التفاسير

< >
عرض

لَمْ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَٱلْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ
١
رَسُولٌ مِّنَ ٱللَّهِ يَتْلُواْ صُحُفاً مُّطَهَّرَةً
٢
فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ
٣
وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ
٤
وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُواْ ٱلزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ ٱلقَيِّمَةِ
٥
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَٱلْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَوْلَـٰئِكَ هُمْ شَرُّ ٱلْبَرِيَّةِ
٦
إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُوْلَـٰئِكَ هُمْ خَيْرُ ٱلْبَرِيَّةِ
٧
جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رِّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ
٨
-البينة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

"مِنْ" فى قوله - تعالى - { مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ } للبيان، وقوله - سبحانه -: { مُنفَكِّينَ }: للعلماء فى معنى هذا اللفظ أقوال متعددة، منها: أنه اسم فاعل من انفك بمعنى انفصل، يقال: فككت الشئ فانفك إذا افترق ما كان ملتحما منه.
والبينة: الحجة الظاهرة التى يتميز بها الحق من الباطل، وأصلها من البيان بمعنى الظهور والوضوح، لأن بها تتضح الأمور، أو من البينونة بمعنى الانفصال، لأن بها ينفصل الحق عن الباطل بعد التباسهما.
والمراد بها هنا: رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقوله - تعالى - بعد ذلك: { رَسُولٌ مِّنَ ٱللَّهِ يَتْلُواْ صُحُفاً مُّطَهَّرَةً }، ولأنه صلى الله عليه وسلم كان فى ذاته برهانا على صحة ما ادعاه من النبوة، لتحليه بكمال العقل وبمكارم الأخلاق، ولإِتيانه بالمعجزات التى تؤيد أنه صادق فيما يبلغه عن ربه.
والمعنى: لم يكن الذين كفورا من أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى، ولم يكن - أيضاً - الذين كذبوا الحق من المشركين، ولم يكن الجميع بمفارقين وبمنفصلين عن كفرهم وشركهم، { حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ } التى هى الرسول صلى الله عليه وسلم فلما أتتهم هذه البينة، منهم من آمن ومنهم من استمر على كفره وشركه وضلاله.
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله: "كان الكفار من الفريقين، أهل الكتاب، وعبدة الأصنام، يقولون قبل مبعث النبى صلى الله عليه وسلم: لا ننفك عما نحن عليه من ديننا، ولا نتركه حتى يبعث النبى المكتوب فى التوراة والإنجيل، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، فحكى الله - تعالى - ما كانوا يقولونه، ثم قال: { وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ }، يعنى أنهم كانوا يَعِدُون باجتماع الكلمة، والاتفاق على الحق، إذا جاءهم الرسول، ثم ما فرقهم عن الحق، ولا أقرهم على الكفر، إلا مجئ الرسول صلى الله عليه وسلم، ونظيره فى الكلام أن يقول الفقير الفاسق لمن يعظه: لست بمنفك عما أنا فيه حتى يرزقنى الله - تعالى - الغنى، فيرزقه الله الغنى فيزداد فسقا، فيقول له واعظه: لم تكن منفكا عن الفسق حتى توسر، وما غمست رأسك فى الفسق إلا بعد اليسار، يذكره ما كان يقوله توبيخا وإلزاما.
وانفكاك الشئ من الشئ، أن يزايله بعد التحامه به. كالعظم إذا انفك من مفصله.
والمعنى: أنهم متشبثون بدينهم لا يتركونه إلا عند مجئ البينة.
ومنهم من يرى: أن { مُنفَكِّينَ } بمعنى متروكين لا بمعنى تاركين، أى: لم يكونوا جميعا متروكين على ما هم عليه من الكفر والشرك، حتى تأتيهم البينة، على معنى قوله - تعالى -:
{ أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى } أو المعنى: لم يكن هؤلاء القوم منفكين من أمر الله - تعالى - وقدرته ونظره لهم، حتى يبعث الله - تعالى - إليهم رسولا منذرا، تقوم عليهم به الحجة، ويتم على من آمن النعمة، فكأنه - تعالى - قال: ما كانوا ليتركوا سدى..
