التفاسير

< >
عرض

وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ مُنَٰفِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ
١٠١
وَآخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٠٢
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَٰوتَك سَكَنٌ لَّهُمْ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
١٠٣
أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ ٱلصَّدَقَاتِ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ
١٠٤
وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
١٠٥
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ ٱللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
١٠٦
-التوبة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال القرطبى: ومعنى { مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ } أقاموا عليه ولم يتوبوا منه، أو لجوا فيه وأبوا غيره وأصل الكلمة من اللين والملاسة والتجرد، فكأنهم تجردوا للنفاق، ومنه رملة مرداء أى لانبت فيها، وغصن أمرد. أى: لا ورق له.. ويقال: مرد يمرد مروداً ومرادة.
والمعنى: اذكروا أيها المؤمنون أن يسكن من حول مدينتكم قوم من الأعراب منافقون، فاحترسوا منهم، واحترسوا - أيضا - من قوم آخرين يسكنون معكم داخل المدينة، مردوا على النفاق، أى: مرنوا عليه، وأجادوا فنونه، حتى بلغوا فيه الغاية.
قال الآلوسى ما ملخصه: والمراد بالموصول. فى قوله { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ }. قبائل: جهينة، ومزينة وأشجع، وأسلم.. وكانت منازلهم حول المدينة وإلى هذا ذهب جماعة من المفسرين.
واستشكل ذلك بأن النبى - صلى الله عليه وسلم - مدح بعض هذه القبائل ودعا لبعضها فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة أنه قال: "قريش، والأنصار، وجهينة، ومزينة، وأشجع وأسلم، وغفار، موالى الله - تعالى - ورسوله لا والى لهم غيره".
وأجيب ذلك باعتبار الأغلب منهم.
وقوله: { لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } بيان لتمردهم فى النفاق وتمهرهم فيه.
أى: أنت أيها الرسول الكريم. لا تعرف هؤلاء المنافقين. مع كمال فطنتك، وصدق فراستك لأنك تعامل الناس بظواهرهم، وهم قد أجادوا النفاق وحذقوه، واجتهدوا فى الظهور بمظهر المؤمنين، أما نحن فإننا نعلمهم لأننا لا يخفى علينا شئ من ظواهرهم أو بواطنهم..".
قال الإِمام ابن كثير: وقوله تعالى { لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } لا ينافى قوله تعالى
{ { وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ ٱلْقَوْلِ... } لأن هذا من باب التوسم فيهم بصفات يعرفون بها لا أنه يعرف جميع من عنده من أهل النفاق والريب على التعيين، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يعلم أن فى بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقا، وإن كان يراه صباحا ومساء.
وشاهد هذا بالصحة
"ما رواه الإِمام أحمد بن جبير بن مطعم قال: قلت: يا رسول الله، إنهم يزعمون أنه ليس لنا أجر بمكة، فقال: لتأتينكم أجوركم ولو كنتم فى جحر ثعلب وأصغى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برأسه فقال: إن فى أصحابى منافقين" : ومعناه أنه قد يبوح بعض المنافقين والمرجفين بما لا صحة له من الكلام، ومن مثلهم صدر هذا الكلام الذى سمعه جبير بن مطعم.
ثم قال: وقد تقدم فى تفسير قوله - تعالى -
{ { وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ } أنه - صلى الله عليه وسلم - أعلم حذيفة بأعيان أربعة عشر أو خمسة عشر منافقا. وهذا تخصيص لا يقتضى أنه اطلع على أسمائهم وأعيانهم كلهم.
وروى الحافظ بن عساكر
"عن أبى الدرداء، أن رجلا يقال له حرملة أتى النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال: الإِيمان ها هنا وأشار بيده إلى لسانه، والنفاق ها هنا وأشار بيده إلى قلبه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللهم اجعل له لسانا ذاكرا. وقلبا شاكرا، وارزقه حبى، وحب من يحبنى، وصير أمره إلى خير.
فقال الرجل يا رسول الله: إنه كان لى أصحاب من المنافقين وكنت رأسا فيهم، أفلا آتيك بهم؟ فقال: - صلى الله عليه وسلم -: ومن أتانا استغفرنا له، ومن أصر فالله أولى به، ولا تخرقن على أحد سترا"
.
