التفاسير

< >
عرض

أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ ٱلأَحْزَابِ فَٱلنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ
١٧
-هود

خواطر محمد متولي الشعراوي

والبيِّنة هي بصيرة الفطرة السليمة التي تُلْفِت الإنسان إلى وجود واجب الوجود، وتوضِّح للإنسان أن هذا الكون الجميل البديع لا بُدَّ له من واجد.
وهكذا تكون الهداية بالبصيرة والفطرة.
والعربي القديم حين سار في الصحراء ووجد بَعْراً مُلْقَى في الصحراء، ورأى أثر قدم، فقال: "البَعْرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، وسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج، أفلا يدل كُلُّ ذلك على اللطيف الخبير؟".
وهكذا اهتدى الرجل بالفطرة، وهي بيِّنة من الله.
وقد أودع الله سبحانه في كل إنسان فطرة، وبهذه الفطرة شهدنا في عالم الذَّرِّ.
وفي ذلك يقول الحق سبحانه:
{ { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ .. } [الأعراف: 172].
إذن: فالبيِّنة هي إيمان الفطرة المركوز في ذرات الأشياء.
وقد تُضبِّب الشهوات هذا الإيمان، فلا يحمل نفسه على المنهج فيرسل الحق سبحانه رحمة منه رسلاً تذكِّرنا بالبينات الأولى، وتدلنا على العلل والأحكام حتى تنضمَّ البينة من الرسل على البينة من الفطرية في الكائن.
وهكذا يبيِّن الحق سبحانه وتعالى مناط الاقتناع بدين الله، فقد يكون هذا الأمر مجهولاً للخلق، فيريد سبحانه أن يبيِّن لنا أن هذا الجهل هو جهل غير طبيعي؛ لأن الفطرة السليمة تهتدي قبل أن يجيء رسولٌ يُلْفِتنا إلى القوة العليا التي تدبِّر حركة هذا الكون.
وقد ضربت من قبل مثلاً لذلك بمن سقطتْ به طائرة في الصحراء، لا ماء فيها ولا طعام ولا أنيس ولا مأوى، ثم غلبه النوم فنام، وحين استيقظ وجد مائدة منصوبة عليها أطايب الطعام وأطيب الشراب، ووجد صواناً منصوباً ليأوي إليه؛ فلا بد لهذا الإنسان أن يدور بفكره سؤالٌ: من صنع هذا؟
وهو سيسأل نفسه هذا السؤال قبل أن يستمتع بشيء من هذا، خصوصاً وأنه لم يجد أحداً يقول له: أنت في ضيافتي.
إذنْ: فلا بد أن يفكر بعقله.
وكذلك الإنسان الذي طرأ على الوجود، وما ادَّعى واحدٌ من خَلْق الله تعالى أنه خلق هذا الوجود، وما ادَّعى أحدٌ أنه خلق السماوات والأرض، وما ادَّعى أحدٌ أنه سخَّر كلَّ ما في الكون لخدمة الإنسان.
وكان من الواجب على الإنسان قبل أن ينعم بهذا، أن يفكر: من الذي صنع له كل ذلك؟ فإذا جاء رسول من جنس الإنسان ليقول له: أنا جئت لأحل لك اللغز المطلوب لك.
هنا كان على الإنسان أن يرهف سمعه لذلك الرسول؛ لأنه قد جاء ليحلَّ للإنسان أمراً يشغل باله.
ومن لطف الله سبحانه بنا أنه لم يطلب منا مقدَّماً أن نفكر في ذلك، بل تركنا فترة طويلة بلا تكليف في هذه الدنيا، لينعم الإنسان بخير ربه، وبعد ذلك إذا ما جاء اكتمال الرشد ونضج، ولم يكن مكرهاً؛ فالحق سبحانه وتعالى يكلفه بتكاليف الإيمان.
