التفاسير

< >
عرض

وَٱلْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ
١
وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ
٢
وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ
٣
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ
٤
فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ
٥
وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ
٦
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ
٧
وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَٱسْتَغْنَىٰ
٨
وَكَذَّبَ بِٱلْحُسْنَىٰ
٩
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ
١٠
وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ
١١
إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ
١٢
وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَٱلأُولَىٰ
١٣
فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّىٰ
١٤
لاَ يَصْلَٰهَآ إِلاَّ ٱلأَشْقَى
١٥
ٱلَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ
١٦
وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى
١٧
ٱلَّذِى يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ
١٨
وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ
١٩
إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ ٱلأَعْلَىٰ
٢٠
وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ
٢١
-الليل

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

أقسم الله - سبحانه - فى افتتاح هذه السورة بثلاثة أشياء، على أن أعمال الناس مختلفة.
أقسم - أولا - بالليل فقال: { وَٱلْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ } أى: وحق الليل إذا يغشى النهار، فيغطى ضياءه، ويذهب نوره، ويتحول الكون معه من حالة إلى حالة، إذ عند حلول الليل يسكن الخلق عن الحركة، ويأوى كل إنسان أو حيوان إلى مأواه، ويستقبلون النوم الذى فيه ما فيه من الراحة لأبدانهم، كما قال - تعالى -:
{ وَجَعَلْنَا ٱللَّيْلَ لِبَاساً. وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشاً } وأقسم - ثانيا - بالنهار فقال: { وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ } أى: وحق النهار حين ينكشف ويظهر، ويزيل الليل وظلمته، ويخرج الناس معه ليباشروا أعمالهم المتنوعة.
وأقسم - ثالثا - بقوله: { وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } و "ما" هنا يصح أن تكون موصولة، بمعنى الذى، فيكون - سبحانه - قد أقسم بذاته، وجاء التعبير بما، للدلالة على الوصفية، ولقصد التفخيم.
فكأنه - تعالى - يقول: وحق الخالق العظيم، الذى لا يعجزه شئ، والذى خلق نوع الذكور، ونوع الإِناث من ماء واحد.
ويصح أن تكون "ما" هنا حرفا مصدريا، فيكون المعنى: وحق خَلْقِ الذكر والأنثى، وعليه يكون - سبحانه - قد أقسم بفعل من أفعاله التى تدل على كمال قدرته، وبديع صنعته، حيث أوجد الذكور والإِناث من ماء واحد، كما قال - سبحانه -:
{ وَأَنَّهُ خَلَقَ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ. مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ } وحيث وهب - سبحانه - الذكور لمن يشاء، ووهب الإِناث لمن يشاء، وجعل العقم لمن يشاء.
وقوله - تعالى -: { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ } هو جواب القسم. وشتى جمع شتيت. مثل: جريح وجرحى، ومريض ومرضى. والشئ الشتيت: هو المتفرق المتناثر بعضه عن بعض، من الشتات بمعنى الابتعاد والافتراق.
والمعنى: وحق الليل إذا يغشى النهار فيستر ضياءه، وحق النهار إذا تجلى وأسفر وأزال الليل وظلامه، وحق الخالق العظيم القادر الذى أوجد الذكور والإِناث.
وحق كل ذلك، إن أعمالكم ومساعيكم - أيها الناس - فى هذه الحياة، لهى ألوان شتى، وأنواع متفرقة، منها الهدى ومنها الضلال، ومنها الخير، ومنها الشر، ومنها الطاعة، ومنها المعصية.. وسيجازى - سبحانه - كل إنسان على حسب عمله.
وحذف مفعول "يغشى" للتعميم، أى يغشى كل شئ ويواريه بظلامه.
وأسند - سبحانه - التجلى إلى النهار، على سبيل المدح له بالاستنارة والإِسفار.
والمراد بالسعى: العمل. وقوله "سعيكم" مصدر مضاف فيفيد العموم فهو فى معنى الجمع أى: إن مساعيكم لمتفرقة.
قال القرطبى: السعى: العمل، فساع فى فكاك نفسه، وساع فى عطبها، يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:
"الناس غاديان: فمبتاع نفسه فمعتقها، وبائع نفسه فموبقها" .
