التفاسير

< >
عرض

هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذٰلِكَ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ يُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
٥
-يونس

خواطر محمد متولي الشعراوي

وبعد أن بيَّن الحق أنه خلق السماء والأرض وخلق الكون كله وسخره للإنسان جاء لنا بنعم من آياته التي خلقها لنا، والتي جعلها الله سبحانه وتعالى سبباً لقوام الحياة؛ فالشمس هي التي تُنضج لنا كل شيء في الوجود، وتعطي لكل كائن الإشعاع الخاص به، كما أن الشمس تبخر المياه - كما قلنا من قبل - لينزل الماء بعد ذلك عذباً فراتاً، يرتوي منه الإنسان وتشرب منه الأنعام ونروي به الزرع.
والشمس هي الأم لمجموعة من الكواكب التي تدور حولها، فدورة الأرض حول الشمس تمثل السنة، ودورة الأرض حول نفسها تمثل اليوم. فيقول الحق سبحانه هنا:
{ هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُوراً } ولو نظرت إلى المعنى السطحي في الشمس والقمر لقلت: إن الشمس تعطي نوراً وكذلك القمر، ولكن النظرة الأعمق تتطلب منك أن تفرِّق بين الاثنين؛ فالشمس تعطي ضياء، والقمر يعطي نوراً. والفرق بين الضياء والنور يتمثل في أن الضياء تصحبه الحرارة والدفء، والنور إنارة حليمة، ولذلك يسمى نور القمر النور الحليم؛ فلا تحتاج إلى الظل لتستظل من حرارته، لكن الشمس تحتاج إلى مظلة لتقيك حرارتها.
إذن: فالنور هو ضوء ليس فيه حرارة، والحرارة لا تنشأ إلا حين يكون الضوء ذاتيّاً من المضيء مثل الشمس. أما القمر فضوؤه غير ذاتي ويكتسب ضوءه من أشعة الشمس حين تنعكس عليه، فهو مثل المرآة حين تسلط عليها بعضاً من الضوء فهي تعكسه.
إذن: القمر مضيء بغيره، أما الشمس فهي تضيء بذاتها. لذلك قال الحق هنا: { جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُوراً }.
وكلمة { ضِيَآءً } إما أن تعتبرها مفرداً مثل صام صياماً، وقام قياماً، وضاء ضياءً. وإما أن تعتبرها جمعاً، مثلها مثل حوض ـ جمعه: حياض، ومثل روض ـ جمعه رياض، وكذلك جمع ضوء هو ضياء.
إذن كلمة { ضِيَآءً } تصلح أن تكون جمعاً وتصلح أن تكون مفرداً، وحين يجيء اللفظ صالحاً للجمع وللإفراد، لا بد أن يكون له عند البليغ ملحظ؛ لأنه يحتمل هذه المعاني كلها، وقبل معرفتنا أسرار ضوء الشمس وقبل تحليله، كنا نقول: إنه ضوء، لكن بعد أن حللنا ضوء الشمس، وجدنا أن ألوان الطيف سبعة منها ضوء أحمر، وضوء أخضر، وضوء أصفر، وغيرها.
إذن: فـ "ضياء" تعبر عن تعدد الألوان المخزونة في ضياء الشمس، فإن قلت: ضياء جمع ضوء، فهذا بتحليل الضوء إلى عناصره كلها، وإن قلت: ضياء مثل قيام، ومثل صيام، فهذا يصلح في المعنى العام.
ولذلك كان القرآن ينزل بما تحتمله العقول المعاصرة لنزوله التي لا تعرف المعاني العلمية للظواهر. ولو قال القرآن هذه الحقائق، لقال واحد: إنني أرى الشمس حمراء لحظة الغروب، وأراها صفراء لحظة الظهيرة، وهو لا يعلم أن الحمرة وقت الغروب هي حمرة في الرؤية لطول الأشعة الحمراء، وهي لا تظهر إلى حين الغروب حيث تكون الشمس في أبعد نقطة، فلا يصل إلينا إلا الضوء الأحمر، أما بقية الأضواء فهي تشع في الكون ولا تصل إلينا.
إذن: كلمة { ضِيَآءً }، إما أن تعتبرها جمع ضوء، مثل سوط وسياط، وحوض وحياض، وروض ورياض، وإما أن تعتبرها مفردة. هذه صالحة للمعنى العام، وتلك صالحة للمعنى التحليلي؛ ولذلك يقول الحق سبحانه في آية أخرى:
{ { تَبَارَكَ ٱلَّذِي جَعَلَ فِي ٱلسَّمَآءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً } [الفرقان: 61].
والسراج هو ما يعطي الضوء والحرارة، وهو وصف مناسب للشمس.
وهنا يقول الحق: { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ }، وكلمة { وَقَدَّرَهُ } تعود في ظاهر الأمر إلى القمر. لكن في الواقع أن الشمس لها منازل أيضاً، وقال الحق: { وَقَدَّرَهُ } لأن هناك شيئاً اسمه "الجعل"، فهو سبحانه جعل الشمس ضياء، وجعل القمر نوراً.
إذن: فالجَعْل جاء بأمرين اثنين؛ جعل للشمس ضياء وجعل للقمر نوراً، هذا الجعل نفسه جعله الله لنقدر به الزمن، فهو صالح للاثنين؛ للشمس وللقمر؛ لنعلم عدد السنين والحساب.
وفي العبادات نحتاج إلى تحديد بداية شهر رمضان؛ لنمارس عبادة الصوم، ونحتاج إلى تحديد أشهر الحج، وكذلك تحتاج المرأة مثلاً إلى حساب شهور العدة، وكل هذه التقديرات تخضع للهلال، فهو علامة واضحة للكل، فهو يبدأ صغيراً ويكبر ثم يصغر.
{ { وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ } [يس: 39].
و"العرجون" هو ما نسميه "السباطة" التي تحمل "شماريخ" البلح، وكانوا يصنعون منها قديماً المكانس التي يكنسون بها بيوت البادية والريف، وهكذا أعطانا الله تشبيهاً من البيئة التي عاش فيها العربي القديم.
وفي أول كل شهر كلنا نرى الهلال كعلامة مخبرة عن ميلاد الشهر، وهكذا تعلَّم الإنسان أن يحسب الشهور بتقدير منازل القمر، وبالنسبة للسنة؛ فالحق سبحانه يقول:
{ { إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ ٱللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ ... } [التوبة: 36].
والتقدير هنا اثنا عشر شهراً هلاليّاً. أما اليوم فيقدر بالشمس؛ لذلك فهي تدخل في تقدير المنازل. وهكذا نجد أن الحق سبحانه قد شاء أن يجعل "الجعل" لأمرين؛ مجعول الشمس، ومجعول القمر، مصداقاً لقوله: { وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ ذٰلِكَ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ }.
والحق - كما أوضحنا - هو الشيء الثابت الذي لا يتغير. وحين نتأمل مسار الأفلاك، ومسار الشمس، ومسار القمر، لا نجد فيها خلافاً، بل نجد مراصد الكفار تعلن مواعيد تواجد القمر بين الأرض والشمس، وقد توجد الأرض بين القمر والشمس، ويتسبب هذا في ظاهرتي الكسوف للشمس، والخسوف للقمر، وكل هذه الأمور تجدها عندهم غاية في الدقة.
{ { وَلاَ ٱلَّيلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [يس: 40].
وهذا القول الحكيم قد أثبت للعرب حكماً يعتقدونه، ونفى حكماً آخر يعتقدونه، فالعرب كانت تعتقد أن الليل قبل النهار، بدليل أن تحديد الليلة الأولى في رمضان هو الميعاد الذي يبدأ فيه شهر الصوم، وما داموا قد حكموا بأن الليل هو الذي يسبق النهار، فلا بد من حكم مقابل؛ وهو أن النهار لا يسبق الليل.
وجاء القرآن إلى القضية المتفق عليها وتركها، وهي أن النهار لا يسبق الليل مثلما اعتقد العرب، ونفى القرآن أن يسبق الليل النهار. وكان المخاطب - إذن - يعتقد أن الليل يسبق النهار، ويصحح الله المفاهيم فلا الليل يسبق النهار ولا النهار يسبق الليل.
وهكذا عرض الحق سبحانه للكونيات عرضاً رمزيّاً في القرآن؛ لأنه لو جاء بالتوضيح العلمي لذلك لكَذَّب العرب القرآن، فلو قال القرآن بصريح العبارة: إن الأرض كروية، لعارض الناس ذلك وقت نزول القرآن، وما زلنا نجد من يعارض تلك الحقيقة في أواخر القرن العشرين؛ لذلك لم يكشف الحق كل الحقائق الكونية، بل أشار إليها بما يحتمل قبول العربي البسيط لها.
وما دام لا يسبق النهار، والنهار لا يسبق الليل، فكيف جاء هذا الأمر - إذن؟
ونقول: هل خلق اللهُ الشمسَ مواجهة لسطح الأرض أولاً، ثم غابت الشمس فجاء الليل؟ كان هذا الأمر يصح لو أن الأرض كانت مسطوحة، ولكن الحق سبحانه خلق الأرض كروية، وذلك دليل على أن الحق سبحانه خلق الشمس والأرض على هيئة يوجد فيها الليل والنهار معاً، ولا يكون ذلك إلا إذا كانت الأرض كروية، فالنصف المواجه للشمس يكون الوقت فيه نهاراً، وغير المواجه لها يكون الوقت فيه ليلاً، ثم تدور الأرض؛ فيأتي النهار إلى القسم الذي كان ليلاً، ويأتي الليل للقسم الذي كان نهاراً.
إذن: فالحق سبحانه حكى في القرآن الكريم عن الأمور الكونية - التي سوف تستكشفها العقول بعد نزول القرآن - وعالجها بحكمة ودقة، وعلى سبيل المثال نجد قوله الحق:
{ { وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً... } [الفرقان: 62].
ثم يأتي التعليل:
{ { لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } [الفرقان: 62].
فالليل خلْفة النهار، ومعنى خلفة أي: يخلف غيره. والمثال من حياتنا نجده في دوريات الحراسة، نجد إنساناً يحرس موقعاً ما - مدّة ست ساعات مثلاً - وبعد انتهاء فترة الحراسة يسلم المهمة لحارس ثان، وبذلك يخلف واحدٌ الآخر، لكن من الذي بدأ المهمة الأولى في الحراسة قبل أن يأتي إنسان ليتسلم منه دورية الحراسة؟
وكذلك الأمر في الليل والنهار، فبيّن الحق سبحانه أن الليل والنهار خِلْفة، ومعنى ذلك أن كلا منهما كان موجوداً من البدء ولأن الأرض تدور جاء النهار في البلاد التي تشرق فيها الشمس، وجاء الليل في البلاد التي تغيب عنها الشمس، وتتابع الليل والنهار. هكذا فَصَّل الحق سبحانه آياته لنا، وقال سبحانه: { يُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }.
ويقول سبحانه بعد ذلك:
{ إِنَّ فِي ٱخْتِلاَفِ ٱلَّيلِ... }.