وقال الآلوسى. واستدل بالآية على أنه لا ينبغى الإِقدام على دعوى معرفة الأمور الخفية من أعمال القلب ونحوها، فقد أخرج عبد الرازق وابن المنذر وغيرهما عن قتادة: أنه قال: ما بال أقوام يتكلفون على الناس يقولون: فلان فى الجنة وفلان فى النار، فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال: لا أدرى. لعمرى لأنت بنفسك أعلم منك بأعمال الناس، ولقد تكلفت شيئا ما تكلفه نبى. فقد قال نوح عليه السلام "وما علمى بما كانوا يعملون" وقال شعيب عليه السلام "وما أنا عليكم بحفيظ". وقال الله تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - { لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ }.
وهذه الآيات ونحوها أقوى دليل على الرد على من يزعم الكشف والاطلاع على المغيبات بمجرد صفاء القلب، وتجرد النفس عن الشواغل.
ثم قال: والجملة الكريمة { لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } تقرير لما سبق من مهارتهم فى النفاق، أى: لا يقف على سرائرهم المذكورة فيهم، إلا من لا تخفى عليه خافية، لما هم عليه من شدة الاهتمام بإبطان الكفر وإظهار الإخلاص.
وقوله: { سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ } وعيد لهم بسوء المصير فى الدنيا والآخرة.
أى: هؤلاء المنافقون الذين مردوا على النفاق، سنعذبهم فى الدنيا مرتين، مرة عن طريق فضحيتهم وهتك أستارهم وجعلهم يعيشون فى قلق وهم دائم، والأخرى عن طريق ضرب الملائكة لوجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم وما يتبع ذلك من عذابهم فى قبورهم إلى أن تقوم الساعة، فيجدون العذاب الأكبر الذى عبر عنه - سبحانه - بقوله { ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ }.
أى: ثم يعودن ويرجعون إلى خالقهم - سبحانه - يوم القيامة فيعذبهم عذابا عظيما بسبب إصرارهم على النفاق، ورسوخهم فى المكر والخداع.
قال أبو السعود: ولعل تكرير عذابهم، لما فيهم من الكفر المشفوع بالنفاق، أو النفاق المؤكد بالتمرد فيه. ويجوز أن يكون المراد بالمرتين مجرد التكثير، كما فى قوله تعالى
{ { فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ } أى: كرة بعد أخرى.
ثم بين - سبحانه - حال طائفة أخرى من المسلمين فقال: { وَآخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً }..
قال الآلوسى: قوله: وآخرون اعترفوا بذنوبهم.. بيان لحال طائفة من المسلمين ضعيفة الهمم فى أمر الدين، ولم يكونوا منافقين على الصحيح. وقيل هم طائفة من المنافقين إلا أنهم وفقوا للتوبة فتاب الله عليهم.
والمعنى: ويوجد معكم أيها المؤمنون قوم آخرون من صفاتهم أنهم اعترفوا بذنوبهم أى أقروا بها ولم ينكروها.
وقوله: { خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً } أى خلطوا عملهم الصالح وهو جهادهم فى سبيل الله قبل غزوة تبوك، بعمل سئ وهو تخلفهم عن الخروج إلى هذه الغزوة.
وقوله: { عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } أى عسى الله تعالى: أن يقبل توبتهم، ويغسل، حوبتهم، ويتجاوز عن خطاياهم.
وعبر - سبحانه - بعسى للإِشعار بأن ما يفعله تعالى ليس إلا على سبيل التفضل منه، حتى لا يتكل الشخص، بل يكون على خوف وحذر.
وقد قالوا إن كلمة عسى متى صدرت عن الله تعالى - فهى متحققة الوقوع، لأنها صادرة من كريم، والله تعالى أكرم من أن يطمع أحداً فى شئ لا يعطيه إياه. وقوله: إن الله غفور رحيم، تعليل لرجاء قبول توبتهم، إذ معناه، إن الله تعالى كثير المغفرة للتائبين، واسع الرحمة للمحسنين.
