التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَآءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يٰمُوسَىٰ مَسْحُوراً
١٠١
-الإسراء

خواطر محمد متولي الشعراوي

وقد سبق أن اقترح كفار مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة آيات ذُكرَتْ في قوله تعالى: { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ ٱلأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ ٱلسَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِٱللَّهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي ٱلسَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ .. } [الإسراء: 90-93].
فأراد الحق سبحانه أنْ يُلفِت نظره أن سابقيهم من اليهود أتتهم تسع آيات ونزلت عليهم دون أنْ يطلبوها، ومع ذلك كفروا، فالمسألة كلها تعنّت وعناد من أهل الكفر في كل زمان ومكان.
ومعنى { بَيِّنَاتٍ .. } [الإسراء: 101] أي: واضحات مشهورات بَلْقَاء كالصبح، لأنها حدثت جميعها على مَرْأىً ومشهد من الناس.
والمراد بالآيات التسع هنا هي الآيات الخاصة بفرعون؛ لأن كثيرين يخلطون بين معجزات موسى إلى فرعون، ومعجزاته إلى بني إسرائيل.
إذن: فقوله تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ.. } [الإسراء: 101] هي الآيات التي أُرسِل بها إلى فرعون وقومه وهي: العصا التي انقلبتْ حية، واليد التي أخرجها من جيبه بيضاء مُنورة، وأَخْذ آل فرعون بالسنين ونَقْصٍ من الأموال والأنفس والثمرات، ثم لما كذَّبوا أنزل الله عليهم الطوفان، والجراد، والقُمّل، والضفادع، والدم، هذه تسع آيات خاصة بما دار بين موسى وفرعون.
أما المعجزات الأخرى مثل العصا التي ضرب بها الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، ونتق الجبل فوقهم كأنه ظُلَّة، وإنزال المنِّ والسَّلْوى عليهم، فهذه آيات خاصة ببني إسرائيل.
وقوله تعالى: { فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ .. } [الإسراء: 101] والأمر هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن كيف يسأل بني إسرائيل الذين جاءهم موسى - عليه السلام - وقد ماتوا، والموجود الآن ذريتهم؟
نقول: لأن السؤال لذريتهم هو عَيْن سؤالهم، لأنهم تناقلوا الأحداث جيلاً بعد جيل؛ لذلك قال تعالى مُخاطباً بني إسرائيل المعاصرين لرسول الله:
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذٰلِكُمْ بَلاۤءٌ مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ } [إبراهيم: 6].
والنجاة لم تكُنْ لهؤلاء، بل لأجدادهم المعاصرين لفرعون، لكن خاطبهم الحق بقوله { أَنجَاكُمْ } لأنه سبحانه لو أهلك أجدادهم لما وُجِدُوا هم، فكأن نجاة السابقين نجاةٌ للاحقين.
ويسأل رسول الله بني إسرائيل لأنهم هم الأمة التي لها ممارسة مع منهج الله ووحيه، ولها اتصال بالرسل وبالكتب المنزَّلة كالتوراة والإنجيل، أما مشركو قريش فليس لهم صِلَة سابقة بوَحْي السماء؛ لذلك لما كذَّبوا رسول الله خاطبه بقوله:
{ قُلْ كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ ٱلْكِتَابِ } [الرعد: 43].
لأن الذي عنده عِلْم من الكتاب: اليهود أو النصارى عندهم عِلْم في كتبهم وبشارة ببعثة محمد، وهم يعرفونه ويعرفون أوصافه وزمن بعثته، بل ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم، بل وأكثر من معرفتهم لأبنائهم، كما قال واحد منهم.
وسؤال رسول الله لبني إسرائيل سؤالَ حُجَّةٍ واستشهاد؛ لأن قومه سألوه وطلبوا أنْ يظهر لهم عدة آيات - سبق ذِكْرها - لكي يؤمنوا به، فأراد أنْ يُنبّههم إلى تاريخ إخوانهم وسابقيهم على مَرِّ العصور، وقد أنزل الله لهم الآيات الواضحات والمعجزات الباهرات ومع ذلك كفروا ولجُّوا ولم يؤمنوا، فقوم فرعون رَأَوْا من موسى تسع آيات وكفروا، وقوم صالح:
{ وَآتَيْنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا.. } [الإسراء: 59] ولَيْتهم كذَّبوا وكفروا بهذه الآية فحَسْب، بل واعتدَوْا عليها وعقروها.
