التفاسير

< >
عرض

وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ
٣٧
-هود

خواطر محمد متولي الشعراوي

وهكذا علم نوح بمسألة الإغراق من خلال الوحي له بصنع السفينة. ومعنى "اصنع" أي: اعمل الصنعة، وهناك فرق بين الصنعة والحرفة، فالصنعة أنْ تُوجِدَ معدوماً، كصانع الأكواب، أو صانع الأحذية، أو صانع النَّجَفَ، أو صانع الكراسي، أما الذي يقوم على صيانة الصنعة فهو الحرفيُّ.
وهناك عملية أخرى للاستنباطات مثل مهنة الزارع الذي يحرث الأرض ويبذر فيها الحَبَّ ويرويها ليستنبط منها النباتات، ويسمَّى صاحب هذه المهنة "زارع" أو "فلاَّح"؛ لأن اقتيات الحياة المباشر يأتي من الزراعة.
أما الصانع فيأتي بشيء من متطلبات الحياة، في تطورها ويوجد آلةً أو يصنع جهازاً لم يكن موجوداً، والحرفيُّ هو الذي يصون تلك الآلة، أما التاجر فهو الذي يقوم بعمليةٍ تجمع كل ذلك، ويكون هو الوسيلة بين منتج الشيء والمستهلك، فالتاجر يكون لعرض الأشياء بغية البيع والشراء.
والحق سبحانه وتعالى يقول هنا لنوح عليه السلام:
{ وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ .. } [هود: 37].
أي: أوجد شيئاً من عدم، إلا أن هذا الشيء سيصنع من شيء آخر موجود، لأن نوحاً عليه السلام قد زرع من قبل شجرة وعاشت معه كل هذه المدة الطويلة، وتضخَّمت في الجذع والفروع.
وبدأ نوح عليه السلام في عملية شقِّ الشجرة ليصنع منها السفينة التي بلغ طولها - كما قيل - ثلاثمائة ذراع وبلغ عرضها خمسين ذراعاً، وبلغ ارتفاعها ثلاثين ذراعاً ومكوَّنة من ثلاثة أدوار لتسع المؤمنين، وزوجين من كل نوع من حيوانات الأرض ودوابِّها وهوامها وسباعها ووحوشها.
ونحن قد علمنا أن الشجرة التي زرعها نوح عليه السلام قد تضخَّمت جداً لطول المدَّة التي قضاها نوح في دعوته لقومه؛ ونعلم أيضاً أن جذع الشجرة ينمو دائرياً بمقدار دائرة كل عام. وحين نقطع جذع الشجرة نجد أن قطر الجذع مكوَّن من دوائر، وكل دائرة تمثِّل عاماً من عمرها.
وهكذا بلغ حجم الشجرة ما يساعد نوحاً عليه السلام على أن يصنع السفينة.
وقد علَّمه الحق سبحانه بالوحي وإلهام الخواطر كيف يصنع السفينة، ألمْ يُلهِم الله سبحانه نبيَّه داود عليه السلام في مسألة الحديد؟ وقال لنا سبحانه أنه - جلَّ وعَلا - قد أمر الجبال أن تُؤَوِّب معه، وكذلك الطير، فألان له الحديد دون نار:
{ { يٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَٱلطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ * أَنِ ٱعْمَلْ سَابِغَاتٍ .. } [سبأ: 10-11].
هكذا أخبرنا الحق سبحانه أن الحديد صار ليِّنًا دون نار - بإذنه سبحانه - ليصنع منه داود دروعاً كبير مستوفية للظهور والصدر، لتحمي معاطب الإنسان.
وقد أوحى الحق سبحانه لداود عليه السلام أن يصنع تلك الدروع بطريقة عجيبة، بأن يجعلها سابغات.
والسابغة هي المسرودة، مثل الحصير، حيث يُوضع العُود بجانب العود، ويربط الأعواد كلها بطريقة تسهل من فَرْد الحصير أو لَفِّه.
وفي نفس الآية يبيِّن لنا الحق سبحانه كيفية الوحي لداود عليه السلام بتلك الصناعة الدقيقة، فيقول سبحانه:
{ { وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ .. } [سبأ: 11].
أي: أنك يا داود حين تنسج الحديد الليِّن - بإذن الله تعالى - لتجعله دروعاً عليك أن تصنع تلك الدروع بتقدير دقيق كي لا تكون الدِّرع ضيِّقة على صدر المقاتل فتضيق حركته، وتقلِّل من قدرته على التنفس، فيلهث بسرعة، ولا يستطيع مواصلة القتال.
وكذلك يجب ألاَّ تكون الدِّرع واسعة على صدر المقاتل؛ حتى لا تساعد سعة الدِّرع سيف الخصم، فيضرب الدِّرع نفسه صدر المقاتل، وتكون قوة الدِّرع مضافة إلى قوة سيف الخصم، ولكن حين تكون الدِّرع قادرة على الإحاطة بالجسم دون أن يُكبِّل الحركة، فهذه الدِّرع المناسبة للقتال.
وقد أتقن داود عليه السلام صناعة تلك الدُّروع بتلك الهندسة الدقيقة التي أوحى الحق سبحانه بها إليه، فقد صنعها بأمر الحق الأعلى سبحانه حين قال له:
{ { وَقَدِّرْ .. } [سبأ: 11] وكلمة قدر تعطي معنى التقدير والإتقان.
فعلى الذين يصنعون الأشياء عليهم أن يعلموا أن القرآن الكريم لحظة يوجِّه إلى الإتقان في الأداء والعمل، فإنه يعلمنا طريقة التقدير والإتقان في العمل والإبداع فيه، لنتخذ من هذا التوجيه نبراساً نسير عليه؛ ليكون العمل صالحاً، وأنت ترى من يتقن صنعته وهو يقول: "الله"، وكأن هذا القول اعتراف الفطرة الأولى بقدرة الحق سبحانه على أن يَهَبَ الإنسانَ طاقة الإتقان والإبداع.
