التفاسير

< >
عرض

أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ ٱلْكُفْرَ بِٱلإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ
١٠٨
-البقرة

خواطر محمد متولي الشعراوي

ثم ينقل الحق جل جلاله المسلمين بعد أن بين لهم أنه وليهم ونصيرهم .. ينقلهم إلى سلوك أهل الكتاب من اليهود مع رسلهم حتى يتفادوا مثل هذا السلوك فيقول جل جلاله: { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ } [البقرة: 108] .. الحق يقول للمؤمنين أم تريدون أن تسألوا رسول الله كما سأل اليهود موسى .. ولم يشأ الحق أن يُشَبِّه المسلمين باليهود فقال: { كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ } [البقرة: 108] .. وكان من الممكن أن يقول أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سأل اليهود موسى .. ولكن الله لم يرد أن يشبه اليهود بالمؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم .. وهذا تكريم من الله للمؤمنين بأن ينزههم أن يتشبهوا باليهود .. وقد سأل اليهود موسى عليه السلام وقالوا كما يروي لنا القرآن الكريم: { { يَسْأَلُكَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذٰلِكَ فَقَالُوۤاْ أَرِنَا ٱللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ ٱتَّخَذُواْ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذٰلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَىٰ سُلْطَاناً مُّبِيناً } [النساء: 153].
وقد سأل أهل الكتاب والكفار رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يروي لنا القرآن الكريم:
{ { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً } [الإسراء: 90]. { { أَوْ تُسْقِطَ ٱلسَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِٱللَّهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي ٱلسَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } [الإسراء: 92-93].
الله تبارك وتعالى يهيب بالمؤمنين أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم .. كما سأله أهل الكتاب والكفار ويقول لهم إن اليهود قد سألوا موسى أكبر من ذلك .. فبعد أن رأوا المعجزات وشق الله البحر لهم .. وعبروا البحر وهم يشاهدون المعجزة فلم تكن خافية عنهم .. بل كانت ظاهرة لهم واضحة .. دالة دلالة دامغة على وجود الله سبحانه وتعالى وعلى عظيم قدراته .. ورغم هذا فإن اليهود قالوا لموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة .. أي لم تكفهم هذه المعجزات .. وكأنما كانوا بماديتهم يريدون أن يروا في حياتهم الدنيوية من لا تدركه الأبصار .. وبمجرد أن عبروا البحر أرادوا أن يجعل لهم موسى صنماً يعبدونه وعبدوا العجل رغم كل الآيات التي شاهدوها.
وقوله تعالى: { وَمَن يَتَبَدَّلِ ٱلْكُفْرَ بِٱلإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ } [البقرة: 108] .. قلنا إن الباء في قوله تعالى: "بالإيمان" تدخل دائماً على المتروك .. كأن تقول اشتريت هذا بكذا درهم .. يعني تركت الدراهم وأخذت البضاعة .. ومعناها أن الكفر مأخوذ والإيمان متروك .. فقد أخذ اليهود الكفر وتركوا الإيمان حين قالوا لموسى:
{ { أَرِنَا ٱللَّهَ جَهْرَةً } [النساء: 153] .. وقوله سبحانه: { فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ } [البقرة: 108].
ما هو الضلال؟ .. هو أن تسلك سبيلاً لا يؤدي بك إلى غايتك .. و"سواء السبيل" .. السواء هو الوسط .. و"سواء السبيل" .. هو وسط الطريق .. والله تبارك وتعالى يقول:
{ { فَٱطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ } [الصافات: 55].
أي في وسط الجحيم .. أي أنه يكون بعيداً عن الحافتين بعداً متساوياً .. وسواء الطريق هو وسطه .. والسبيل أو الطريق كان قبل استخدام التكنولوجيا الحديثة تكون أطرافه وَعِرة من جنس الأرض قبل أن تمهد .. أي لا تصلح للسير .. ولذلك فإن السير في وسط الطريق يبعدك عن المتاعب والصعوبات ويريد الله من المؤمنين به أن يسيروا في الطريق الممهد أو في وسط الطريق لأنه أكثر أماناً لهم .. فهم فيه لن يضلوا يميناً ولا يساراً بل يسيروا على منهج الله والإيمان .. وطريق الإيمان دائماً ممهد لا يقودهم إلى الكفر.