التفاسير

< >
عرض

لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ
٢٥
ثُمَّ أَنَزلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَذٰلِكَ جَزَآءُ ٱلْكَافِرِينَ
٢٦
ثُمَّ يَتُوبُ ٱللَّهُ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٢٧
-التوبة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال ابن كثير. هذه أول آية نزلت من براءة يذكر - تعالى - المؤمنين فضله عليهم وإحسانه لديهم فى نصره إياهم فى مواطن كثيرة من غزواتهم مع رسوله، وأن ذلك من عنده - تعالى -: وبتأييده وتقديره لا بعددهم، ونبههم إلى أن النصر من عنده سواء قل الجمع أم كثر، فإنهم يوم حنين أعجبتهم كثرتهم ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئاً فولوا مدبرين إلا القليل منهم... ثم أنزل لله نصره على رسوله والمؤمنين.
"وقد كانت واقعة حنين بعد فتح مكة فى شوال سنة ثمان من الهجرة: وذلك أنه لما فرغ - صلى الله عليه وسلم - من فتح مكة، وتمهدت أمورها، وأسلم عامة أهلها، وأطلقهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم بلغه أن هوزان جمعوا له ليقاتلوه، معهم ثقيف بكمالها وبنو سعد بن بكر.
فخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى جيشه الذى جاء للفتح وهو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب، ومعه الذين أسلموا من أهل مكة وهم الطلقاء فى ألفين. فسار بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى العدو، فالتقوا بواد بين مكة والطائف يقال له حنين، فكانت فيه الموقعة فى أول النهار فى غلس الصبح.
انحدروا فى الوادي وقد كمنت فيه هوزان، فلما تواجهوا لم يشعر المسلمون إلا بهم قد بادروهم، ورشقوا بالنبال، وأصلتوا السيوف، وحملوا حملة رجل واحد.. فعند ذلك ولى المسلمون الأدبار، وثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثبت معه من أصحابه قريب من مائة.
ثم أمر - صلى الله عليه وسلم - عمه العباس - وكان جهير الصوت - أن ينادى بأعلى صوته يا أصحاب الشجرة - أى شجرة بيعة الرضوان التى بايعه المسلمون تحتها على أن لا يفروا عنه - فجعل ينادى بهم.. فجعلوا يقولون: لبيك لبيك.
وانعطف الناس فتراجعوا.. فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصدقوا الحملة، وأخذ قبضة من تراب ثم رمى بها القوم، فما بقى إنسان منهم إلا أصابه منها فى عينيه وفمه ما شغله عن القتال، ثم انهزموا فاتبع المسلمون أقفاءهم يقتلون ويأسرون، وما تراجع بقية الناس إلا والأسرى مجندلة بين يدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"
.
هذه خلاصة لغزوة حنين التى اجتمع فيها للمسلمين - للمرة الأولى - جيش تعداده اثنا عشر ألفاً، فلما أعجبتهم هذه الكثرة والقوة... أصيبوا بالهزيمة فى أو معركة... ليعلموا أن كثرتهم لن تغنى عنهم شيئاً إذا لم يكن عون الله معهم.
فقوله - تعالى -: { لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً } تذكير للمؤمنين ببعض نعم الله عليهم؛ حتى يداوموا على طاعته ومحبته. وحتى لا يغتروا بقوتهم مهما كثرت.
والمواطن: جمع موطن. وهو المكان الذى يقيم فيه الإِنسان. يقال: استوطن فلان بمكان كذا، إذا جعله وطنا له.
والمراد بالمواطن هنا: الأماكن التى حدثت فيها الحروب بين المسلمين وأعدائهم.
قال الآلوسى: وقوله: { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ } معطوف على محل مواطن وعطف ظرف الزمان على ظرف المكان وعكسه جائز... وأوجب الزمخشرى كون { يَوْمَ } منصوباً بفعل مضمر والعطف من قبيل عطف الجملة على الجملة..
أى: "ونصركم يوم حنين".
