التفاسير

< >
عرض

أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجِّ وَعِمَارَةَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ
١٩
ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَائِزُونَ
٢٠
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ
٢١
خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
٢٢
-التوبة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآيات روايات منها: ما رواه مسلم وأبو داود وابن جرير وابن المنذر عن النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر النبى - صلى الله عليه وسلم - فى نفر من أصحابه فقال رجل: ما أبالى أن لا أعمل عملا بعد الإِسلام إلا أن أسقى الحاج. وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام وقال آخر بل الجهاد فى سبيل الله خير مما قلتم، فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر النبى - صلى الله عليه وسلم - وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليتم الجمعة دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستفتيته فيما اختلفتم فيه. فأنزل الله. تعالى: { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجِّ.... } الآية.
وأخرج ابن جرير عن عبيد بن سليمان قال: سمعت الضحاك يقول فى قوله: { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجِّ.. }: أقبل المسلمون على العباس وأصحابه الذين أسروا يوم بدر يعيرونهم بالشرك. فقال العباس: أما والله لقد كنا نعمر المسجد الحرام. ونفك العانى، ونحجب البيت، ونسقى الحاج فأنزل الله. تعالى.: { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجِّ.. }.
وقال صاحب المنار، بعد أن ساق عدداً من الروايات فى سبب نزول هذه الآيات.: والمعتمد فى هذه الروايات حديث النعمان لصحة سنده، وموافقة متنه لما دلت عليه الآيات من كون موضوعها فى المفاضلة أو المساواة بين خدمة البيت وحجابه. من أعمال البر الهينة المستلذة. وبين الإِيمان والجهاد بالمال والنفس والهجرة وهى أشق العبادات البدنية والمالية.
والسقاية والعمارة: مصدران من سقى وعمر. بتخفيف الميم.
والمراد بسقاية الحاج ما كانت قريش تسقيه للحجاج من الزبيب المنبوذ فى الماء، وكان العباس. رضى الله عنه. هو الذى يتولى إدارة هذا العمل.
قال الجمل: السقاية هى المحل الذى يتخذ فيه الشراب فى الموسم. كان يشترى الزبيب فينبذ فى ماء زمزم ويسقى للناس، وكان يليها العباس جاهلية وإسلاماً، وأقرها النبى - صلى الله عليه وسلم - له.. ويظهر أن المراد بها هنا المصدر. أى إسقاء الحجاج وإعطاء الماء لهم.
والمراد بعمارة المسجد الحرام: ما يشمل العبادة فيه، وإصلاح بنائه، وخدمته، وتنظيفه... كما سبق أن بينا.
والهمزة فى قوله. { أَجَعَلْتُمْ } للاستفهام الإِنكارى المتضمن معنى النهى.
والكلام على حذف مضاف، لأن العمارة والسقاية مصدران ولا يتصور تشبيههما بالأعيان، فلا بد من تقدير مضاف فى أحد الجانبين حتى يتأتى التشبيه والمعنى: أجعلتم أهل سقاية الحاج وأهل عمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر، وجاهد فى سبيل الله؟ ويؤيده قراءة { أَجَعَلْتُمْ سُقَايَةَ ٱلْحَاجِّ } بضم السين. جمع ساق. { وعمرة المسجد الحرام } بفتح العين والميم جمع عامر.
وعلى هذا المعنى يكون التقدير فى جانب الصفة، ويجوز أن يكون التقدير فى جانب الذات فيكون المعنى. أجعلتموهما، أى السقاية والعمارة. كإيمان من آمن وجهاد من جاهد؟
والخطاب يشمل بعض المؤمنين الذين آثروا السقاية والعمارة على الجهاد كما جاء فى حديث النعمان. كما يشمل المشركين الذين كانوا يتفاخرون بأنهم سقاة الحجيج، وعمار المسجد الحرام.
والمقصود من الجملة الكريمة إنكار التسوية بين العملين وبين الفريقين. وقد جاء هذا الانكار صريحاً فى قوله تعالى. { لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ ٱللَّهِ }.
أى: لا يساوى الفريق الأول الفريق الثانى فى حكم الله، إذ أن الفريق الثانى له بفضل إيمانه الصادق. وجهاده الخالص الأجر الجزيل عند الله.
فالجملة الكريمة مستأنفة لتقرير الانكار المذكور وتأكيده ثم ختم - سبحانه. الآية الكريمة بقوله. { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ }.
أى. والله تعالى. لا يوفق القوم الظالمين إلى معرفة الحق، وتمييزه من الباطل، لأنهم قد آثروا الشر على الخير والضلالة على الهداية.
وقوله. { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِ.. }. استئناف لبيان مراتب فضلهم زيادة فى الرد، وتكميلا له.