وهناك أقوال أخرى فى معنى الآية رأينا أن نضرب عنها صفحا لضعفها.
وقد قدم الله - تعالى - ذكر أهل الكتاب فى البيان، لأن كفرهم أشنع وأقبح. إذ كانوا يقرأون الكتب، ويعرفون أوصاف النبى صلى الله عليه وسلم فكانت قدرتهم على معرفة صدقه أكبر وأتم. وفى التعبير عنهم بأهل الكتاب دون اليهود والنصارى، تسجيل للغفلة وسوء النية عليهم. حيث علموا الكتاب. وعرفوا عن طريقه أن هناك رسولا كريما قد أرسله الله - تعالى - لهدايتهم، ومع ذلك كفروا به، كما قال - تعالى -:
{ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } وقوله - سبحانه -: { رَسُولٌ مِّنَ ٱللَّهِ يَتْلُواْ صُحُفاً مُّطَهَّرَةً } بدل من "البيِّنَةِ" على سبيل المبالغة، حيث جعل - سبحانه - الرسول نفس البيئة.
أى: لم يفارقوا دينهم حتى جاءهم رسول كريم، كائن من عند الله - تعالى - لكى يقرأ على مسامعهم صحفا من القرآن الكريم، مطهرة، أى: منزهة عن الشرك والكفر والباطل، وهذه الصحف من صفاتها - أيضا - أنها { فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } أى: فيها سور آيات قرآنية مستقيمة لا عوج فيها، بل هى ناطقة بالحق والخير والصدق والهداية، وبأخبار الأنبياء السابقين وبأحوالهم مع أقوامهم.
فقوله: { قَيِّمَةٌ } بمعنى مستقيمة لا عوج فيها ولا اضطراب، من قولهم: قام فلان يقوم، إذا استوى على قدميه فى استقامة.
ثم بين - سبحانه - ما كان عليه أهل الكتاب من جحودهم للحق، ومن إنكارهم له مع علمهم به، فقال - تعالى - { وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ }. أى: أن الجاحدين والمعاندين والحاسدين لك - أيها الرسول الكريم - من أهل الكتاب، ما تفرقوا فى أمره، وما اختلفوا فى شأن نبوتك.. إلا من بعد أن جئتهم أنت بما يدل على صدقك، دلالة لا يجحدها إلا جهول، ولا ينكرها إلا حسود، ولا يعرض عنها إلا من طغى وآثر الحياة الدنيا.
فالآية الكريمة كلام مستأنف، المقصود به تسليته صلى الله عليه وسلم عما أصابه من هؤلاء الجاحدين فكأنه - سبحانه - يقول له: لا تحزن - أيها الرسول الكريم - لإِعراض من أعرض عن دعوتك من أهل الكتاب، فإن إعراضهم لم يكن عن جهل، وإنما عن عناد وجحود وحسد لك على ما آتاك الله من فضله.
وإنما خص - سبحانه - هنا أهل الكتاب بالذكر، مع أن الكلام فى أول السورة كان فيهم وفى المشركين، للدلالة على شناعة حالهم، وقبح فعالهم، لأن الإِعراض عن الحق ممن له كتاب، أشد قبحا ونكرا، ممن ليس له كتاب وهم المشركون.
والاستثناء فى الآية مفرغ، والمستثنى منه عموم الأوقات. والمعنى: لم يتفرق الجاحدون من الذين أوتوا الكتاب فى وقت من الأوقات، إلا فى الوقت الكائن بعد مجئ البينة لهم.
ومن الآيات القرآنية الكثيرة التى وردت فى هذا المعنى قوله - تعالى -
{ وَمَا تَفَرَّقُوۤاْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ } ثم بين - سبحانه - ما كان يجب عليهم أن يفعلوه، فقال: { وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُواْ ٱلزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ ٱلقَيِّمَةِ }.
والواو فى قوله - تعالى - { وَمَآ أُمِرُوۤاْ } للحال، فهذه الجملة حالية، والمقصود منها بيان أن هؤلاء الضالين، قد بلغوا النهاية فى قبح الأفعال، وفى فساد العقول، إذ أنهم تفرقوا واختلفوا وأعرضوا عن الهدى، فى حال أنهم لم يؤمروا إلا بما فيه صلاحهم.
