التفاسير

< >
عرض

قَالُواْ يٰهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِيۤ آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ
٥٣
-هود

خواطر محمد متولي الشعراوي

وهم هنا ينكرون أن هوداً قد أتاهم بِبَيِّنة أو مُعجزةٍ.
والبيِّنة - كما نعلم - هي الأمارة الدالة على صدق الرسول.
وصحيح أن هوداً هنا لم يذكر معجزته؛ وتناسوا أن جوهر أي معجزة هو التحدي؛ فمعجزة نوح عليه السلام هي الطوفان، ومعجزة إبراهيم عليه السلام أن النار صارت برداً وسلاماً عليه حين ألقوه فيها.
ونحن نلحظ أن المعجزة العامة لكل رسول يمثلها قول نوح عليه السلام:
{ { .. يٰقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوۤاْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ ٱقْضُوۤاْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونَ } [يونس: 71].
أي: إن كنتم أهلاً للتحدي، فها أنا ذا أمامكم أحارب الفساد، وأنتم أهل سيطرة وقوة وجبروت وطغيان.
وأحْكِموا كيدكم؛ لكنكم لن تستطيعوا قتل المنهج الرباني؛ لأن أحداً لن يستطيعَ إطفاء نور الله في يد رسول من رسله؛ أو أن يخلِّصوا الدنيا منه بقتله.. ما حدث هذا أبداً.
إذن: فالبيِّنة التي جاء بها هود عليه السلام أنه وقف أمامهم ودعاهم إلى ترك الكفر؛ وهو تحدي القادرين عليه؛ لأنهم أهل طغيان؛ وأهل بطش؛ ومع ذلك لم يقدروا عليه؛ مثلما لم يقدر كفار قريش على رسولنا صلى الله عليه وسلم.
ونحن نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء ومعه المعجزة الجامعة الشاملة وهي القرآن الكريم؛ وسيظل القرآن معجزة إلى أن تقوم الساعة.
ونعلم أن غالبية الرسل - عليهم جميعاً السلام - قد جاءوا بمعجزات حسية كونية؛ انتهى أمدها بوقوعها، ولولا أن القرآن يخبرنا بها ما صدَّقناها، مثلها مثل عود الثقاب يشتعل مرة ثم ينطفىء.
فمثلاً شفى عيسى - عليه السلام - الأكمه والأبرص - بإذن ربه - فمَنْ رآه آمن به، ومَنْ لم يَرَه قد لا يؤمن، وكذلك موسى - عليه السلام - ضرب البحر بالعصا فانفلق أمامه؛ ومن رآه آمن به، وانتهت تلك المعجزات؛ لكن القرآن الكريم باقٍ إلى أن تقوم الساعة.
ويستطيع أي واحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم قبل قيام الساعة أن يقول: محمد رسول الله ومعجزته القرآن؛ لأن محمداً صلى الله عليه وسلم جاء رسولاً عامّا؛ ولا رسول من بعده؛ لذلك كان لا بد أن تكون معجزته من الجنس الباقي؛ ومع ذلك قالوا له:
{ { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ ٱلأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ ٱلسَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِٱللَّهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ قَبِيلاً } [الإسراء: 90-92].
وكل ما طلبوه مسائل حسية؛ لذلك يأتي الرد:
{ { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ .. } [العنكبوت: 51].
ومع ذلك كذَّبوا.
وأضاف قوم عاد:
{ .. وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِيۤ آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } [هود: 53].
هم - إذن - قد خدعوا أنفسهم بتسميتهم لتلك الأصنام "آلهة"؛ لأن الإله هو مَنْ يُنزل منهجاً يحدِّد من خلاله كيف يُعْبَد؛ ولم تَقُل الأصنام لهم شيئاً؛ ولم تُبلغهم منهجاً.
إذن: فالقياس المنطقي يُلغي تَصوُّر تلك الأصنام كآلهة؛ فلماذا عبدوها؟
لقد عبدوها؛ لأن الفطرة تنادي كل إنسان بأن تكون له قوة مألوه لها؛ والقوة المألوه لها إن كان لها أوامر تحدُّ من شهوات النفس، فهذه الأوامر قد تكون صعبة على النفس، أما إن كانت تلك الآلهة بلا أوامر أو نواهي فهذه آلهة مريحة لمن يخدع نفسه بها، ويعبدها مظنة أنها تنفع أو تضر.
وهذه هي حُجَّة كل ادِّعاء نبوة أو ادِّعاء مَهديَّة في هذا العصر، فيدَّعي النبيُّ الكاذب النبوَّة، ويدعو للاختلاط مع النساء، وشرب الخمر، وارتكاب الموبقات، ويسمِّى ذلك ديناً.
وتجد مثل هذه الدَّعاوَي في البهائية والقاديانية؛ وغيرها من المعتقدات الزائفة.
وقولهم:
{ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِيۤ آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ .. } [هود: 53].
يعني: وما نحن بتاركي آلهتنا بسبب قولك.
وقولهم: { .. وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } [هود: 53].
أي: وما نحن لك بمصدِّقين، لأن (آمن) تأتي بمعاني متعددة.
فإنْ عدَّيتها بنفسها مثل قول الحق سبحانه:
{ { .. وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [قريش: 4].
وإنْ عدَّيتها بحرف "الباء" مثل قول الحق سبحانه:
{ { مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ .. } [البقرة: 62].
فالمعنى يتعلّق باعتقاد الألوهية.
وإن عدَّيتها بحرف "اللام"؛ مثل قول الحق سبحانه:
{ { فَمَآ آمَنَ لِمُوسَىٰ إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَىٰ خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ .. } [يونس: 83].
تكون بمعنى التصديق.
يقول الحق سبحانه بعد ذلك:
{ إِن نَّقُولُ إِلاَّ ٱعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوۤءٍ ... }.