أى: { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } بالله - تعالى - إيماناً حقاً، { وَهَاجَرُواْ } من دار الكفر إلى دار الإِيمان فراراً بدينهم، { وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } لإِعلاء كلمة الله { بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } هؤلاء الذين توفرت فيهم هذه الصفات الجليلة { أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِ } أى: أعلى مقاماً وأشرف منزلة فى حكم الله وتقديره من أهل سقاية الحاج. وعمارة المسجد { ٱلْحَرَامِ } ومن كل من لم يتصف بهذه الصفات الأربعة الكريمة وهى: الايمان، والهجرة، والجهاد بالمال، والجهاد بالنفس.
قال الفخر الرازى: فان قيل: لما أخبرتم أن هذه الصفات كانت بين المسلمين والكافرين. كما جاء فى بعض روايات أسباب النزول. فكيف قال فى وصفهم اعظم درجة مع أنه ليس للكفار درجة.
قلنا. الجواب عنه من وجوه. الأول أن هذا ورد على حسب ما كانوا يقدرون لأنفسهم من الدرجة والفضيلة عند الله، ونظيره قوله. سبحانه
{ { ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ } }. الثانى: أن يكون المراد أن أولئك أعظم درجة من كل من لم يكن موصوفاً بهذه الصفات، تنبيهاً على أنهم لما كانوا أفضل من المؤمنين الذين ما كانوا موصوفين بهذه الصفات، فبأن لا يقاسوا إلى الكفار أولى.
الثالث: أن يكون المراد أن المؤمن المجاهد المهاجر أفضل ممن على السقاية والعمارة والمراد منه ترجيح تلك الأعمال. ولا شك أن السقاية والعمارة من أعمال الخير. وإنما بطل ثوابها فى حق الكفار بسبب كفرهم.
وقوله: { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَائِزُونَ } أى: وأولئك الموصوفون بتلك الصفات الكريمة، هم الفائزون، بثواب الله الأعظم، وبرضائه الأسمى الذى لا يصل إليه سواهم ممن لم يفعل فعلهم.
ثم فصل - سبحانه - هذا الفوز فقال: { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ }.
أى يبشرهم ربهم على لسان نبيهم - صلى الله عليه وسلم - فى الدنيا وعلى لسان الملائكة عند الموت { بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ } أى: برحمة واسعة منه - سبحانه - وبرضائه التام عنهم، وبجنات عالية لهم فيها نعيم عظيم لا يزول ولا يبيد.
{ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } أى: ماكثين فى تلك الجنات مكثاً أبدياً.
{ إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } لا يقادر قدره لهؤلاء الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم.
قال الآلوسى: ذكر أبو حيان أنه - تعالى - لما وصف المؤمنين بثلاث صفات الإِيمان والهجرة، والجهد بالنفس والمال، قابلهم على ذلك بالتبشير بثلاث: الرحمة، والرضوان، والجنة.
وبدأ - سبحانه - بالرحمة فى مقابلة الإِيمان لتوقفها عليه، ولأنها أعم النعم وأسبقها كما أن الإِيمان هو السابق.
وثنى - سبحانه - بالرضوان الذى هو نهاية الإِحسان فى مقابلة الجهاد الذى هو بذل الأنفس والأموال.
وثلث بالجنات فى مقابلة الهجرة وترك الأوطان، إشارة إلى أنهم لما آثروا تركها - فى سبيله أعطاهم بدلها داراً عظيمة دائمة وهى الجنات.
وفى الحديث الصحيح يقول الله - سبحانه -:
"يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون كيف لا نرضى وقد باعدتنا عن نارك وأدخلتنا جنتك؟ فيقول - سبحانه - لكم عندى أفضل من ذلك، فيقولون: وما أفضل من ذلك؟ فيقول جل شأنه: أحل لكم رضائى فلا أسخط عليكم بعده أبداً" .
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد بينت أنه لا تصح المساواة بين المؤمنين الصادقين الذين هاجروا وجاهدوا فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وبين غيرهم ممن لم يفعل فعلهم، ولم يجاهد جهادهم..
وبعد أن بين - سبحانه - ما أعده من عطاء عظيم للمؤمنين الصادقين، الذين هاجروا وجاهدوا فى سبيله بأموالهم وأنفسهم... أتبع ذلك بتوجيه نداء إليهم، حثهم فيه على أن يجردوا أنفسهم لعقيدتهم، وأن يقاطعوا أعداءهم فى الدين مهما بلغت درجة قرابتهم منهم، وأن يؤثروا حب الله ورسوله على كل شئ من زينة الحياة الدنيا فقال - تعالى -: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ...لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ }.