التفاسير

< >
عرض

وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ ٱلْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْحُسْنَىٰ لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْنَّارَ وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ
٦٢
-النحل

خواطر محمد متولي الشعراوي

قوله تعالى:
{ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ .. } [النحل: 62].
الأليق أن الذي يُخرج لله يجب أن يكون من أطيب ما أعطاه الله، فإذا أردت أن تتصدقَ تصدَّقْ بأحسن ما عندك، أو على الأقل من أوسط ما عندك .. لكن أنْ تتصدَّق بأخسِّ الأشياء وأرذلها .. أن تتصدق مما تكرهه، كالذي يتصدق بخبز غير جيد أو لحم تغيَّر، أو ملابس مُهَلْهَلة، فهذا يجعل لله ما يكره.
والحقيقة أن الناس إذا وثِقوا بجزاء الله على ما يعطيه العبد لأَعطَوْا ربهم أفضل ما يُحبون .. لماذا؟ لأن ذلك دليلٌ على حبّك للآخرة، وأنك من أهلها، فأنت تعمرها بما تحب، أما صاحب الدنيا المحبّ لها فيعطي أقل ما عنده؛ لأن الدنيا في نظره أهمّ من الآخرة.
وبهذا يستطيع الإنسان أنْ يقيسَ نفسه: أهو من أهل الآخرة، أم من أهل الدنيا بما يعطي لله عز وجل؟
قوله تعالى:
{ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ .. } [النحل: 62].
أي: مما ذكر في الآيات السابقة من قولهم:
{ { لِلَّهِ ٱلْبَنَاتِ .. } [النحل: 57].
وأن الملائكة بنات الله، وجعلوا بينه وبين الجنَّة نسباً، إلى غير ذلك من أقوالهم، وجعلوا لله البنات وهم يكرهون البنات؛ لذلك:
{ { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِٱلأُنْثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ } [النحل: 58].
والمسألة هنا ليستْ مسألة جَعْل البنات لله، بل مُطْلق الجَعْل منهم مردود عليهم، فلو جعلوا لله ما يحبون من الذكْران ما تُقبّل منهم أيضاً؛ لأنهم جعلوا لله ما لم يجعل لنفسه.
فالذين قالوا: عزير ابن الله. والذين قالوا: المسيح ابن الله. لا يُقبَل منهم؛ لأنهم جعلوا لله سبحانه ما لم يجعلْه لنفسه، فهذا مرفوض، وذلك مرفوض؛ لأننا لا نجعل لله إلا ما جعله الله لنفسه سبحانه.
فنحن نجعل لله ما نحب مما أباح الله، كما جاء في قوله تعالى:
{ { لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ .. } [آل عمران: 92].
وقوله:
{ { وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ .. } [الإنسان: 8].
ولذلك قال الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم:
{ { قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَابِدِينَ } [الزخرف: 81].
فلو كان له ولد لآمنتُ بذلك، لكن الحقيقة أنه ليس له ولد .. إذن: ليست المسألة في جَعْل ما يكرهون لله بل في مُطْلَق الجعلْ، ذلك لأننا عبيد نتقرّب إلى الله بالعبادة، والعابد يتقرّب إلى المعبود بما يحب المعبود أن يتقرّب به إليه، فلو جعل الله لنفسه شيئاً فهو على العين والرأس، كما في أمره أن ننفق مما نُحب، ومن أجود ما نملك.
ولذلك قوله تعالى:
{ { لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ .. } [آل عمران: 92].
رَاعِ حق الفقير وضرورة أنْ تجعله كنفسك، لا يكُنْ هيِّناً عليك فتعطيه أردأ ما عندك .. والحق تبارك وتعالى لما أراد أن نتقرّب إليه بالنّسُك وذَبْح الهَدْي والأضاحي قال:
{ { فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَآئِسَ ٱلْفَقِيرَ } [الحج: 28].
لأنك إذا علمتَ أنك ستأكل منها سوف تختار أجود ما عندك.
وقوله تعالى:
{ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ ٱلْكَذِبَ .. } [النحل: 62].
الكذب: قضية ينطق بها اللسان ليس لها واقع في الوجود، أي مخالفة للواقع المشهود به من القلب .. ولماذا يشهد عليه القلب؟
قالوا: لأنه قد يطابق الكلام الواقع، ونحكم عليه مع ذلك بالكذب، كما جاء في قوله تعالى:
{ { إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [المنافقون: 1].
بالله، أهذه القضية صِدْق أم لا؟ إنها قضية صادقة .. أنت رسول الله وقد وافق كلامهم ما يعلمه الله .. فلماذا شهد عليهم الحق تبارك وتعالى أنهم (كاذبون)؟
وفي أيِّ شيء هم كاذبون؟
قالوا: الحقيقة أنهم صادقون في قولهم: إنك لرسول الله، ولكنهم كذبوا في شهادتهم:
{ { نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ .. } [المنافقون: 1].
لأنهم لا يشهدون فعلاً؛ لأن الشهادة تحتاج أنْ يُواطئَ القلبُ اللسانَ ويسانده، وهذه الشهادة منهم من اللسان فقط لا يساندها القلب.