ويقول الحق سبحانه أيضاً في تعليمه لداود عليه السلام:
{ { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ .. } [الأنبياء: 80].
وهكذا يلقي الله تعالى الخاطر في قلب الرسول أو النبي أن "افعل كذا"؛ فيفعل.
وحين ننظر إلى حضارة مصر القديمة، نجد كلَّ علومها وفنونها في التحنيط والألوان والنَّحت، كانت من اختصاص الكهنة الذين يُمثِّلون السلطة الدينية، ولم يكتب هؤلاء الكهنة أسرار تلك العلوم، فلم يستطع أحد من المعاصرين أن يتعرف عليها.
وهكذا نجد أن كل أمر في أصوله؛ مصدره السماء.
وفي قصة نوح عليه السلام نجد الحق سبحانه يقول:
{ وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } [هود: 37].
ومعنى "بأعيننا" هو بحفظنا وبرعايتنا. وكلمة "بأعيننا" تفيد شمول الحفظ وكمال الرعاية.
ألم يقل الحق سبحانه في مسألة تخصُّ رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم؟
{ { وَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا .. } [الطور: 48].
وكذلك قال سبحانه في قصة سيدنا موسى عليه السلام:
{ { .. وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِيۤ } [طه: 39].
وأنقذ الحق سبحانه موسى عليه السلام من الفرعون الذي كان يقتل أطفال بني إسرائيل، وألقى الله تعالى المحبة لموسى في قلب زوجة الفرعون، وقال سبحانه:
{ { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي .. } [طه: 39].
لأن موسى عليه السلام حين كان طفلاً رضيعاً قد ألقيَ في اليَمِّ، والتقطه رجال الفرعون، لكن زوجة الفرعون قالت لزوجها طالبة لموسى الحياة:
{ { قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ .. } [القصص: 9].
ونحن نجد أن عَدُوَّ موسى وقومه، يلتقط موسى ليعيش في كنفه ورعايته، وكأن الله سبحانه يقول لهم: سأجعلكم تُربُّون مَنْ يتولّى قهركم.
وقول الحق سبحانه:
{ وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا .. } [هود: 37].
أي: إنك إن توقَّفتَ لأية عقبة، فسوف نُلهمك بما تُواجه به تلك العقبة.
وحين صنع نوح عليه السلام الفُلْك احتاج لألواح خشبية، ولا بد أن تتماسك تلك الألواح، ولم تكن المسامير قد اختُرعتْ بَعْدُ، فأوحى له الله تعالى أن يربط الألواح بالحبال المجدولة، وقد فعل هذا أحد مكتشفي أمريكا في العصر الحديث، حين صنع سفينة من نبات البَرْدِى وربطها بالحبال المجدولة القوية.
وقال الحق سبحانه في طريقة صنع سفينة نوح عليه السلام:
{ { وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ } [القمر: 13].
أي: أن نوحاً عليه السلام قد أحضر ألواحاً من الخشب وربطها بحبال مجدولة، وأحْكَمَ الرَّبط بقدر مقتدر بما لا يسمح بتسرب الماء إلى داخل السفينة.
مثلما تصنع البراميل الخشبية في عصرنا، حيث يصنعها الصانع من قطع خشبية مستطيلة، ويرتّبها ثم يُحْكم رَبْطَها بإطار قويٍّ، وحين يوضع فيها أي سائل، فالخشب يتشرَّب من هذا السائل ويتمدَّد ليسدَّ المسَام، فلا ينضح السائل من البرميل؛ لأن الخشب هو المادة الوحيدة التي تتمدّد بالبرودة على العكس من كل المواد التي تتمدّد بالحرارة.
ولذلك نجد النَّجَّار الحاذق في صنعته هو مَنْ يصنع الأثاث أو الأبواب أو الشبابيك في الفصول الرتيبة؛ لأنه إن صنعها في الصيف، سنجد الخشب وهو منكمش؛ فإذا ما جاء الشتاء تمدَّد ذلك الخشب وسبَّب عدم إحكام إغلاق الأبواب والنوافذ، وكذلك إن صنعها في الشتاء والخشب متمدِّد سيأتي الصيف وتنكمش الأبواب، وتكون لها متاعبها، فلا يسهل ضبط إغلاق الأبواب أو ضبط أي صندوق أو شبَّاك بإحكام.
ثم يقول الحق سبحانه:
{ .. وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } [هود: 37].
أي: لا تحدِّثني في أمر المغفرة لمن ظلموا أنفسهم بالكفر، وهم مَن ارتكبوا الظلم العظيم، وهو الكفر في القمة العقدية، وهي الإيمان بالله تعالى واحداً أحداً لا شريك له؛ لذلك استحقوا العقاب، وهو الإغراق.
وهكذا عَلِمَ نوح عليه السلام أنَّ صُنْعِ السفينة مرتبط بلون العقاب الذي سيقع على مَنْ كفروا برسالته، فهو ومَنْ آمنوا معه سوف ينجون، أما مَنْ كفر فلسوف يغرق.
ويبيِّن الحق سبحانه وتعالى حين يقول:
{ وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ ... }.