التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَا جُعِلَ ٱلسَّبْتُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
١٢٤
-النحل

خواطر محمد متولي الشعراوي

بعد أن تحدَّث الحق سبحانه عن إبراهيم أبي الأنبياء، وذكر جانباً من صفاته ومناقبه تكلَّم عن بني إسرائيل في قضية خالفوا فيها أمر الله بعد أن طلبوها بأنفسهم، وكأن القرآن يقول لهم: لقد زعمتم أن إبراهيم كان يهودياً، فها هي صفات إبراهيم، فماذا عن صفاتكم أنتم؟ وأين أنتم من إبراهيم عليه السلام؟
ويعطينا الحق سبحانه مثالاً عن مخالفتهم لربهم فيما يأمر به، وأنهم ليسوا كإبراهيم في اتباعه، فيذكر ما كان منهم في أمر السبت.
و (السبت) هو يوم السبت المعروف التالي للجمعة السابق للأحد، والسبت مأخوذ من سَبَتَ يَسْبِت سَبْتاً. يعني: سكن واستقرَّ، ومنه قوله تعالى:
{ { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً } [النبأ: 9].
ذلك أن بني إسرائيل طلبوا يوماً يرتاحون فيه من العمل، ويتفرغون فيه لعبادة الله، وقد اقترح عليهم نبيهم موسى - عليه السلام - أن يكون يوم الجمعة، فهو اليوم الذي أتمَّ الله فيه خَلْق الكون في ستة أيام، وهو اليوم الذي اختاره الخليل إبراهيم، ولكنهم رفضوا الجمعة واختاروا هم يوم السبت وقالوا:
إن الله خلق الدنيا في ستة أيام بدأها بيوم الأحد، وانتهى منها يوم الجمعة، وارتاح يوم السبت، وكذلك نحن نريد أن نرتاح ونتفرغ لعبادة الله يوم السبت، وهكذا كانت هذه رغبتهم واختيارهم.
أما العيسويون فرفضوا أن يتبعوا اليهود في يوم السبت، أو إبراهيم عليه السلام في يوم الجمعة، واختاروا الأحد على اعتبار إنه أول بَدْء الخلق.
أما أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقد اختار لها الله يوم الجمعة يوم الانتهاء وتمام النعمة.
إذن: اليهود طلبوا يوم السبت واختاروه للراحة من العمل والتفرغ للعبادة، فهذا مطلبهم، وقد وافقهم ربُّهم سبحانه وتعالى عليه، وأمرهم أنْ يتفرغوا لعبادته في هذا اليوم، وافقهم ليُبيّن لجاجتهم وعنادهم، وأنهم لن يُوفُوا بما التزموا به وإن اختاروه بأنفسهم، ووافقهم ليقطع حجتهم، فلو اختار لهم يوماً لاعترضوا عليه، ولكن هاهم يختارونه بأنفسهم.
كما أن قصة السبت مع اليهود جاءت لتخدم قضية عقدية عامة، هي أن الآيات التي تأتي مُصدِّقة للرسل في البلاغ عن الله تعالى قد تكون من عند الله وباختياره سبحانه، وقد تكون باختيار المرسَل إليهم أنفسهم، وقد كان من بني إسرائيل أنْ كذَّبوا بهذه وهذه ولذلك قال تعالى:
{ { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلأَوَّلُونَ } [الإسراء: 59].
أي: لكونهم يقترحون الآية ثم يُكذِّبونها، فأمْرهم تكذيب في تكذيب.
وقصة السبت ذُكِرَتْ في مواضع كثيرة، مثل قوله تعالى:
{ { وَسْئَلْهُمْ عَنِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ ٱلْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي ٱلسَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } [الأعراف: 163].
لقد نقض اليهود عهدهم مع الله كعادتهم، وأخلفوا ما التزموا به، وذهبوا للصيد في يوم السبت، فكادهم الله وأغاظهم، فكانت تأتيهم الحيتان والأسماك تطفو على سطح الماء كالشراع، ولا ينتفعون منها بشيء إلا الحسرة والأسف، فيقولون: لعلها تأتي في الغد فيخيب الله رجاءهم:
{ { وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ .. } [الأعراف: 163].
وقد سمَّى القرآن الكريم ذلك منهم اعتداءً؛ لأنهم اعتدوا على ما شرع الله، قال تعالى:
{ { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [البقرة: 65].
وقوله تعالى:
{ إِنَّمَا جُعِلَ ٱلسَّبْتُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ .. } [النحل: 124].
كلمة (اخْتَلَفُوا) تُوحي بوجود طائفتين متناقضتين في هذه القضية، والحقيقة أن الخلاف لم يكُنْ بين اليهود بعضهم البعض، بل بينهم وبين نبيهم الذي اختار لهم يوم الجمعة، فخالفوه واختاروا السبت، فجعل الله الخلاف عليهم.
فالمعنى: إنما جُعِل السبت حُجّة على الذين اختلفوا فيه؛ لأنه أثبت عدوانهم على يوم العبادة، فبعد أن اقترحوه واختاروه انقلب حُجة عليهم، ودليلاً لإدانتهم.
ولو تأملنا قوله:
{ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ .. } [النحل: 124].
نجد أن كلمة (عَلَى) تدلُّ على الفوقية أي: أن لدينا شيئاً أعلى وشيئاً أدنى؛ فكأن السبت جاء ضد مصلحتهم، وكأن خلافهم مع نبيهم انقلب عليهم.
ومن ذلك قوله تعالى:
{ { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ .. } [الرعد: 6].
يؤولها بعضهم على معنى (مع ظلمهم) نقول: المعنى صحيح، ولكن المعية لا تقتضي العلو، فلو قلنا: مع ظلمهم فالمعنى أن المغفرة موجودة مع الظلم مجرد معية، أما قول الحق سبحانه:
{ { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ .. } [الرعد: 6].
أي: أن المغفرة عَلَت على الظلم، فالظلم يتطلب العقاب، ولكن رحمة الله ومغفرته عَلَتْ على أنْ تُعامِل الظالم بما يستحق، فرحمة الله سبقتْ غضبه، ونفس الملحظ نجده في قول الحق سبحانه:
{ { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى ٱلْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } [إبراهيم: 39].
فالكبر كان يقتضي عدم الإنجاب ولكن هبة الله علت على سنة الكِبَر.
ثم يقول الحق سبحانه:
{ ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ ... }.