التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَاهِدِ ٱلْكُفَّارَ وَٱلْمُنَافِقِينَ وَٱغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ
٧٣
-التوبة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قوله - سبحانه - { جَاهِدِ } من المجاهدة، بمعنى بذل الجهد فى دفع ما لا يرضى، سواء أكان ذلك بالقتال أم بغيره.
وقوله: { وَٱغْلُظْ عَلَيْهِمْ } من الغلظة التى هى نقيض الرقة والرأفة. يقال أغلظ فلان فى الأمر إذا اشتد فيه ولم يترفق.
ونحن عندما نقرأ السيرة النبوية. نجد أنه - صلى الله عليه وسلم - بعد هجرته إلى المدينة، ظل فترة طويلة يلاين المنافقين، ويغض الطرف عن رذائلهم، ويصفح عن مسيئهم.. إلا أن هذه المعاملة الحسنة لهم زادتهم رجسا إلى رجسهم.. لذا جاءت هذه السورة - وهى من أواخر ما نزل من القرآن لتقول للنبى - صلى الله عليه وسلم - لقد آن الأوان لإِحلال الشدة والحزم، محل اللين والرفق، فإن للشدة مواضعها وللين مواضعه..
والمعنى: عليك - أيها النبى الكريم - أن تجاهد الكفار بالسيف إذا كان لا يصلحهم سواه، وأن تجاهد المنافقين - الذين يظهرون الإِسلام ويخفون الكفر - بما تراه مناسبا لردهم وزجرهم وإرهابهم، سواء أكان ذلك باليد أم باللسان أم بغيرهما، حتى تأمن شرهم.
قال الإِمام ابن كثير، أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بجهاد الكفار والمنافقين، كما أمره أن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين.. - وقد تقدم عن أمير المؤمنين على بن أبى طالب أنه قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأربعة أسياف. سيف للمشركين
{ { فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ... } وسيف للكفار أهل الكتاب { { قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ.. } وسيف للمنافقين { جَاهِدِ ٱلْكُفَّارَ وَٱلْمُنَافِقِينَ } وسيف للبغاة { فَقَاتِلُواْ ٱلَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيۤءَ إِلَىٰ أَمْرِ ٱللَّهِ } وهذا يقتضى أنهم يجاهدون بالسيوف إذا أظهروا النفاق، وهو اختيار ابن جرير.
وقال ابن مسعود فى قوله: { جَاهِدِ ٱلْكُفَّارَ وَٱلْمُنَافِقِينَ } قال بيده، فإن لم يستطع فليكشر فى وجهه - أى فليلق المنافق بوجه عابس لا طلاقة فيه ولا انبساط.
وقال ابن عباس: أمره الله - تعالى - بجهاد المنافقين باللسان وأذهب الرفق عنهم.
وقد يقال أنه لا منافاة بين هذه الأقوال، لأنه تارة يؤاخذهم بهذا، وتارة بهذا على حسب الأحوال..
والضمير المجرور فى قوله: { وَٱغْلُظْ عَلَيْهِمْ } يعود على الفريقين: الكفار والمنافقين أى: جاهدهم بكل ما تستطيع مجاهدتهم به، مما يقتضيه الحال، واشدد عليهم فى هذه المجاهدة بحيث لا تدع مجالا معهم للترفق واللين، فإنهم ليسوا أهلا لذلك، بعد أن عموا وصموا عن النصحية، وبعد أن لجوا فى طغيانهم.
وقوله: { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } تذييل قصد به بيان سوء مصيرهم فى الآخرة بعد بيان ما يجب على المؤمنين نحوهم فى الدنيا.
أى: عليك - أيها النبى - أن تجاهدهم وأن تغلظ عليهم فى الدنيا، أما فى الآخرة فإن جهنم هى دارهم وقرارهم.
والمخصوص بالذم محذوف والتقدير: وبئس المصير مصيرهم، فانه لا مصير أسوأ من الخلود فى جهنم.
ومن هذه الآية الكريمة نرى أن على المؤمنين - فى كل زمان ومكان - أن يجاهدوا أعداءهم من الكفار والمنافقين بالسلاح الذى يرونه كفيلا بأن يجعل كلمة الله هى العليا وكلمة الذين كفروا السفلى.
ثم بين - سبحانه - ما كان عليه المنافقون من كذب وفجور، ومن خيانة وغدر، وفتح أمامهم باب التوبة، وأنذرهم بالعذاب الأليم إذا ما استمروا فى نفاقهم فقال - سبحانه -: { يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ مَا قَالُواْ... }.