ولا بد للإنسان أن يتساءل: فكل شيء - مهما كان تافهاً - لا بد له من صانع، والمصباح الذي يضيء دائرة قطرها 20 متراً، عرفنا صانعه، ودرسنا المعامل التي أنجزته، والإمكانات التي تم استخدامها، والمواد التي صنع منها، أفلا نعرف تاريخ هذه الشمس، ومن جعلها لا تحتاج إلى صيانة ولا إلى وقود ولا إلى قطع غيار، وتنير نصف الكرة الأرضية؟
هذه مسألة كان يجب أن نبحثها؛ لنرى آفاق تلك البينة، بينة نور وقوة وفطرة، يهبها الله للإنسان المفكر؛ ليهتدي إلى أن وراء هذه الكون خالقاً مدبراً.
فإذا ما جاء إنسان مثله ليقول له: إن خالق الدنيا هو الله تعالى، وهو سبحانه يطلب منك كذا وكذا، كان أمراً منطقياً وطبيعياً أن نسمع لهذا الإنسان ونطابق ما يقول على إحساس الفطرة ورؤية البينات.
إذن: فنحن نصل إلى المجهول أولاً بالفطرة، وقد نصل بالبديهة التي لا تشوبها أدنى شبهة، فأنت حين ترى دخاناً تعتقد بالبديهة أن هناك ناراً، وحين تسير في الصحراء وترى خضرة؛ ألا تعتقد أن هناك مياهاً ترويها؟
هذه - إذن - أمور تعرفها بالبديهة، ولا تحتاج إلى بحث أو جهد.
وهناك أمور قد تتطلب منك جهداً عقلياً تبحث به عما بعد المقدمات، مثل الجهد العقلي الذي استدل به العربي على أن هناك إلهاً خالقاً يُدير هذا الكون، فاستدل من البعرة على وجود البعير، وأن أثر القدم يدل على المسير، واستنتج من ذلك أن الكواكب ذات الأبراج، والأرض ذات الفجاج، والبحار ذات الأمواج، كلها أمور تدل على وجود اللطيف الخبير.
كل هذه الأمور لم يقدر العقل إلا على الحكم عليها جملة، وإن لم يعرف التفصيل.
لقد عرف العقل أن وراء هذا الكون خالقاً، صانعاً، حكيماً، لكنه لم يعرف اسماً له، وهذا أمر لا يعرفه الإنسان بالعقل، ولا يعرف أيضاً ما هو المنهج المطلوب لهذا الخالق، وبماذا يجزي المطيع له، ولا بماذا يعاقب العاصي له.
إذن: لا بد من بلاغ عن الله تعالى يدل على القوة التي اقتنعت بها جملة.
والمفكرون بالعقل في الكون يعلمون أن وراء هذا الكون خالقاً، لكن لا يعرفون اسمه، ولا مطلوبه.
إذن: فأنت لا تعرف اسم الله إلا منه، عن طريق الوحي إلى رسوله، ولا تعرف مطلوب الله إلا من الرسول الذي أنزل عليه البلاغ.
ومن رحمة الله بالإنسان أنه سبحانه قد أرسل رسولاً، ومع هذا الرسول معجزة هي القرآن؛ لأن العقل حتى حين يهتدي إلى قوة القادر الأعلى سبحانه، فإنها ستظل بالنسبة له مبهمة، وحين أنزل الحق سبحانه القرآن الكريم فقد أنزله رحمة بعباده وبينة لهم.
{ أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ .. } [هود: 17].
فالقرآن حجة ونور، وهو يهدي البصيرة الفطرية الموجودة في الإنسان { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ .. } [هود: 17] وهو من أنزل عليه الوحي، ويخبرنا عن الحق سبحانه وتعالى ما يوضح لنا أن الخالق الأعلى والقوة المطلقة هو الله سبحانه، ويوضح لنا الشاهد مطلوب الله تعالى.
ونحن هنا أمام ثلاثة شهود:
الشاهد الأول: هو الحجة والبينة.
والشاهد الثاني: هو البرهان والبصيرة التي يهتدي إليها العقل، والرسول هو من يبين لنا المنهج بعد الإجمال.
وهذا الرسول جاء من قبله كتاب موسى:
{ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَاماً وَرَحْمَةً .. } [هود: 17].
وهذا هو الشاهد الثالث.