هذا، وقد ذكر المفسرون هنا روايات متعددة فى سبب نزول هذه الآية ولعل أرجح هذه الروايات ما رواه ابن جرير من
"أن هذه الآية نزلت فى أبى لبابة وأصحابه، وكانوا تخلفوا عن النبى - صلى الله عليه وسلم - فى غزوة تبوك، فلما قفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوته، وكان قريبا من المدينة ندموا على تخلفهم عن رسول الله وقالوا: نكون فى الضلال والأطعمة والنساء ونبى الله فى الجهاد واللأواء. والله لنوثقن أنفسنا بالسوارى، ثم لا نطلقها حتى يكون نبى الله هو الذى يطلقنا.
وأوثقوا أنفسهم. وبقى ثلاثة لم يوثقوا أنفسهم بالسوارى فقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوته فمر بالمسجد فأبصرهم فسأل عنهم، فقيل: له: إنه أبو لبابة وأصحابه تخلفوا عنك يا نبى الله، فصنعوا بأنفسهم ما ترى، وعاهدوا الله ألا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذى تطلقهم.
فقال - صلى الله عليه وسلم -: لا أطلقهم حتى أؤمر بإطلاقهم، ولا أعذرهم حتى يعذرهم الله، قد رغبوا بأنفسهم عن غزوة المسلمين، فأنزل الله تعالى: { وَآخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً.. }"
الآية، فأطلقهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعذرهم.
ثم أمر الله تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ الصدقات من هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم ومن غيرهم، فقال: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا }.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال:
"لما أطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا لبابة وأصحابه جاءوا بأموالهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا له يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا، واستغفر لنا، فقال ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا" .
فأنزل الله تعالى { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً... } الآية.
وقال الإِمام ابن كثير: أمر الله تعالى - رسوله أن يأخذ من أموالهم صدقة يطهرهم ويزكيهم بها. وهذا عام وإن أعاد بعضهم الضمير فى أموالهم إلى الذين اعترفوا بذنوبهم.
ولهذا اعتقد بعض مانعى الزكاة من أحياء العرب أن دفع الزكاة إلى الإِمام لا يكون، وإنما كان هذا خاصا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ولهذا احتجوا بقوله: - تعالى -: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً.... } الآية.
وقد رد عليهم هذا التأويل والفهم الفاسد أبو بكر الصديق وسائر الصحابة، وقاتلوهم حتى أدوا الزكاة الى الخليفة كما كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قال الصديق: "الله لومنعونى عناقا كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه".
والمعنى: خذ - أيها الرسول الكريم - من أموال هؤلاء المعترفين بذنوبهم، ومن غيرهم من أصحابك "صدقة" معينة، كالزكاة المفروضة، أو غير معينة كصدقة التطوع.
وقوله: { تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } بيان للفوائد المترتبة على هذه الصدقة.
أى: من فوائد هذه الصدقة أنها تطهر النفوس من رذائل الشح والبخل والطمع.. وتزكى القلوب من الأخلاق الذميمة، وتنمى الأموال والحسنات قال بعضهم: قوله: "تطهرهم" قرئ مجزوما على أنه جواب للأمر. وقرئ. مرفوعا على أنه حال من ضمير المخاطب فى قوله: "خذ" أو صفة لقوله "صدقة" والعائد على الأول محذوف ثقة بما بعده أى: تطهرهم بها..
وقوله: "وتزكيهم" لم يقرأ إلا بإثبات الياء، على أنه خبر لمبتدأ محذوف، والجملة حال من الضمير فى الأمر أو فى جوابه. أى: وأنت تزكيهم بها.
هذا على قراءة الجزم فى "تطهرهم"، وأما على قراءة الرفع فيكون قوله "وتزكيهم بها" معطوف على قوله "تطهرهم" حالا أو صفة.
وقوله: وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم أى: وادع لهم بالرحمة والمغفرة، وقبول التوبة، فإن دعاءك لهم تسكن معه نفوسهم، وتطمئن به قلوبهم، ويجعلهم فى ثقة من أن الله - تعالى - قد قبل توبتهم، فأنت رسوله الأمين، ونبيه الكريم.
فالمراد بالصلاة هنا: الدعاء لهم بالرحمة والمغفرة.
قال بعضهم: "وظاهر" قوله: "وصل عليهم" أنه يجب على الإِمام أو نائبه إذا أخذ الزكاة أن يدعو للمتصدق. وبهذا أخذ داود وأهل الظاهر.
وأما سائر الفقهاء فقد حملوا الأمر هنا على الندب والاستحباب،
"لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ: أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقراءهم" ولم يأمره بالدعاء..