ثم فصل - سبحانه - ما أجمله فى قوله: { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ } فقال: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ. وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ. وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَٱسْتَغْنَىٰ. وَكَذَّبَ بِٱلْحُسْنَىٰ. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ. وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ } والحسنى تأنيث الأحسن، وهى صفة لموصوف محذوف.
أى: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ } حق الله - تعالى -، بأن أنفق من ماله فى وجوه الخير: كإعتاق الرقاب، ومساعدة المحتاجين.. { وَٱتَّقَىٰ } المحارم والمعاصى { وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ } أى: وأيقن بالخصلة الحسنى، وهى الإِيمان بكل ما يجب الإِيمان به، أو أيقن بالملة الحسنى، وهى ملة الإِسلام، أو بالمثوبة الحسنى وهى الجنة.
{ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ } أى: فسنهيئه للخصلة التى توصله إلى اليسر والراحة وصلاح البال، بأن نوفقه لأداء الأعمال الصالحة التى تؤدى إلى السعادة.
وحذف مفعول "أعطى واتقى" للعلم بهما، أى: أعطى ما كلفه الله - تعالى - به، واتقى محارمه.
{ وَأَمَّا مَن بَخِلَ } بماله فلم يؤد حقوق الله - تعالى - فيه، ولم يبذل شيئا منه فى وجوه البر. { وَٱسْتَغْنَىٰ } أى: واستغنى عن ثواب الله - تعالى -، وتطاول على الناس بماله وجاهه، وآثر متع الدنيا على نعيم الآخرة.. { وَكَذَّبَ بِٱلْحُسْنَىٰ } أى: وكذب بالخصلة الحسنى التى تشمل الإِيمان بالحق، وبيوم القيامة وما فيه من حساب وجزاء.
{ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ } أى: فسنهيئه للخصلة التى توصله إلى العسر والمشقة والشدة، بأن نجعله بسبب سوء اختياره، يؤثر الغى على الرشد، والباطل على الحق، والبخل على السخاء، فتكون عاقبته فرطا، ونهايته الخسران والبوار.
والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة يراها، وقد وصفت المؤمنين الصادقين بثلاث صفات هى جماع كل خير، وأساس جميع الفضائل: وصفهم بالسخاء، وبالخوف من الله - تعالى -، وبالتصديق بكل ما يجب التصديق به، ورتب على ذلك توفيقهم للخصلة الحسنى.. التى تنتهى بهم إلى الفوز والسعادة.
ووصف - أيضا - أهل الفسوق والفجور بثلاث صفات، هى أساس البلاء، ومنبع الفساد، ألا وهى: البخل، والغرور، والتكذيب بكل ما يجب الإِيمان به.. ورتب - سبحانه - على ذلك تهيئتهم للخصلة العسرى، التى توصلهم إلى سوء المصير، وشديد العقاب..
وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات، جملة من الأحاديث الشريفة، فقال ما ملخصه: قوله: { وَكَذَّبَ بِٱلْحُسْنَىٰ } أى: بالجزاء فى الدار الآخرة { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ } أى: لطريق الشر، كما قال - تعالى -:
{ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } والآيات فى هذا المعنى كثيرة، ودالة على أن الله يجازى من قصد الخير بالتوفيق له، ومن قصد الشر بالخذلان، وكل ذلك بقدر مقدر، والأحاديث الدالة على هذا المعنى كثيرة.
منها: ما أخرجه البخارى
"عن على بن أبى طالب - رضى الله عنه - قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بقيع الغرقد فى جنازة، فقال: ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة، ومقعده من النار فقالوا: يا رسول الله أفلا نتكل؟ فقال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له ثم قرأ: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ... } إلى قوله: { لِلْعُسْرَىٰ }" .
و "ما" فى قوله - سبحانه -: { وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ } يجوز أن تكون نافية. والتردى: السقوط من أعلى إلى أسفل. يقال: تردى فلان من فوق الجبل، إذا سقط من أعلاه إلى أسفله، والمراد به هنا: النزول إلى القبر بعد الموت، أو السقوط فى النار بسبب الكفر والفسوق والعصيان، من الردى بمعنى الهلاك.
