التفاسير

< >
عرض

وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ٱئْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلا فِي ٱلْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَافِرِينَ
٤٩
إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ
٥٠
قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ
٥١
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى ٱلْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ ٱللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ
٥٢
-التوبة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

روى محمد بن إسحاق ويزيد بن رومان، وعبد الله بن أبى بكر، وعاصم بن قتادة وغيرهم قالوا: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم وهو جهازه - أى لغزوة تبوك - للجد عن قيس أخى بنى سلمة: هل لك ياجد فى جلاد بنى الأصفر؟ - يعنى الروم - فقال الجد: يا رسول الله أو تأذن لى ولا تفتنى؟ فو الله لقد عرف قومى ما رجل أشد عجبا بالنساء منى، وإنى أخشى إن رأيت نساء بنى الأصفر ألا أصبر عنهن، فأعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال قد أذنت لك" .
ففى الجد بن قيس نزلت هذه الآية { وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ٱئْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي }.
أى: ومن هؤلاء المنافقين الذين لم ينته الحديث عنهم بعد "من يقول" لك - يا محمد - "ائذن لى" فى القعود بالمدينة، "ولا تفتنى" أى ولا توقعنى فى المعصية والإِثم بسبب خروجى معك إلى تبوك، ومشاهدتى لنساء بنى الأصفر.
وعبر - سبحانه - عن قول هذا المنافق بالفعل المضارع، لا ستحضار تلك الحال لغرابتها، فإن مثله فى نفاقه وفجوره لا يخشى إثم الافتتان بالنساء إذ لا يجد من دينه ما نعا من غشيان الشهوات الحرام.
وقوله: { أَلا فِي ٱلْفِتْنَةِ سَقَطُواْ } رد عليه فيما قال، وذم له على ما تفوه به.
أى: ألا إن هذا وأمثاله فى ذات الفتنة قد سقطوا، لافى أى شئ آخر مغاير لها.
وبدأ - سبحانه - الجملة الكريمة بأداة التنبيه "ألا"، لتأكيد الخبر، وتوجيه الأسماع إلى ما اشتمل عليه من توبيخ لهؤلاء المنافقين.
وقدم الجار والمجرور على عامله؛ للدلالة على الحصر. أى فيها لا فى غيرها قد سقطوا وهووا إلى قاع سحيق.
قال الآلوسى: وفى التعبير عن الافتتان بالسقوط فى الفتنة، تنزيل لها منزلة المهواة المهلكة المفصحة عن ترديدهم فى دركات الردى أسفل سافلين.
وقال الفخرى الرازى ما ملخصه: "وفيه تنبيه على أن القوم إنما اختاروا القعود لئلا يقعوا فى الفتنة، فالله - تعالى - بيّن أنهم فى عين الفتنة واقعون، لأن أعظم أنواع الفتنة الكفر بالله وبرسوله، والتمرد على قبول التكاليف التى كلفنا الله بها...".
وقوله: { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَافِرِينَ } وعيد وتهديد لهم على أقوالهم وأفعالهم.
أى: وإن جهنم لمحيطة بهؤلاء الكافرين بما جاء من عند الله، دون أن يكون لهم منها مهرب أو مفر.
وعبر عن إحاطتها بهم باسم الفاعل الدال على الحال، لإِفادة تحقيق ذلك حتى لكأنه واقع مشاهد.
قالوا: ويحتمل أنها محيطة بهم الآن، بأن يراد بجهنم الأسباب الموصلة إليها من الكفر والنفاق وغير ذلك من الرذائل التى سقطوا فيها.
وقوله: { إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ.. } بيان لنوع آخر من خبث نواياهم، وسوء بواطنهم.
أى: "إن تصبك" يا محمد حسنة من نصر أو نعمة أو غنيمة - كما حدث يوم بدر - "تسؤهم" تلك الحسنة، وتورثهم حزنا وغما، بسبب شدة عداوتهم لك ولأصحابك.
{ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ } من هزيمة أو شدة - كما حدث يوم أحد - "يقولوا" باختيال وعجب وشماتة { قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ }.