ومن لا يلتفت إلى المدلول بالأدلة الثلاثة مقصِّر؛ فمن عنده تلك البينة، ومن سمع الشاهد من الرسول، والشاهد الذي قبله، وهو كتاب موسى عليه السلام وشاهد بعده إلى نفس قوم موسى لا بد أن يقوده ذلك إلى الإيمان.
وقول الحق سبحانه:
{ أُوْلَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ .. } [هود: 17].
إشارة إلى من التفتوا إلى الأدلة: بينة، وشاهداً، وشاهداً من قبله.
ثم يقول الحق سبحانه:
{ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ ٱلأَحْزَابِ فَٱلنَّارُ مَوْعِدُهُ .. } [هود: 17].
والكفر - كما علمنا - هو الستر، والكفر في ذاته دليل على الإيمان، فلا يكفر أحد بغير موجود.
فوجود المكفور به سابق على الكفر، والكفر طارىء عليه.
إذن: فالكفر طارىء على الإيمان؛ لأن الإيمان هو أصل الفطرة.
{ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ ٱلأَحْزَابِ فَٱلنَّارُ مَوْعِدُهُ .. } [هود: 17].
وكلمة "أحزاب" جمع حزب. والحزب هو الجماعة الملتقية على مبدأ تتحمس لتنفيذه، مثل الأحزاب التي نراها في الحياة السياسية، وهي أحزاب بشرية تتصارع في المناهج والغايات، وهم أحرار في ذلك؛ لأنهم يتصارعون بفكر البشر.
أما في العقيدة الأولى، فَمنَ المُخطِّط الأعلى، وهو الحق سبحانه وتعالى، فالمنهج يأتي منه؛ لأن هذا المنهج يوصل إليه؛ لذلك قال الله سبحانه عمَّن يتبعون منهجه:
{ { أُوْلَـٰئِكَ حِزْبُ ٱللَّهِ .. } [المجادلة: 22].
أي: أنهم يدخلون في حزب يختلف عن أحزاب البشر التي تختلف أو تتفق في فكر البشر.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ ٱلأَحْزَابِ فَٱلنَّارُ مَوْعِدُهُ .. } [هود: 17].
والمقصود بهم كفار قريش عبدة الأوثان، والصابئة واليهود والنصارى الذين لم يؤمنوا برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل منهم جماعة تمثل حزباً، ويقول عنهم الحق سبحانه:
{ { .. كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [المؤمنون: 53].
ومن يكفر من هؤلاء برسالة رسول الله وبرسول الله فالجزاء هو النار، وبذلك بيَّن لنا الحق سبحانه أن هنالك حزبين: حزب الله، والأحزاب الأخرى، وهما فريقان كلّ منهما مواجه للآخر.
ويقول الحق سبحانه لرسوله، والمراد أيضاً أمة محمد صلى الله عليه وسلم:
{ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ .. } [هود: 17].
أي: لا تكن يا رسول الله في شك من ذلك؛ لأن رسالتك وبعثتك تقوم على أدلة البينة والفطرة والهدى والنور المطلوب من الله تعالى، والشاهد معك، كما شهد لك من جاء من قبلك أنك جئت بالمنهج الحق:
{ إِنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ .. } [هود: 17].
والحق - كما علمنا من قبل - هو الشيء الثابت الذي لا يعتريه تغيير، وهذا الحق لا يمكن أن يأتي إلا من إله لا تتغير أفعاله.
ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله:
{ .. وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ } [هود: 17].
وهؤلاء لا يؤمنون عناداً؛ لأن الأدلة منصوبة بأقوى الحجج، ومَنْ يمتنع عليها هو مجرد معاند.
والحق سبحانه يقول في مثل هؤلاء المعاندين:
{ { وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً .. } [النمل: 14].
أي: أنهم مع كفرهم يعلمون صدق الأدلة على رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى صدق بعثته، فيكون كفرهم حنيئذ كفر عناد؛ لأن الأدلة منصوبة بأقوى الحجج، فيكون من يمتنع على الإيمان بهذه الأدلة إنساناً معانداً.
يقول الحق سبحانه وتعالى:
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً ... }.