والبروج: جمع برج. وهى فى اللغة: القصور العالية الشامخة، ويدل لذلك قوله - تعالى - { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } أى: ولو كنتم فى قصور عظيمة محصنة.
والمراد بها هنا: المنازل الخاصة بالكواكب السيارة، ومداراتها الفلكية الهائلة، وهى اثنا عشر منزلا: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدى، والدلو، والحوت.
وسميت بالبروج، لأنها بالنسبة لهذه الكواكب كالمنازل لساكنيها.
قال القرطبى: قوله: { وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْبُرُوجِ }: قسم أقسم الله - عز وجل - به. وفى البروج أربعة أقوال: أحدها: ذات النجوم. الثانى: ذات القصور.. الثالث: ذات الخَلْق الحسن. الرابع: ذات المنازل.. وهى اثنا عشر منزلا..
وقوله: { وَٱلْيَوْمِ ٱلْمَوْعُودِ } المقصود به: يوم القيامة، لأن الله - تعالى - وعد الخلق به، ليجازى فيه الذين أساءوا بما عملوا، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى.
وقوله: { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } قسم ثالث ببعض مخلوقاته - تعالى -. والشاهد اسم فاعل من المشاهدة بمعنى الرؤية، فالشاهد هو الرائى، أو المخبر غيره عما رآه وشاهده.
والمشهود: اسم مفعول، وهو هنا الشىء المرئى، أو المشهود عليه بأنه حق.
فالمراد بالشاهد: من يحضر ذلك اليوم من الخلائق المبعوثين، وما يراه فيه من عجائب وأهوال، من المشاهدة بمعنى الرؤية والحضور، أو من يشهد فى ذلك اليوم على غيره، من الشهادة على الخصم.
وقد ذكر المفسرون فى معنى هذين اللفظين، ما يقرب من عشرين وجها.
قال صاحب الكشاف وقوله: { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } يعنى: وشاهد فى ذلك اليوم ومشهود فيه. والمراد بالشاهد: من يشهد فيه من الخلائق كلهم. وبالمشهود: ما فى ذلك اليوم من عجائبه. ثم قال: وقد اضطربت أقوال المفسرين فيما، فقيل: الشاهد والمشهود: محمد صلى الله عليه وسلم ويوم القيامة. وقيل: عيسى وأمته. وقيل: أمة محمد صلى الله عليه وسلم وسائر الأمم. وقيل: يوم التروية ويوم عرفة. وقيل: يوم عرفة ويوم الجمعة. وقيل: الحجر الأسود. والحجيج. وقيل: الأيام والليالى. وقيل: الحفظة وبنو آدم..
ويبدو لنا أن أقرب الأقوال والصواب: أن المراد بالشاهد هنا: الحاضر فى ذلك اليوم العظيم وهو يوم القيامة، والرائى لأهواله وعجائبه.
وأن المراد بالمشهود: ما يشاهد فى ذلك اليوم من أحوال يشيب لها الولدان.
وقال - سبحانه - { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } بالتنكير، لتهويل أمرهما، وتفخيم شأنهما.
وقوله - تعالى - { قُتِلَ أَصْحَابُ ٱلأُخْدُودِ } جواب القسم بتقدير اللام وقد.
أى: وحق السماء ذات البروج، وحق اليوم الموعود، وحق الشاهد والمشهود، لقد قتل ولعن أصحاب الأخدود، وطردوا من رحمة الله بسبب كفرهم وبغيهم.
والأخدود: وهو الحفرة العظيمة المستطيلة فى الأرض، كالخندق، وجمعه أخاديد، ومنه الخد لمجارى الدمع، والمخدة: لأن الخد يوضع عليها.
ويقال: تخدد وجه الرجل، إذا صارت فيه التجاعيد.. ومنه قول الشاعر:

ووجه كأن الشمس ألقت رداءهاعليه، نقى اللون لم يتخدد

وقيل: إن جواب القسم محذوف، دل عليه قوله - تعالى -: { قُتِلَ أَصْحَابُ ٱلأُخْدُودِ } كأنه قيل: أقسم بهذه الأشياء إن كفار مكة لملعونون كما لعن أصحاب الأخدود.