وقوله: { إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ } بدل من يوم حنين، أو عطف بيان له.
وأعجبتكم: من الإِعجاب بمعنى السرور بما يتعجب منه. وسبب هذا الإِعجاب أن عدد المسلمين كان اثنا عشر ألفا، وعدد أعدائهم كان أربعة آلاف.
وقوله: { فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً } بيان للأثر السئ الذى أعقب الإِعجاب بالكثرة، وأن سرورهم بهذه الكثرة لم يدم طويلاً، بل تبعه الحزن والهزيمة.
وقوله: { تُغْنِ } من الغناء بمعنى النفع. تقول: ما يغنى عنه: هذا الشئ، أى: ما يجزئ عنك وما ينفعك.
وقوله: { وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ } بيان لشدة خوفهم وفزعهم.
قال القرطبى: والرحب - بضم الراء - السعة. تقول منه: فلان رحب الصدر.
والرحب - بالفتح - الواسع. تقول منه: بلد رحب وأرض رحبة.
وقيل: الباء بمعنى مع، أى: وضاقت عليكم الأرض مع رحبها، وقيل بمعنى على. أى: على رحبها. وقيل المعنى برحبها فتكون "ما" مصدرية.
والمعنى: اذكروا - أيها المؤمنون - نعم الله عليكم، وحافظوا عليها بالشكر وحسن الطاعة، ومن مظاهر هذه النعم أنه - سبحانه - قد نصركم على أعدائكم مع قلتكم. فى مواقف حروب كثيرة؛ كغزوة بدر، وغزوة بنى قينقاع والنضير.. كما نصركم. أيضاً. فى يوم غزوة حنين، وهو اليوم الذى راقتكم فيه كثرتكم فاعتمدتم عليها حتى قال بعضكم: لن نغلب اليوم من قلة..
ولكن هذه الكثرة التى أعجبتم بها لم تنفعكم شيئاً من النفع فى أمر العدو بل انهزمتم أمامه فى أول الأمر، وضاقت فى وجوهكم الأرض مع رحابتها وسعتها بسبب شدة خوفكم، فكنتم كما قال الشاعر:

كأن بلاد الله وهى عريضة عل الخائف المطلوب كِفَّة حابل

وقوله: { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } تذييل مؤكد لما قبله وهو شدة خوفهم.
ووليتم: من التولى بمعنى الإِعراض. ومدبرين: من الإِدبار بمعنى الذهاب إلى الخلف.
أى: ثم وليتم الكفار ظهوركم منهزمين لا تلوون على شئ.
وهكذا، نرى الآية الكريمة تصور ما حدث من المؤمنين فى غزوة حنين تصويراً بديعاً معجزاً.. فهى تنتقل من تصوير سرورهم بالكثرة، إلى تصوير عدم نفعهم بهذه الكثرة، إلى تصوير شدة خوفهم حتى لكأن الأرض على سعتها تضيق بهم، وتقفل فى وجوههم، إلى تصوير حركاتهم الحسية التمثلة فى تولية الأدبار، والنكوص على الأعقاب.
وبعد هذا الخوف الشديد الذى أصاب المؤمنين فى مبدأ لقائهم بأعدائهم فى غزوة حنين، يجئ نصر الله الذى عبر عنه - سبحانه - بقوله: { ثُمَّ أَنَزلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ... }.
والسكينة: الطمأنينة والرحمة والأمنة وهى فعلية من السكون: وهو ثبوت الشئ بعد التحرك. أو من السكن وهو كل ما سكنت إليه واطمأنت به من أهل وغيرهم.
أى: ثم أنزل الله - تعالى - على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى المؤمنين رحمته التى تسكن إليها القلوب، وتطمئن بها اطمئناناً يستتبع النصر القريب.
وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى حاجة إلى هذه السكينة؛ لأنه مع شجاعته وثباته ووقوفه فى وجه الأعداء كالطود الأشم. أصابه الحزن والأسى لفرار هذا العدد الكبير من أصحابه عنه.