أى: قد تلافينا ما يهمنا من الأمر بالحزم والتيقظ، من قبل وقوع المصيبة التى حلت بالمسلمين، ولم نلق بأيدينا إلى التهلكة كما فعل هؤلاء المسلمون.
وقوله: { وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ } تصوير لحالهم، ولما جبلوا عليه من شماتة بالمسلمين.
أى: عندما تصيب المسلمين مصيبة أو مكروه، ينصرف هؤلاء المنافقون إلى أهليهم وشيعتهم - والفرح يملأ جوانحهم - ليبشروهم بما نزل بالمسلمين من مكروه.
قال الجمل: فإن قلت: فلم قابل الله الحسنة بالمصيبة، ولم يقابلها بالسيئة كما قال فى سورة آل عمران:
{ { وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا } قلت: لأن الخطاب هنا للنبى - صلى الله عليه وسلم - وهى فى حقه مصيبة يثاب عليها، لا سيئة يعاتب عليها، والتى فى آل عمران خطاب للمؤمنين".
وقوله: { قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا.. } إرشاد للرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الجواب الذى يكبتهم ويزيل فرحتهم.
أى: "قل" يا محمد - لهؤلاء المنافقين الذين يسرهم ما يصيبك من شر، ويحزنهم ما يصيبك من خير، والذين خلت قلوبهم من الإِيمان بقضاء الله وقدره، قل لهم على سبيل التقريع والتبكيت. لن يصيبنا إلا ما كتبه الله لنا وقدره علينا "هو مولانا" الذى يتولانا فى كل أمورنا، ونلجأ إليه فى كل أحوالنا. وعليه وحده - سبحانه نكل أمورنا وليس على أحد سواه.
وقوله: { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى ٱلْحُسْنَيَيْنِ.. } إرشاد آخر للرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الجواب الذى يخرس ألسنة هؤلاء المنافقين ويزيل فرحتهم.
وقوله: { تَرَبَّصُونَ } التربص بمعنى الانتظار فى تمهل. يقال: فلان يتربص بفلان الدوائر، إذا كان ينتظر وقوع مكروه به.
والحسنيان: مثنى الحسنى. والمراد بهما: النصر أو الشهادة.
أى: قل يا محمد لهؤلاء المنافقين - أيضا - إنكم ما تنتظرون بنا إلا إحدى العاقبتين اللتين كل واحدة منهما أحسن من جميع العواقب، وهما إما النصر على الأعداء، وفى ذلك الأجر والمغنم والسلامة، وإما أن نقتل بأيديهم وفى ذلك الشهادة والفوز بالجنة والنجاة من النار.
قال الآلوسى: والحاصل أن ما تنتظرونه بنا - أيها المنافقون - لا يخلوا من أحد هذين الأمرين، كل منهما عاقبته حسنى لا كما تزعمون من أن ما يصيبنا من القتل فى الغزو سوء، ولذلك سررتم به.
وصح من حديث أبى هريرة عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال:
"تكفل الله - تعالى - لمن جاهد فى سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد فى سبيله، وتصديق كلمته أن يدخله الجنة. أو يرجعه إلى مسكنه الذى خرج منه مع ما نال من أجر وغنيمة" .
وقوله: { وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ ٱللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا } بيان لما ينتظر المؤمنون وقوعه بالمنافقين.
أى: ونحن معشر المؤمنين نتربص بكم أيها المنافقون إحدى السوءتين من العواقب: إما "أن يصيبكم الله بعذاب" كائن "من عنده" فيهلككم كما أهلك الذين من قبلكم، وإما أن يصيبكم بعذاب كائن "بأيدينا" بأن يأذن لنا فى قتالكم وقتلكم.
والفاء فى قوله: { فَتَرَبَّصُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ } للإِفصاح.
أى إذا كان الأمر كذلك فتربصوا بنا ما هو عاقبتنا، فإنا معكم متربصون ما هو عاقبتكم، وسترون أن عاقبتنا على كل حال هى الخير، وأن عاقبتكم هى الشر.
وبذلك ترى أن هذه الآيات الكريمة، قد حكت طرفا من رذائل المنافقين ومن مسالكهم الخبيثة لكيد الدعوة الإِسلامية، وردت عليهم بما يكبتهم، ويفضحهم على رءوس الأشهاد.
ثم بين - سبحانه - أن هؤلاء المنافقين نفقاتهم غير مقبولة، لأن قلوبهم خالية من الإيمان. ولأن عباداتهم ليست خالصة لوجه الله، وأن ما ينفقونه سيكون عليهم حسرة فقال - تعالى -: { قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً...وَهُمْ كَافِرُونَ }.