لذلك قال تعالى:
{ وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِٱلآيَاتِ .. } [الإسراء: 59] أي: التي اقترحوها { إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلأَوَّلُونَ .. } [الإسراء: 59] وما دام كذَّب بها الأولون فسوف يُكذِّب بها هؤلاء؛ لأن الكفر مِلَّة واحدة في كل زمان ومكان.
إذن: مسألة طلب الآيات واقتراح المعجزات ليستْ في الحقيقة رغبة في الإيمان، بل مجرد عناد ولَجَج ومحاولة للتعنُّت والجدَل العقيم لإضاعة الوقت.
ثم يقول تعالى: { فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ } [الإسراء: 101] أي: بعد أنْ رأى الآيات كلها: { إِنِّي لأَظُنُّكَ يٰمُوسَىٰ مَسْحُوراً } [الإسراء: 101] فاتهمه بالسحر بعد أنْ أراه كُلَّ هذه الدلائل والمعجزات.
وكلمة { مَسْحُوراً } [الإسراء: 101] اسم مفعول بمعنى سحره غيره، وقد يأتي اسم المفعول دالاً على اسم الفاعل لحكمة، كما في قوله تعالى:
{ وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً } [الإسراء: 45].
والحجاب يكون ساتراً لا مستوراً، لكن الحق سبحانه جعل الحجاب نفسه مستوراً مبالغة في السَّتْر، كما نبالغ نحن الآن في استعمال الستائر، فنجعلها من طبقتين مثلاً.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى:
{ ظِـلاًّ ظَلِيلاً } [النساء: 57] فالظل نفسه مُظلَّل، ونستطيع أن نلاحظ هذه الظاهرة إذا جلسنا في الحرِّ تحت شجرة، فسوف نجد الهواء تحتها رَطباً بارداً، لماذا؟ لأن أوراق الشجر مُتراكمة يُظلّل بعضها بعضاً، فتجد أعلاك طبقات متعددة من الظل، فتشعر في النهاية بجو لطيف مُكيف تكييفاً ربانياً.
إذن: قوله { مَسْحُوراً } تفيد أنه سحَر غيره، أو سحره غيره؛ لأن المسحور هو الذي أَلَمَّ به السحر، إما فاعلاً له، أو مفعولاً عليه. وهذه الكلمة قالها كفار مكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:
{ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } [الإسراء: 47] والمسحور بمعنى المخبول الذي أثّر في السحر، فصار مخبولاً مجنوناً، وهذا كذب وافتراء على رسول الله من السهل رَدُّه وضَحْده.
فإنْ كان ساحراً، فكيف يسحره غيره؟! ولماذا لم يسحركم كما سحر الذين آمنوا به؟ لماذا تأبَّيتم أنتم على سحره فلم تؤمنوا؟ وإنْ كان مسحوراً مَخْبُولاً، والمخبول تتأتّى منه حركات وأقوال دون أنْ تَمُرّ على العقل الواعي الذي يختار بين البديلات، فلا يكون له سيطرة على إراداته ولا على خُلقه، فهل عهدكم بمحمد أنْ كان مَخبولاً؟ هل رأيتم عليه مثل هذه الصفات؟
لذلك رَدَّ الحق سبحانه عليهم هذا الافتراء بقوله تعالى:
{ نۤ وَٱلْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } [القلم: 1-4].
والمجنون لا يكون على خُلُق أبداً.
وسوف يناقض فرعون نفسه، فبعد أنْ اتهم موسى بالسحر، ثم كانت الغَلَبة لموسى، وخَرَّ السحرة ساجدين، قال:
{ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِي عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحْرَ .. } [طه: 71] وهذا دليل على التخبُّط والإفلاس.
ثم يقول الحق سبحانه:
{ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَـٰؤُلاۤءِ إِلاَّ رَبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ بَصَآئِرَ ... }.