التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ
٣٢
-الرعد

خواطر محمد متولي الشعراوي

ويقال "هَزَأ بفلان" أي: سخر منه، أما "اسْتُهزِئ بفلان" أي: طُلِب من الغير أنْ يهزأ بشخص معين، وهذا عليه إثمه وإثم مَنْ أوعز له بالسخرية من هذا الشخص.
وقول الحق سبحانه: { وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ } [الرعد: 32].
أي: لستَ بِدعاً يا محمد في أن يقف بعض الكافرين منك هذا الموقف. والمثَلُ هو الحَكَم بن أبي العاص أبو مروان الذي كان يُقلِّد مشية النبي صلى الله عليه وسلم؛ وكان رسول الله يمشي كأنما يتحدَّر من صبب؛ وكان بصره دائماً في الأرض.
ولم يكن الناس مُعْتادين على تلك المِشْية الخاشعة؛ فقد كانوا يسيرون بغرور مستعرضين مناكبهم.
وحين قَلَّد الحَكَمُ رسول الله رآه صلى الله عليه وسلم بنور البصيرة، فقال له صلى الله عليه وسلم: "كُنْ على هذا"، فصارت مِشْيته عاهة، بينما كانت مِشْية رسول الله تطامناً إلى ربه، وتواضعاً منه صلى الله عليه وسلم.
ونفَى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحَكَم إلى الطائف؛ وراح يَرْعى الغنم هناك، ولم يَعْفُ النبي صلى الله عليه وسلم عنه؛ وكذلك أبو بكر في خلافته؛ ولا عمر بن الخطاب؛ ولكن الذي عفا عنه هو عثمان بن عفان، وكان قريباً له.
وشهد عثمان بن عفان وقال: "والله لقد استأذنتُ رسول الله فيه فقال لي: إن استطعت أن تعفوَ عنه فَاعْفُ، وحين وَلِيتُ أمرَ المسلمين عَفَوْتُ عنه".
وحدث من بعد ذلك أن تولَّى عبد الملك بن مروان أمر المسلمين؛ وكان لابنه الوليد خَيْل تتنافس مع خيل أولاد يزيد بن معاوية؛ واحتال أولاد يزيد بالغش، ووضعوا ما يُعرقِل خَيْل الوليد.
وحدث خلاف بين الفريقين فشتم الوليدُ أبناء يزيد؛ فذهب أولاد يزيد إلى عبد الملك يشكُون له ولده؛ وكان الذي يشكو لا يتقن نُطْق العربية دون أخطاء؛ فقال له عبد الملك: مَا لَكَ لا تقيم لسانك من اللحْن؟ فردَّ الذي يشكو ساخراً: "والله لقد أعجبتْنِي فصاحةُ الوليد". ويعني: أن حال لسان ابن عبد الملك لا يختلف عن حال لسان مَنْ يشكو؛ فكلاهما لا ينطق بِسَلاسَة، ويكثر اللحْنَ في النُّطْق بالعربية.
فقال عبد الملك: أَتُعيِّرني بعبد الله ابني الذي لا يُتقِن العربية دون لَحْن؟ إن أخاه خالداً لا يلحن. وتبع ذلك بقوله: اسكُتْ يا هذا، فلستَ في العِير ولا في النَّفِير.
وهذا مَثَلٌ نقوله حالياً، وقد جاء إلينا عَبْر قريش؛ حيث كانت السلطةُ فيها ذات مَصْدرين؛ مصدر العِير؛ أي: التجارة التي تأتي من القوافل عَبْر الشام وقائدها أبو سفيان؛ والنَّفِير؛ وهم القَوْم الذين نَفَرُوا لِنجْدةِ أبي سفيان في موقعة بدر؛ وكان يقودهم عتبة. فقال ابن يزيد: ومَنْ أَوْلَى بالعِير والنَّفِير منِّي؟ ويعني أنه حفيدُ أبي سفيان من ناحية الأب؛ وحفيدُ عُتْبة من ناحية الأم.
وأضاف: لكن لو قُلْت شُوَيْهات وغُنَيْمات وذكرت الطائف لكنتَ على حق؛ ورَحِم الله عثمان الذي عفَا عن جَدِّك، وأرجعه من المَنْفى.
ونعلم أن الحق سبحانه وتعالى قال لرسوله صلى الله عليه وسلم:
{ { إِنَّا كَفَيْنَاكَ ٱلْمُسْتَهْزِئِينَ } [الحجر: 95].
وكان أيّ إنسان يسخر من رسول الله صلى الله عليه وسلم يَلْقَى عقاباً إلهياً.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } [الرعد: 32].
فأنت يا رسول الله لستَ بِدْعاً في الرسالة، ولك أسوة في الرسالة، والحق سبحانه يَعِدُكَ هنا في مُحْكَم كتابه: { فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ .. } [الرعد: 32].
أي: أمهلتُ الذين كفروا، والإملاء بمعنى الإمهال ليس معناه تَرْك العقوبة على الذَّنْب، وإنما تأخير العقوبة لذنب قادم، والمَثَل هو أن تترك مخطئاً ارتكبَ هَفْوة؛ إلى أنْ يرتكب هَفْوة ثانية؛ ثم ثالثة، ثم تُنْزِل به العقاب من حيثُ لا يتوقع.
وإذا كان هذا ما يحدث في عالم البشر؛ فما بَالُنا بقوة الحق سبحانه اللامتناهية، وهو القائل:
{ { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } [الأعراف: 182].
ويقول تعالى:
{ { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [آل عمران: 178].
تماماً مِثْلما نجد مَنْ يصنع فَخّاً لعدوه.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } [الرعد: 32].
وكلمة: { فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } [الرعد: 32].
توضح أنه كان عقاباً صارماً؛ ولذلك يقول الحق سبحانه في موقع آخر:
{ { إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا ٱنقَلَبُوۤاْ إِلَىٰ أَهْلِهِمُ ٱنقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوۤاْ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ لَضَالُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى ٱلأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ ٱلْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [المطففين: 29-36].
إذن: فلسوْفَ يَلْقَى الذين استهزءوا بالرسل العقاب الشديد.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك:
{ أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ ... }.