وأصحاب الأخدود: هم قوم من الكفار السابقين، حفروا حفرا مستطيلة فى الأرض، ثم أضرموها بالنار، ثم ألقوا فيها المؤمنين، الذين خالفوهم فى كفرهم، وأبوا إلا إخلاص العبادة لله - تعالى - وحده.
وقوله - سبحانه -: { ٱلنَّارِ ذَاتِ ٱلْوَقُودِ } بدل اشتمال مما قبله وهو الأخدود.
والوقود: اسم لما توقد به النار كالحطب ونحوه. وذات الوقود: صفة للنار.
أى: قتل وطرد من رحمة الله أصحاب الأخدود، الذين أشعلوا فيه النيران ذات اللهب الشديد، لكى يلقوا المؤمنين فيها.
والظرف فى قوله - تعالى - { إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ } متعلق بقوله - تعالى - :{ قتل }. أى: لعنوا وطردوا من رحمة الله، حين قعدوا على الأخدود، ليشرفوا على من يعذبونهم من المؤمنين.
فالضمير "هم" يعود على أولئك الطغاة الذين كانوا يعذبون المؤمنين ويجلسون على حافات الأخدود ليروهم وهم يحرقون بالنار، أو ليأمروا أتباعهم وزبانيتهم بالجد فى التعذيب حتى لا يتهاونوا فى ذلك.
و { على } للاستعلاء المجازى: إذ من المعلوم أنهم لا يقعدون فوق النار، وإنما هم يقعدون حولها، لإِلقاء المؤمنين فيها.
وجملة { وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ } فى موضع الحال من الضمير فى قوله: { إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ }. أى: أن هؤلاء الطغاة الظالمين، لم يكتفوا بإشعال النار، والقعود حولها وهم يعذبون المؤمنين، بل أضافوا إلى ذلك، أنهم يشهدون تعذيبهم، ويرونه بأعينهم على سبيل التشفى منهم، فقوله { شهود } بمعنى حضور، أو بمعنى يشهد بعضهم لبعض أمام ملكهم الظالم، بأنهم ما قصروا فى تعذيب المؤمنين، وهذا الفعل منهم. يدل على نهاية القسوة والظلم، وعلى خلو قلوبهم من أى رحمة أو شفقة.
قال الآلوسى: وقوله: { وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ } أى: يشهد بعضهم لبعض عند الملك، بأن أحدا لم يقصر فيما أمر به، أو يشهدون عنده على حسن ما يفعلون.. أو يشهد بعضهم على بعض بذلك الفعل الشنيع يوم القيامة، أو يشهدون على أنفسهم بذلك، كما قال - تعالى - :
{ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
وقيل: "على" بمعنى مع. أى: وهم مع ما يفعلون بالمؤمنين من العذاب حضور، لا يرقون لهم، لغاية قسوة قلوبهم..
ثم بين - سبحانه - الأسباب التى حملت هؤلاء الطغاة على إحراق المؤمنين فقال: { وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ. ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }.
والنقمة هنا بمعنى الإِنكار والكراهية. يقال: نقَم فلان هذا الشئ، - من باب ضرب - إذا كرهه وأنكره.
أى: أن هؤلاء الكافرين ما كرهوا المؤمنين، وما أنزلوا بهم ما أنزلوا من عذاب، إلا لشئ واحد، وهو أن المؤمنين أخلصوا عبادتهم لله - تعالى - صاحب العزة التامة، والحمد المطلق، والذى له ملك جميع ما فى السموات والأرض، وهو - سبحانه - على كل شئ شهيد ورقيب، لا يخفى عليه أمر من أمور عباده، أو حال من أحوالهم.
فالمقصود من هاتين الآيتين الكريمتين، التعجيب من حال هؤلاء المجرمين، حيث عذبوا المؤمنين، لا لشئ إلا من أجل إيمانهم بخالقهم، وكأن الإِيمان فى نظرهم جريمة تستحق الإِحراق بالنار.