أما صيغة الدعاء فلم يرد فيها تعيين إلا ما رواه الستة - غير الترمذى من قوله - صلى الله عليه وسلم -
"اللهم صل على آل أبى أوفى" - عندما أخذ منهم الزكاة -.
ومن هنا قال الحنابلة وداود وأهل الظاهر لا مانع من أن يقول آخذ الزكاة: اللهم صلى على آل فلان.
وقال باقى الأئمة لا يجوز أن يقال: اللهم صل على آل فلان، وإن ورد فى الحديث، لأن الصلاة صارت مخصوصة فى لسان السلف بالانبياء - صلوات الله عليهم -، كما أن قولنا: - عز وجل - صار مخصوصا بالله - تعالى -.
قالوا: وإنما أحدث الصلاة على غير الأنبياء مبتدعو الرافضة فى بعض الأئمة، والتشبه بأهل البدع منهى عنه.
ولا خلاف فى أنه يجوز أن يجعل غير الأنبياء تبعا لهم فيقال: اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته.. لأن السلف استعملوا ذلك، وأمرنا به فى التشهد، ولأن الصلاة على التابع تعظيم للمتبوع..
وقوله: { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أى: سميع لاعترافهم بذنوبهم وسميع لدعائك سماع قبول وإجابة، وعليم بندمهم وتوبتهم، وبكل شئ فى هذا الكون، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب.
ثم حرضهم - سبحانه - على التوبة النصوح، وحثهم على بذل الصدقات فقال: { أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ ٱلصَّدَقَاتِ... }.
أى: ألم يعلم هؤلاء التائبون من ذنوبهم، أن الله - تعالى - وحده، هو الذى يقبل التوبة الصادقة من عباده المخلصين، وأنه - سبحانه - هو الذى "يأخذ الصدقات".
أى: يتقبلها من أصحابها قبول من يأخذ شيئا ليؤدى بدله: فالتعبير بالأخذ للترغيب فى بذل الصدقات، ودفعها للفقراء. والاستفهام للتقرير والتحضيض على تجديد التوبة وبذل الصدقة.
وقوله: { وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } تذييل قصد به تقرير ما قبله وتأكيده.
أى: وأن الله وحده هو الذى يقبل توبة عباده المرة بعد الأخرى، وأنه هو الواسع الرحمة بهم، الكثير المغفرة لهم:
قال ابن كثير: قوله: { أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ ٱلصَّدَقَاتِ.. } هذا تهييج إلى التوبة والصدقة اللتين كل منهما يحط الذنوب ويمحقها، وأخبر - تعالى - أن كل من تاب إليه تاب عليه، ومن تصدق بصدقة من كسب حلال فإن الله يتقبلها بيمينه، فيربيها لصاحبها حتى تصير الثمرة مثل أحد، كل جاء بذلك الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فعن أبى هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربى أحدكم مهره، حتى إن اللقمة لتكون مثل أحد" وتصديق ذلك فى كتاب الله قوله: { أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ ٱلصَّدَقَاتِ }. وقوله: { { يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلْرِّبَا وَيُرْبِي ٱلصَّدَقَاتِ } }. وعن عبد الله بن مسعود قال: إن الصدقة تقع فى يد الله - تعالى - قبل أن تقع فى يد السائل، ثم قرأ هذه الآية. { أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ ٱلصَّدَقَاتِ... }.
ثم أمر - سبحانه - بالتزود من العمل الصالح، وحذر من الوقوع فى العمل السئ، فقال - تعالى -: { وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ }.
أى: وقل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء التائبين وغيرهم، قل لهم: اعملوا ما تشاءون من الأعمال، فإن الله مطلع عليها، وسيطلع رسوله والمؤمنون عليها كذلك.
وخص - سبحانه - رسوله والمؤمنين بالذكر، لأنهم هم الذين يهتم المخاطبون باطلاعهم.
قال الآلوسى ما ملخصه: وقوله: { فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ... } تعليل لما قبله، أو تأكيد لما يستفاد منه من الترغييب والترهيب، والسين للتأكيد.. والمراد من رؤية الله العمل - عند جمع - الاطلاع عليه، وعلمه علما جليا، ونسبة ذلك للرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، باعتبار ان الله - تعالى - لا يخفى ذلك عنهم، بل يطلعهم عليه....".