أى: ولا يغنى شيئا عن هذا الشقى الذى بخل واستغنى وكذب بالحسنى، ماله وجاهه وكل ما كان يملكه فى الدنيا، إذا سقط يوم القيامة فى النار.
ويجوز أن تكون "ما" استفهامية: ويكون الاستفهام المقصود به الإِنكار والتوبيخ، أى: وماذا يغنى عن هذا الشقى ماله بعد هلاكه، وبعد ترديه فى جهنم يوم القيامة؟ إنه لن يغنى عنه شيئا ماله الذى بخل به فى الدنيا، بل سيهوى فى جهنم دون أن يشفع له شافع، أو ينصره ناصر، وصدق الله إذْ يقول:
{ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً } وإذ يقول: { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ... } ثم بين - سبحانه - بعد ذلك، أنه قد أعذر إلى عباده، حيث وضح لهم طريق الخير وطريق الشر، وكشف لهم عن حسن عاقبة من أعطى واتقى وصدق بالحسنى، وسوء عاقبة من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فقال - تعالى -: { إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ. وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَٱلأُولَىٰ }. أى: إن علينا - بمقتضى حكمتنا ورحمتنا بعبادنا - أن نبين لهم طريق الحق، وطريق الباطل، بواسطة رسلنا، فمن شاء بعد ذلك فليؤمن فينال الثواب، ومن شاء بعد ذلك فليكفر فيحل به العقاب، لأننا نجازى كل إنسان على حسب عمله، بعد أن هديناه النجدين، وأرشدناه إلى سبيل الرشد وسبيل الغى.
وإن لنا وحدنا كل ما فى الدنيا، وكل ما فى الآخرة. إذ الخلق والأمر بيدنا، والعطاء والمنع لا يملكه أحد سوانا، وهذا الكون كله تحت تصرفنا وقدرتنا.
والفاء فى قوله - سبحانه -: { فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّىٰ } للإِفصاح عن مقدر، لأنها تدل على مراعاة مضمون الكلام الذى قبلها، وتأتى بعده بما يفصله ويزيده وضوحا..
وقوله: { تلظى } أى: تتوقد وتتوهج وتلتهب، وأصله تتلظى، فحذفت إحدى التاءين تخفيفا. أى: إذا كان الأمر كما ذكرت لكم، من حسن عاقبة من أعطى واتقى، ومن سوء عاقبة من بخل واستغنى، ومن أن كل شئ تحت قدرتنا وتصرفنا.. فأكون بذلك قد حذرتكم من عذاب عظيم يوم القيامة، وخوفتكم من السقوط فى نار عظيمة تلتهب وتتوقد، وهذه النار { لاَ يَصْلاَهَآ } أى: لا يحترق بها { إِلاَّ ٱلأَشْقَى } أى: من اشتد شقاؤه بسبب إصراره على كفره وفجوره.
وقوله - تعالى -: { ٱلَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ } صفة لهذا الشقى، لزيادة التشنيع عليه، والذم له. أى: سيحترق بهذه النار هذا الإِنسان الذى بلغ الغاية فى الشقاء والتعاسة، والذى من صفاته أنه كذب بالحق، وأعرض عن الطاعة. وسار فى طريق الكفر والجحود، حتى أدركه الموت، وهو على ذلك.
وكعادة القرآن الكريم فى المقابلة بين الأشرار والأخيار، وبين السعداء والأشقياء، جاء الحديث بعد ذلك عن حال الأتقياء، فقال - تعالى - { وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى } أى: وسيبتعد عن هذه النار المتأججة الأتقى، وهو من بالغ فى صيانة نفسه عن كل ما يغضب الله - تعالى -، وحرص كل الحرص على فعل ما يرضيه - عز وجل -.
فالمراد بالأشقى والأتقى: الشديد الشقاء، والشديد التقوى.
والتعبير بقوله: { وَسَيُجَنَّبُهَا } يشعر بابتعاده عنها ابتعادا تاما، بحيث تكون النار فى جانب، وهذا الأتقى فى جانب آخر، كما قال - تعالى -:
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ أُوْلَـٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ. لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا وَهُمْ فِي مَا ٱشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ } والفعل "جنب" يتعدى إلى مفعولين، أولهما هنا هو لفظ الأتقى، الذى ارتفع على أنه نائب فاعل، والمفعول الثانى هو الهاء.