وهكذا النفوس عندما يستحوذ عليها الشيطان، تتحول الحسنات فى نظرها إلى سيئات، وقديما قال المنكوسون من قوم لوط - عليه السلام -
{ أَخْرِجُوۤاْ آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } والاستثناء فى قوله: { إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ... } استثناء مفصح عن براءة المؤمنين مما يعاب وينكر، فهو من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم كما فى قول القائل:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهمبهن فلول من قراع الكتائب

وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -: { قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } قال الإِمام ابن كثير: وقد اختلفوا فى أهل هذه القصة من هم؟ فعن على ابن أبى طالب: أنهم أهل فارس حين أراد ملكهم تحليل زواج المحارم، فامتنع عليه علماؤهم، فعمد إلى حفر أخدود، فقذف فيه من أنكر عليه منهم.
وعنه أنهم كانوا قوما من اليمن، اقتتل مؤمنوهم ومشركوهم، فتغلب مؤمنوهم على كفارهم، ثم اقتتلوا فغلب الكفار المؤمنين، فخدوا لهم الأخاديد، وأحرقوهم فيها.
ثم ذكر -رحمه الله - بعد ذلك جملة من الآثار فى هذا المعنى فارجع إليها إن شئت.
وعلى أية حال فالمقصود بهذه الآيات الكريمة، تثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الإِيمان، وتسليتهم عما أصابهم من أعدائهم، وإعلامهم بأن ما نزل بهم من أذى، قد نزل ما هو أكبر منه بالمؤمنين السابقين، فعليهم أن يصبروا كما صبر أسلافهم، وقد اقتضت سنته - تعالى - أن يجعل العاقبة للمتقين.
ثم هدد - سبحانه - كفار قريش بسوء المصير، إذا ما استمروا فى إيذائهم للمؤمنين، فقال - تعالى -: { إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ ٱلْحَرِيقِ }.
وقوله: { فتنوا } من الفتن، بمعنى الاختبار والامتحان. تقول: فتنت الذهب بالنار، أى: أدخلته فى النار لتعلم جودته من رداءته، والمراد به هنا: التعذيب والتحريق بالنار.
أى: إن الظالمين الذين عذبوا المؤمنين والمؤمنات، وأحرقوهم بالنار ثم لم يتوبوا إلى الله - تعالى - من ذنوبهم، ويرجعوا عن تعذيبهم للمؤمنين والمؤمنات، فلهم فى الآخرة عذاب جهنم، بسبب إصرارهم على كفرهم وعدوانهم، ولهم نار أخرى زائدة على غيرها فى الإِحراق.
والمراد بالذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات: كفار قريش، كأبى جهل وأمية ابن خلف. وغيرهما، فقد عذبوا بلالا، وعمار بن ياسر، وأباه وأمه سمية.
ويؤيد أن المراد بالذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات كفار قريش، قوله - تعالى -: { ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ } لأن هذه الجملة تحريض على التوبة، وترغيب فيها للكافرين المعاصرين للنبى صلى الله عليه وسلم.
ويصح أن يراد بهم جميع من عذبوا المؤمنين والمؤمنات، ويدخل فيه أصحاب الأخدود، وكفار قريش دخولا أوليا.
وجمع - سبحانه - بين عذاب جهنم لهم، وبين عذاب الحريق، لبيان أن العذاب لهم مضاعف، بسبب طغيانهم وشركهم.
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ما أعده للمؤمنين والمؤمنات من ثواب وعطاه كريم فقال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ } الأعمال { ٱلصَّالِحَاتِ لَهُمْ } أى: عند ربهم { جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } أى تجرى من تحت أشجارها وبساتينها الأنهار { ذَلِكَ } العطاء هو { ٱلْفَوْزُ ٱلْكَبِيرُ } الذى لا فوز يضارعه أو يقاربه.
ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك، ما يدل على نفاذ قدرته ومشيئته، حتى يزداد المؤمنون ثباتا على ثباتهم، وصبرا على صبرهم فقال: { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ }.
والبطش: هو الأخذ بقوة وسرعة وعنف. أى: إن بطش ربك - أيها الرسول الكريم - بالظالمين والطغاة لبالغ نهاية القوة والعنف: فمر أصحابك فليصبروا على الأذى، فإن العاقبة الحسنة ستكون لهم وحدهم.
{ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ } أى: إنه وحده هو الذى يخلق الخلق أولا فى الدنيا، ثم يعيدهم إلى الحياة بعد موتهم للحساب والجزاء، وهو - سبحانه - وحده الذى يبدئ البطش بالكفار فى الدنيا ثم يعيده عليهم فى الآخرة بصورة أشد وأبقى.