وقوله: { حنفاء } من الحَنف، وهو الميل من الدين الباطل إلى الدين الحق. كما أن الجنف هو الميل من الحق إلى الباطل.
أى: أن هؤلاء الكافرين من أهل الكتاب تفرقوا واختلفوا فى شأن الحق، والحال، أنهم لم يؤمروا إلا بعبادة الله - تعالى - وحده، مخلصين له الطاعة، ومائلين عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق، مؤمنين بجميع الرسل بدون تفرقة بينهم، إذ ملتهم جميعا واحدة، ولم يؤمروا - أيضا - إلا بإقامة الصلاة فى أوقاتها بخشوع وإخلاص لله رب العالمين، وبإيتاء الزكاة التى تطهرهم وتزكيهم.
{ وذلك } الذى أمرناهم به من إخلاص العبادة لنا، ومن أداء فرائضنا { دِينُ ٱلقَيِّمَةِ }. أى: دين الملة المستقيمة القيمة، أو دين الكتب القيمة.
ولفظ "القيمة" بزنة فيعلة - من القوامة، وهى غاية الاستقامة، وهذا اللفظ صفة لموصوف محذوف.
ثم - بين - سبحانه - سوء عاقبة هؤلاء الجاحدين من أهل الكتاب ومن المشركين فقال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَٱلْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ }.
أى: إن الذين أصروا على كفرهم بعد أن تبين لهم، من اليهود والنصارى، ومن المشركين الذين هم عبدة الأصنام.. مكانهم المهيأ لهم هو نار جهنم، حالة كونهم خالدين فيها خلودا أبديا { أولئك } الموصوفون بتلك الصفات الذميمة { هُمْ شَرُّ ٱلْبَرِيَّةِ } أى: هم شر كل صنف من أصناف المخلوقات، لإِصرارهم على الكفر والإِشراك مع علمهم بالحق.
ولفظ "البرية" من البرَى وهو التراب، لأنهم قد خلقوا فى الأصل منه، يقال: فلان برَاه الله - تعالى - يبرُوه بَرْواً. أى: خلقه. وقرأ نافع بالهمز، من قولهم برأ الله - تعالى - الخلق يبرؤهم، أى: خلقهم.
وقدم سبحانه - أهل الكتاب فى المذمة، لأن جنايتهم فى حق الرسول صلى الله عليه وسلم أشد، إذا كانوا يستفتحون به على المشركين ويقولون لهم: إن نبيا قد أظلنا زمانه، وإننا عند مبعثه سنتبعه.. فلما بعث صلى الله عليه وسلم كفروا به.
وقد تضمنت هذه الآية الكريمة أمرين: الأول: أن هؤلاء الضالين خالدون فى النار، والثانى: أنهم شر المخلوقات التى خلقها الله - تعالى -.
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك حسن عاقبة المؤمنين فقال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } أى: وعملوا الأعمال الصالحات { أُوْلَـٰئِكَ هُمْ خَيْرُ ٱلْبَرِيَّةِ } أى: أولئك هم خير المخلوقات التى خلقها الله - تعالى -.
{ جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } أى: جزاؤهم الطيب الكائن لهم عند ربهم وخالقهم ومالك أمرهم.
{ جَنَّاتُ عَدْنٍ }. أى: جنات يقيمون فيها إقامة دائمة، من عدن فلان بالمكان إذا أقام فيه. { تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } أى: تجرى من تحت أشجارها وثمارها الأنهار { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } أى: خالدين فى تلك الجنات خلودا أبديا.
{ رِّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } أى: قبل الله - تعالى - منهم أعمالهم ورضيها عنده، وفرحوا هم ورضوا بما أعطاهم من خير عميم.
فالمراد برضاء - تعالى - عنهم: قبوله لأعمالهم، وبرضاهم عنه: فرحهم بما أعطاهم من فضله. { ذلك } أى: العطاء الجزيل { لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ } أى: كائن وثابت لمن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى.
نسأل الله - تعالى - أن يجعلنا جميعا من أصحاب الميمنة.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.