وقوله: { وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } بيان لما سيكون عليه حالهم فى الآخرة.
أى: وسترجعون بعد موتكم إلى الله - تعالى - الذى لا يخفى عليه شئ، فينبئكم بما كنتم تعملونه فى الدنيا من خير أو شر، وسيجازيكم بما تستحقونه من ثواب أو عقاب.
ثم بين - سبحانه - حال قسم آخر من أقسام المتخلفين عن غزوة تبوك، فقال - تعالى -: { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ ٱللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ.. }.
قال الجمل: قوله: { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ.. } قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عمر وأبو بكر عن عاصم "مرجأون" بهمزة مضمومة بعدها واو ساكنة. وقرأ الباقون "مرجون" دون تلك الهمزة.. وهما لغتان، يقال أرجأته وأرجيته.."
وهذه الآية الكريمة معطوفة على قوله - تعالى - قبل ذلك: { وَآخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً.. }.
والمعنى: ومن المتخلفين عن الخروج معك إلى تبوك - يا محمد - قوم آخرون موقوف أمرهم إلى أن يحكم الله فيهم بحكمه العادل، فهو - سبحانه - "إما يعذبهم" بأن يميتهم بلا توبة { وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } أى: يقبل توبتهم.
وهذا الترديد الذى يدل عليه لفظ "إما"، إنما هو بالنسبة للناس، وإلا فالله - تعالى - عليم بما هو فاعله بهم.
والحكمة من إيهام أمرهم، إثارة الهم والخوف فى قلوبهم لتصح توبتهم؛ لأن التوبة عندما تجئ بعد ندم شديد، وتأديب نفسى.. تكون مرجوة القبول منه - سبحانه -.
وقوله { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ } أى: والله - تعالى - عليم بأحوال خلقه وبما يصلحهم فى أمورهم، حكيم فيما يشرعه لهم من أحكام.
قال الآلوسى: والمراد بهؤلاء "المرجون لأمر الله..."
"كما جاء فى الصحيحين: هلال بن أمية، وكعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، كانوا قد تخلفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى غزوة تبوك، وهموا باللحاق به فلم يتيسر لهم ذلك - فقعدوا فى المدينة كسلا وميلا إلى الدعة - ولم يكن تخلفهم عن نفاق، فلما قدم النبى - صلى الله عليه وسلم - وكان ما كان من أمر المتخلفين - قالوا: لا عذر لنا إلا الخطيئة، ولم يعتذروا كما اعتذر غيرهم، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باجتنابهم.. إلى أن نزل قوله - تعالى - بعد ذلك: { لَقَدْ تَابَ الله عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّ وَٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنصَارِ }.. { وَعَلَى ٱلثَّلاَثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ } فأمر - صلى الله عليه وسلم - بمخالطتهم، وكانت مدة وقفهم خمسين ليلة بقدر مدة التخلف، إذ كانت مدة غيبته - صلى الله عليه وسلم - عن المدينة خمسين ليلة، فلما تمتعوا بالراحة فى تلك المدة مع تعب إخوانهم فى السفر، عوقبوا بهجرهم ووقفهم تلك المدة.." .
وبذلك تكون هذه الآيات الكريمة قد ذكرت ثلاث طوائف من المتخلفين عن غزوة تبوك.
أما الطائفة الأولى فهى التى مردت على النفاق، وقد عبر عنها - سبحانه - بقوله: { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ.. } وأما الطائفة الثانية فهى التى سارعت إلى الاعتذار والاعتراف بالذنب، فقبل الله توبتهم، وقد عبر عنها - سبحانه - بقوله: { وَآخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً }.
وأما الطائفة الثالثة فهى التى لم تجد عذرا تعتذر به، فأوقف الله أمرهم إلى أن حكم بقبول توبتهم بعد خمسين ليلة، وقد عبر عنها - سبحانه - بقوله: { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ ٱللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ.. }.
ثم ختمت السورة الكريمة حديثها الطويل المتنوع عن النفاق والمنافقين، بالحديث عن مسجد الضرار الذى بناه المنافقون ليكون مكانا للإِضرار بالإِسلام والمسلمين، فقال - تعالى -. { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسْجِداً...وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }.