التفاسير

< >
عرض

يَحْذَرُ ٱلْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ ٱسْتَهْزِءُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ
٦٤
وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِٱللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ
٦٥
لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ
٦٦
-التوبة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال صاحب المنار: هذه الآيات فى بيان شأن آخر من شئون المنافقين التى كشفت سوأتهم فيها غزوة تبوك. أخرج ابن أبى شيبه وابن أبى حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد فى قوله - تعالى -: { يَحْذَرُ ٱلْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ }.
قال: كانوا يقولون القول فيما بينهم ثم يقولون: عسى أن لا يفشى علينا هذا.
وعن قتادة قال: كانت هذه السورة تسمى الفاضحة. فاضحة المنافقين، وكان يقال لها المنبئة. أنبأت بمثالبهم وعوراتهم.
والضمير فى قوله: { عَلَيْهِمْ } وفى قوله: { تُنَبِّئُهُمْ } يعود على المنافقين. فيكون المعنى: { يَحْذَرُ ٱلْمُنَافِقُونَ } ويخافون من { أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ } أى: فى شأنهم وحالهم "سورة من سور القرآن الكريم"، تنبئهم بما فى قلوبهم. أى: تخبرهم بما انطوت عليه قلوبهم من أسرار خفية، ومن أقوال كانوا يتناقلونها فيما بينهم، ويحرصون على إخفائها عن المؤمنين.
وفى التعبير بقوله: { تُنَبِّئُهُمْ } مبالغة فى كون السورة مشتملة على أسرارهم، حتى أنها تعلم من أحوالهم الباطنة مالا يعلمونه هم عن أنفسهم، فتنبئهم بهذا الذى لا يعلمونه، وتنعى عليهم قبائحهم ورذائلهم. وتذيع على الناس ما كانوا يخشون ظهوره من أقوال ذميمة، وأفعال أثيمة.
ومنهم من يرى أن الضمير فى قوله { عَلَيْهِمْ } وقوله: { تُنَبِّئُهُمْ } يعود على المؤمنين، فيكون المعنى: يحذر المنافقون ويخشون من أن تنزل على المؤمنين سورة تخبرهم بما فى قلوب المنافقين من أضغان وأحقاد وفسوق عن أمر الله.
وقد ذكر هذين الوجهين صاحب الكشاف فقال: والضمير فى "عليهم" و "تنبئهم" للمؤمنين، و "فى قلوبهم" للمنافقين. وصح ذلك لأن المعنى يقود إليه.
ويجوز أن تكون الضمائر للمنافقين: لأن السورة إذا نزلت فى معناهم - أى فى شأنهم وأحوالهم - فهى نازلة عليهم. ومعنى { تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم } كأنها تقول لهم: فى قلوبكم كيت وكيت: يعنى أنها تذيع أسرارهم عليهم حتى يسمعوها مذاعة منتشرة فكأنها تخبرهم بها".
وقال الإِمام الرازى. فإن قيل: المنافق كافر فكيف يحذر نزول الوحى على الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟ قلنا فيه وجوه؟
قال أبو مسلم: هذا حذر أظهره المنافقون على وجه الاستهزاء حين رأوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - يذكر كل شئ، ويدعى أنه عن الوحى، وكان المنافقون يكذبون بذلك فيما بينهم، فأخبر الله رسوله بذلك، وأمره أن يعلمهم أنه يظهر سرهم الذى حذروا ظهوره، وفى قوله: { قُلِ ٱسْتَهْزِءُوۤاْ } دلالة على ما قلناه.
2- أن القوم وإن كانوا كافرين بدين الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا أنهم شاهدوا أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يخبرهم بما يضمرونه ويكتمونه، فلهذه التجربة وقع الحذر والخوف فى قلوبهم.
3- قال الأصم. إنهم كانوا يعرفون كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - صادقا، إلا أنهم كفروا به حسداً وعناداً..
4- معنى الحذر: الأمر بالحذر. أى: ليحذر المنافقون ذلك.
5- أنهم كاوا شاكين فى صحة نبوته، وما كانوا قاطعين بفسادها، والشاك خائف، فلهذا السبب خافوا أن ينزل عليه فى أمرهم ما يفضحهم. والذى نراه أن الرأى الخامس أقرب الآراء إلى الصواب، لأن المنافقين كانوا مترددين بين الإِيمان والكفر: فهم كما وصفهم الله - تعالى -
{ { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذٰلِكَ لاَ إِلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ وَلاَ إِلَى هَـٰؤُلاۤءِ.. } }. ومن شأن هذا التذبذب أن يغرس الخوف والحذر فى القلوب.
أى أن هذا الحذر والإِشفاق. كما يقول بعض العلماء. أثر طبيعى للشك والارتياب، لأنهم لو كانوا موقنين بتكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما خطر لهم هذا الخوف على بال، ولو كانوا موقنين بتصديقه، لما كان هناك محل لهذا الحذر "لأن قلوبهم مطمئنة بالإِيمان".
وقوله: { قُلِ ٱسْتَهْزِءُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ } تهديد ووعيد لهم على نفاقهم وسوء أدبهم.
أى: قل يا محمد لهؤلاء المنافقين المذبذبين بين الحق والباطل. قل لهم، على سبيل التهديد والتبكيت: افعلوا ما شئتم من الاستخفاف بتعاليم الإِسلام إن الله - تعالى - مهر ما تحذرونه من إنزال الآيات القرآنية التى تفضحكم على رءوس الأشهاد، والتى تكشف عن أسراركم، وتهتك أستاركم، وتظهر للمؤمنين ما آردتم إخفاءه عنهم.
وأسند الإِخراج إلى الله - تعالى - للإِشارة إلى أنه - سبحانه - يخرج ما يحذرونه إخراجاً لا مزيد عليه من الكشف والوضوح، حتى يحترس منهم المؤمنون، ولا يغتروا بأقوالهم المعسولة.
وقوله: { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ... } بيان للون آخر من معاذيرهم الكاذبة، وجبنهم عن مواجهة الحقائق.
وأصل الخوض - كما يقول الآلوسى - الدخول فى مائع مثل الماء والطين، ثم كثر حتى صار اسماً لكل دخول فيه تلويث وأذى.
أى: ولئن سألت يا محمد هؤلاء المنافقين عن سبب استهزائهم بتعاليم الإِسلام ليقولن لك على سبيل الاعتذار، إنما كنا نفعل ذلك على سبيل الممازحة والمداعبة لا على سبيل الجد.
وقوله: { قُلْ أَبِٱللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ } إبطال لحجتهم، وقطع لمعاذيرهم، وتبكيت لهم على جهلهم وسوء أخلاقهم.
أى: قل لهم يا محمد - على سبيل التوبيخ والتجهيل - ألم تجدوا ما تستهزئون به فى مزاحكم ولعبكم - كما تزعمون - سوى فرائض الله وأحكامه وآياته ورسوله الذى جاء لهدايتكم وإخراجكم من الظلمات إلى النور؟
فالاستفهام للانكار والتوبيخ، ودفع ما تذرعوا به من معاذير واهية.
قوله - سبحانه -: { لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ... } تأكيد لإِبطال ما أظهروه من معاذير.
والاعتذار معناه محاولة محو أثر الذنب، مأخوذ من قولهم: اعتذرت المنازل إذا اندثرت وزالت، لأن المعتذر يحاول إزالة أثر ذنبه.
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء المنافقين المستهزئين بما يجب إجلاله واحترامه وتوقيره: قل لهم على سبيل التوبيخ والتجهيل أيضاً - لا تشتغلوا بتلك المعاذير الكاذبة فإنها غير مقبولة، لأنكم بهذا الاستهزاء بالله وآياته ورسوله { قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } أى: قد ظهر كفركم وثبت، بعد إظهاركم الإِيمان على سبيل المخادعة، فإذا كنا قبل ذلك نعاملكم معاملة المسلمين بمقتضى نطقكم بالشهادتين فنحن الآن نعاملكم معاملة الكافرين بسبب استهزائكم بالله وآياتة ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لأن الاستهزاء بالدين. كما يقول الإِمام الرازى. يعد من باب الكفر، إذا أنه يدل على الاستخفاف، والأساس الأول فى الإِيمان تعظيم الله - تعالى - بأقصى الإِمكان، والجمع بينهما محال.
وقوله - تعالى -: { إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } بيان لمظهر من مظاهر عدله - سبحانه - ورحمته.
أى: { إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ } - أيها المنافقون - بسبب توبتهم وإقلاعهم عن النفاق، { نُعَذِّبْ طَآئِفَةً } أخرى منكم بسبب إصرارهم على النفاق, واستمرارهم فى طريق الفسوق والعصيان.
هذا، وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآيات روايات منها:
ما جاء عن زيد بن أسلم:
"أن رجلاً من المنافقين قال لعوف بن مالك فى غزوة تبوك: ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطوناً، وأكذبنا ألسنة وأجبننا عند اللقاء!! فقال له عوف: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذهب عوف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه.
قال زيد: قال عبد الله بن عمر: فنظرت إليه - أى إلى المنافق - متعلقاً بحقب ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تنكبه الحجارة يقول: إنما كنا نخوض ونلعب، فيقول له الرسول - صلى الله عليه وسلم - أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون"
.
وعن قتادة قال: "بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير فى غزوته إلى تبوك، وبين يديه ناس من المنافقين فقالوا: يرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها!! هيهات هيهات.
فأطلع الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال نبى الله - صلى الله عليه وسلم -أحبسوا على الركب فأتاهم فقال لهم. قلتم كذا، قلتم كذا. فقالوا: يا نبى الله إنما كنا نخوض ونلعب"
فأنزل الله تبارك وتعالى فيهم ما تسمعون.
وقال ابن اسحاق:
"كان جماعة من المنافقين منهم وديعة بن ثابت.. ومنهم رجل من أشجع حليف لبنى سلمة يقال له مخشى بن حمير يسيرون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو منطلق إلى تبوك - فقال بعضهم - أتحسبون جلاد بنى الأصفر - أى الروم - كقتال العرب بعضهم؟ والله لكأنا بكم غدا مقرنين فى الحبال، إرجافا وترهيباً للمؤمنين.
فقال مخشى بن حمير: والله لوددت أن أقاضى على أن يضرب كل منا مائة جلدة، وأننا أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنى - لعمار بن ياسر - أدرك القوم فإنهم قد احترقوا، فسلهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بلى، قلتم كذا وكذا. فانطلق إليهم عمار؛ فقال ذلك لهم، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتذرون إليه.
فقال وديعة بن ثابت، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقف على راحلته - يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب.
فقال مخشى بن حمير: يا رسول الله - قعد بى اسمى واسم أبى، فكان الذى عفى عنه فى هذه الاية مخشى بن حمير، فتسمى عبد الرحمن، وسأل الله أن يقتل شهيداً، لا يعلم مكانه. فقتل يوم اليمامة ولم يوجد له أثر"
.
هذه بعض الآثار التى وردت فى سبب نزول هذه الآيات، وهى توضح ما كان عليه المنافقون من كذب فى المقال، وجبن عن مواجهة الحقائق.
ثم مضت السورة الكريمة بعد ذلك فى تقرير حقيقة المنافقين، وفى بيان جانب من صفاتهم، والمصير السئ الذى ينتظرهم فقال - تعالى -: { ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ...عَذَابٌ مُّقِيمٌ }.