الإنسان عُرْضة لأنْ يقول الصدق مرة والكذب مرة، لكن هؤلاء بمجرد أن يقولوا (نشهد) فهم كاذبون، وهذا معنى:
{ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ ٱلْكَذِبَ .. } [النحل: 62].
لأنهم حينما يقولون مثلاً: العزير ابن الله، المسيح ابن الله، الملائكة بنات الله. هذه كلها قضايا باطلة ليس لها واقع يوافق منطوق اللسان .. فألسنتهم تصف الكذب.
وإنْ أردتَ أن تعرف الكذب الذي لا يطابق الواقع فاستمع إليه فبمجرد أنْ يُقال تعلم أنه كذب .. مثل ما حدث مع مُسيْلمة الذي ادَّعى النبوة، مجرد أنْ قال: أنا نبي قلنا: مسيلمة الكذاب.
ويقول الحق سبحانه:
{ أَنَّ لَهُمُ ٱلْحُسْنَىٰ .. } [النحل: 62].
أي: أن الكذب في قولهم (لهم الحسنى) فهذا اغترار وتمنٍّ على الله دون حق، ومثل هذه المقولة في سورة الكهف، في قصةِ أصحاب الجنتين، يقول تعالى:
{ { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـٰذِهِ أَبَداً * وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } [الكهف: 35-36].
فهذه مقولات ثلاث كاذبة:
قوله:
{ { مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـٰذِهِ أَبَداً } [الكهف: 35].
هذه الأولى، فكم من أشياء تغيَّرت، ومَنْ يضمن لك بقاء ما أنت فيه، والحق تبارك وتعالى يقول في آية أخرى:
{ { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلاَ يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَٱلصَّرِيمِ } [القلم: 17-20].
الكذبة الثانية:
{ { وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَائِمَةً .. } [الكهف: 36].
فقد أنكر الساعة.
الكذبة الثالثة:
{ { وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } [الكهف: 36].
وهذا هو الشاهد في الآية هنا، ففيها اغترار وتمنٍّ على الله دون حقٍّ، كمن ادعوْا أن لهم الحسنى، وهم ليسوا أهلاً لها.
وفي موضع آخر تأتي نفس المقولة:
{ { لاَّ يَسْأَمُ ٱلإِنْسَانُ مِن دُعَآءِ ٱلْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ ٱلشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَـٰذَا لِي وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَآئِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّيۤ إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ .. } [فصلت: 49-50].
وهكذا الإنسان في طَبْعه أنه لا يسأم من طلب الخير، وكلما وصل فيه إلى مرتبة تمنّى أعلى منها، يقنط إنْ مسَّه شر، وإنْ رفع الله عنه ورحمه قال: هذا لي .. أنا استحقه، وأنا جدير به .. ألاَ قلتَ: هذا فضل من الله ونعمة، ثم بعد ذلك هو يتمنى على الله الأماني ويقول:
{ { إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ .. } [فصلت: 50].
ويُروى أن سيدنا داود - عليه السلام - مع ما أعطاه الله من الملْك والعظمة أنه صعد يوماً سطح منزله، فابتلاه الله بسِرْب من الجراد الذهب، فحينما رآه داود جعل يجمع منه في ثوبه، فقال له ربه: ألم أُغْنِك يا داود؟ قال: نعم ولكن لا غِنَى لي عن فضلك.
وقوله تعالى:
{ لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْنَّارَ .. } [النحل: 62].
لا جرم: أي حقاً أن لهم النار على ما تقدم منهم أن جعلوا لله ما يكرهون، وتصف ألسنتهم الكذب، وهذه أفعال يستحقّون النار عليها.
وكلمة { لاَ جَرَمَ } منها جارم بمعنى مجرم، فالمعنى: لا جريمة في عقاب هؤلاء، لأنه لا يُقال على عقوبة الجريمة أنها جريمة .. إذن: لها معنيان، لا بُدَّ أن لهم النار، أو لا جريمة في أن لهم النار جزاء أعمالهم.
{ وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ } [النحل: 62].
جاءت في كلمة مُفْرطون عدة قراءات: مفرَطون، مفرِطون، مفرِّطون، مفرَّطون. وجمعيها تلتقي في المعنى.
نحن حينما نصلي على جنازة مثلاً، إذا كان الميت مكلّفاً نقول في الدعاء له: "اللهم اغفر له، اللهم ارحمه .. اللهم إنْ كان مُحسناً فزِدْ في إحسانه، وإنْ كان مُسِيئاً فتجاوز عن سيئاته". فإنْ كان صغيراً غير مُكلَّف قُلْنا في الدعاء له "اللهم اجعله فرَطاً وذخراً". فما معنى فرَطاً هنا؟
معناه: أن يكون الطفل فَرَطاً لأبويه ومُقدّمة لهما إلى الجنة .. يمرُّ بين يديْ والديْه ويسبقهما إلى الجنة، وكأنه يقدم عليهما لِيُمهد لهما الطريق ليغفر الله لهما .. إذن: معنى مُفْرطون أي مُقدَّمون. ولكن إلى النار.
ومنه قوله تعالى عن فرعون:
{ { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ .. } [هود: 98].
أي: يتقدمهم إلى النار .. كما كنتَ مُقدّماً عليهم، وإماماً لهم في الدنيا، فسوف تتقدمهم هنا وتسبقهم إلى النار.