وحذف - سبحانه - المفعول فى الفعلين، لقصد العموم، ليشمل كل ما من شأنه أن يبدأ وأن يعاد من الخلق أو من العذاب أو من غيرهما.
{ وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلْوَدُودُ } أى: وهو - سبحانه - الواسع المغفرة لمن تاب وآمن، وهو الكثير المحبة والود لمن أطاعه واتبع هداه.
{ ذُو ٱلْعَرْشِ ٱلْمَجِيدُ } أى: وهو - عز وجل - صاحب العرش العظيم، الذى لا يعرف كنهه إلا هو - سبحانه -، وهو { المجيد } أى: العظيم فى ذاته وصفاته.
{ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } أى: وهو - تعالى - الذى يفعل كل شئ يريده. دون أن يعترض عليه أحد، بل فعله هو النافذ، وأمره هو السارى والمطاع.
وجاءت كلمة "فعال" بصيغة المبالغة، للدلالة على أن ما يريده ويفعله - مع كثرته - هو فى غاية النفاذ والسرعة، كما قال - تعالى -:
{ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } فهذه الصفة من الصفات الجامعة لعظمته الذاتية، وعظمة نعمه ومننه وعطاياه.
ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك، ما يدل على شدة بطشه، ونفاذ أمره فقال: { هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ ٱلْجُنُودِ. فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ }.
والاستفهام هنا: للتقرير والتهويل. والمراد بالجنود: الجموع الكثيرة التى عتت عن أمر ربها، فأخذها - سبحانه - أخذ عزيز مقتدر، وقوله: { فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ } بدل من الجنود.
والمراد بفرعون وثمود: ملؤهما وقومهما الذين آثروا الغى على الرشد، والضلالة على الهداية، والباطل على الحق. أى: لقد بلغك - أيها الرسول الكريم - حديث فرعون الذى طغى وبغى، واتبعه قومه فى طغيانه وبغيه، وحديث قوم صالح - عليه السلام - وهم الذين كذبوا نبيهم. وآذوه، وعقروا الناقة التى نهاهم عن أن يمسوها بسوء.
وكيف أنه - سبحانه - قد دمر الجميع تدميرا شديدا، جزاء كفرهم وبغيهم.
وخص - سبحانه - جند فرعون وثمود بالذكر، لأنهم كانوا أشد من غيرهم بغيا وظلما، ولأنهم كانت قصصهم معروفة لأهل مكة أكثر من غيرهم.
وقوله - سبحانه - :{ بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي تَكْذِيبٍ. وَٱللَّهُ مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ } إضراب انتقالى، المقصود منه بيان أن هؤلاء المشركين المعاصرين للنبى صلى الله عليه وسلم لم يتعظوا بمن سبقهم.
أى: لقد كانت عاقبة جنود فرعون وثمود، الهلاك والدمار، بسبب إصرارهم على كفرهم، ولكن قومك - أيها الرسول - لم يعتبروا بهم، بل استمروا فى تكذيبهم لك، وفى إعراضهم عنك.. واعلم أن الله - تعالى - محيط بهم إحاطة تامة، ولن يفلتوا من عقابه بأية حيلة من الحيل، فهم تحت قبضته وسلطانه، وسينزل بهم بأسه فى الوقت الذى يريده.
وقوله - سبحانه - : { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } إضراب انتقالى آخر، من بيان شدة تكذيبهم للحق، إلى بيان القرآن الكريم هو كتاب الله الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
أى: ليس الأمر كما قال هؤلاء المشركون فى القرآن من أنه أساطير الأولين.. بل الحق أن هذا القرآن هو كلام الله - تعالى - البالغ النهاية فى الشرف والرفعة والعظمة.
وأنه كائن فى لوح محفوظ من التغيير والتبديل، ومن وصول الشياطين إليه. ونحن نؤمن بأن القرآن الكريم كائن فى لوح محفوظ، إلا أننا نفوض معرفة حقيقة هذا اللوح وكيفيته إلى علمه - تعالى -، لأنه من أمر الغيب الذى تفرد الله - تعالى - بعلمه.. وما قيل فى وصف هذا اللوح لم يرد به حديث صحيح يعتمد عليه.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.