وكان المؤمنون الذين ثبتوا من حوله فى حاجة إلى هذه السكينة؛ ليزدادوا ثباتاً على ثباتهم، وإيماناً على إيمانهم.
وكان الذين فروا فى حاجة إلى السكينة، ليعود إليهم ثباتهم، فيقبلوا على قتال أعدائهم بعد أن دعاهم رسولهم - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك.
وقوله: { وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } بيان لنعمة أخرى سوى إنزال السكينة.
أى: وأنزل مع هذه السكينة جنوداً من الملائكة لم تروها بأبصاركم، ولكنكم وجدتم آثرها فى قلوبكم، حيث عاد إليكم ثباتكم وإقدامكم.
وقوله: { وَعذَّبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }، بيان لنعمة ثالثة سوى السابقتين.
أى: أنزل سكينته وأنزل جنوداً لم تروها، وعذب الذين كفروا بأن سلطكم عليهم فقتلتم منهم من قتلتم، وأسرتم من أسرتم.
وقوله: { وَذٰلِكَ جَزَآءُ ٱلْكَافِرِينَ } أى وذلك الذى نزل بهؤلاء الكافرين من التعذيب جزاء لهم على كفرهم، وصدهم عن سبيل الله.
ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر قدرته ورحمته بعباده فقال - تعالى - { ثُمَّ يَتُوبُ ٱللَّهُ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.
أى: ثم يتوب الله - تعالى - من بعد هذا التعذيب للذين كفروا فى الدنيا، على من يشاء أن يتوب عليهم منهم، بأن يوفقه للدخول فى الإِسلام، والله - تعالى - واسع المغفرة، عظيم الرحمة، لا يحاسب الكافرين بعد إيمانهم على ما حصل منهم من كفر.
قال - تعالى -:
{ { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ } }. قال ابن كثير: وقوله: { ثُمَّ يَتُوبُ ٱللَّهُ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ... } قد تاب الله على بقية هوزان فأسلموا، وقدموا عليهم مسلمين، ولحقوه وقد قارب مكة عند الجعرانة، وذلك بعد الوقعة بقريب من عشرين يوماً فعند ذلك خيرهم بين سبيهم وبين أموالهم فاختاروا سبيهم، وكانوا ستة آلاف أسير، ما بين صبى وامرأة فرده عليهم: وقسم الأموال بين الغانمين، ونفل أناسا من الطلقاء لكى يتألف قلوبهم على الإِسلام، فأعطاهم مائة مائة من الإِبل، وكان من جملة من أعطاهم مائة من الإِبل مالك بن عوف النضرى واستعمله على قومه.
وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة قد ذكرت المؤمنين بجانب من نعم الله عليهم. ومن رحمته بهم، وأرشدتهم إلى أن النصر لا يتأتى لمن أعجبوا بكثرتهم فانشغلوا بها عن الاعتماد عليه - سبحانه - وإنما النصر يتأتى لمن أخلصوا لله سرائرهم وعلانيتهم. وباشروا الأسباب الى شرعها - سبحانه - للوصول إلى الفوز والظفر.
قال ابن القيم: افتتح الله - تعالى - غزوات العرب بغزوة بدر، وختم غزوهم بغزوة حنين، لهذا يقرن بين هاتين بالذكر، فقال بدر وحنين وإن كان بينهما سبع سنين.. وبهاتين الغزوتين طفئت جمرة العرب لغزوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين. فالأولى خوفتهم وكسرت من حدتهم، والثانية استفرغت قواهم، واستنفدت سهامهم، وأذلت جمعهم، حتى لم يجدوا بدا من الدخول فى دين الله.
وبعد هذا التذكير والتوجيه من الله - تعالى - لعباده المؤمنين - وجه - سبحانه - إليهم نداء أمرهم فيه بمنع المشركين من قربان المسجد الحرام، ووعدهم بالعطاء الذى يغنيهم، فقال: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ.... }.