ثم وصف - سبحانه - هذا الإِنسان المبالغ فى تقواه وطاعته لربه فقال: { ٱلَّذِى يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ } أى: هذا الإِنسان الشديد التقوى من صفاته أنه يقد ماله لغيره، وينفقه فى وجوه البر والطاعة، رجاء أن يكون عند ربه زاكيا ناميا، خاليا من شبهة الرياء والتفاخر، وأملا فى أن يتطهر به من الذنوب.
فقوله { يتزكى } فى محل نصب على الحال من فاعل { يؤتى } أى: يؤتى ماله حال كونه لا يطلب من وراء ذلك إلا تزكية ماله، وتطهير نفسه.
وقوله - سبحانه -: { وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ. إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ ٱلأَعْلَىٰ } بيان لبلوغه أسمى درجات الإِخلاص والنقاء.
أى: أن هذا الإِنسان الكامل فى تقاه لا يفعل ما يفعل من وجوه الخيرات، من أجل المجازاة لغيره على نعمة سلفت من هذا الغير له، وإنما يفعل ما يفعل من أجل شئ واحد، وهو طلب رضا الله - تعالى - والظفر بثوابه، والإِخلاص لعبادته - سبحانه -.
قال الآلوسى: وقوله: { إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ ٱلأَعْلَىٰ } منصوب على الاستثناء المنقطع من قوله: { مِن نِّعْمَةٍ } لأن الابتغاء لا يندرج فيها، فالمعنى: لكنه فعل ذلك لابتغاء وجه ربه - سبحانه - وطلب رضاه، لا لمكافأة لأحد على نعمة.
وجوز أن يكون نصبه على أنه مفعول لأجله، أى: لا يؤتى ماله لأجل شئ من الأشياء إلا لأجل طلب رضا ربه، لا لأجل شئ آخر، فهو استثناء مفرغ من أعم العلل والأسباب..
وقوله - سبحانه -: { وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ } المقصود به الوعد الصادق لهذا التقى، بما يزيد فى سروره، وفى قرة عينه.
أى: ولسوف نعطى هذا التقى الذى أعطى واتقى وصدق بالحسنى، من أجل الظفر برضا ربه - تعالى - لا من أجل شئ آخر.. لسوف نعطيه عطاء يرضيه ويسعده ويشرح صدره.
هذا، وأكثر المفسرين على أن هذه الآيات الكريمة نزلت فى شأن سيدنا أبى بكر الصديق - رضى الله عنه -.
قال الإِمام ابن جرير ما ملخصه: وذكر أن هذه الآيات نزلت فى أبى بكر الصديق.. فقد كان يعتق العجائز من النساء إذا أسلمن، ويشترى الضعفة من العبيد فيعتقهم، فقال له أبوه: يا بنى، أراك تعتق أناسا ضعفاء، فلو أنك تعتق رجالا جلداء - أى: أشداء - يقومون معك، ويمنعونك، ويدفعون عنك.
فقال أبو بكر: أى أبت.. إنما أريد ما عند الله، فنزلت هذه الآيات..
وقال الإِمام ابن كثير: وقد ذكر غير واحد من المفسرين، أن هذه الآيات قد نزلت فى أبى بكر الصديق - رضى الله عنه - حتى إن بعضهم حكى الإِجماع من المفسرين على ذلك، ولا شك أنه داخل فيها، وأولى الأمة بعمومها، فإن لفظها لفظ العموم، وهو قوله: { وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى. ٱلَّذِى يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ... } ولكنه مقدم الأمة، وسابقهم فى جميع هذه الأوصاف، وسائر الأوصاف الحميدة، فإنه كان صديقا، تقيا، كريما، جوادا، بذالا لماله فى طاعة مولاه، ونصرة رسوله صلى الله عليه وسلم..
نسأل الله - تعالى - أن يحشرنا جميعا فى زمرة عباده الأتقياء الأنقياء.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.