التفاسير

< >
عرض

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ
١٧
-البقرة

خواطر محمد متولي الشعراوي

يريد الحق سبحانه وتعالى أن يقرب صفات التمزق في المنافقين إلى فهمنا، ولذلك فهو يضرب لنا الأمثال، والأمثال جمع مثل وهو الشبيه الذي يقرب لنا المعنى ويعطينا الحكمة، والأمثال باب من الأبواب العريقة في الأدب العربي.
فالمثل أن تأتي بالشيء الذي حدث وقيل فيه قولة موجزة ومعبرة، رأى الناس أن يأخذوا هذه المقولة لكل حالة مشابهة.
ولنضرب مثلاً لذلك، ملك - من الملوك - أراد أن يخطب فتاة من فتيات العرب، فأرسل خاطبة اسمها "عصام" لِترى هذه العروس وتسأل عنها وتخبره، فلما عادت قال لها: ما وراءك يا عصام؟ أي بماذا جئت من أخبار، قالت له: أبدي المخض عن الزبد. المخض هو أن تأتي باللبن الحليب وتخضُّه في القربة حتى ينفصل الزبد عن اللبن، فصار الاثنان ـ السؤال والجواب ـ يُضربان مثلا. تأتي لمَنْ يجيئك تنتظر منه أخباراً فتقول له: ما وراءك يا عصام.
ولا يكون اسمه "عصام" .. ولم ترسله لاستطلاع أخبار، بينما تريد أن تسمع ما عنده من أخبار.
وحينما تريد مثلاً .. أن تصور تنافر القلوب .. وكيف أنها إذا تنافرت لا تلتئم أبداً .. ويريد الشاعر أن يقرب هذا المعنى فيقول:

إنّ القلوبَ إذا تَنَافَرَ وُدُّها مثل الزجاجةِ كَسْرها لا يشعبُ

(أي: لا يُجْبَر)
وساعة تنكسر الزجاجة لا تستطيع إصلاحها، ولكي يسهل هذا المعنى عليك وتفهمه في يسر وسهولة .. فإنك لا تستطيع أن تصور أو تشاهد معركة بين قلبين .. لأن هذه مسألة غيبية، فتأتي بشيء مُشاهَد وتضرب به المثل، وبذلك يكون المعنى قد قرب، لأنك شبهته بشيء محسوس، تستطيع أن تفهمه وتشاهده.
ولقد استخدم الله سبحانه وتعالى الأمثال في القرآن الكريم في أكثر من موضع .. ليُقَرِّبَ من أذهاننا معنى الغيبيات التي لا نعرفها ولا نشاهدها .. ولذلك ضرب لنا الأمثال في قمة الإيمان .. وحدانية الله سبحانه وتعالى، وضرب لنا المثل بنوره جل جلاله، الذي لا نشهده وهو غيب عنا، وضرب لنا الأمثال بالنسبة للكفار والمنافقين .. لنعرف فساد عقيدتهم ونتنبه لها، وضرب لنا الأمثال فيما يمكن أن يفعله الكفر بالنعمة .. والطغيان في الحق، وغير ذلك من الأمثال .. قال الله تعالى:
{ { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً } [الإسراء: 89].
وقد ضرب الله جل جلاله لنا الأمثال في الدنيا وفي الآخرة، وفي دقة الخلق، وقمة الإيمان، ومع ذلك فإن الناس منصرفون عن حكمة هذه الأمثال .. كافرون بها، مع أن الحق تبارك وتعالى ضربها لنا لتقرِّبَ لنا المعنى .. تشبيهاً بماديات نراها في حياتنا الدنيا .. وكان المفروض أن تزيد هذه الأمثال الناس إيماناً؛ لأنها تقرب لهم معاني غائبة عنهم، ولكنهم بدلاً من ذلك ازدادوا كفراً!!
ولا بد قبل أن نتعرض للآية الكريمة: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } [البقرة: 17] .. أن نتحدث عن بعض الأمثال التي ضُربت في القرآن الكريم، لنرى كيف أن الله سبحانه وتعالى حدثنا عن قضايا غيبية بمحسات دنيوية:
ضرب الله - تبارك وتعالى - لنا مثلاً بالقمة الإيمانية .. وهي أنه: لا إله إلا الله، وكيف أن هذه رحمة من الله سبحانه وتعالى يجب أن نسجد له شكراً عليها .. لأن فيها وقاية لنا من شقاء، ومع ذلك فإن الله تبارك وتعالى يريد بعباده الرحمة، ولكن بعض الناس يريد أن يُشقي نفسه فيشرك بالله جل جلاله، وبدلاً من أن يأخذ طريق الإيمان الميسَّر .. يأخذ طريق الكفر والنفاق والشرك بالله الذي يملك كل شيء في الدنيا والآخرة .. يقول الحق جل جلاله:
{ { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً ٱلْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [الزمر: 29].
بهذه الصورة المحسة التي نراها، ولا يختلف فيها اثنان .. يريد الله تبارك وتعالى أن يقرب إلى أذهاننا صورة العابد لله وحده، وصورة المشرك بالله، ويعطينا المثل في عبد مملوك لشركاء .. رجل مملوك لعشرة مثلاً .. وليس هؤلاء الشركاء العشرة متفقين .. بل هم متشاكسون أي: أنهم مختلفون، ورجل آخر مملوك لسيد واحد .. أيهما يكون مستريحاً يعيش في رحمة؟ .. طبعاً المملوك لسيد واحد في نعمة ورحمة .. لأنه يتبع أمراً واحداً ونهياً واحداً، ويطيع رباً واحداً، ويطلب رضا سيد واحد .. أما ذلك الذي يملكه شركاء حتى لو كانوا متفقين، سيكون لكل واحد منهم أمر ونهي .. ولكل واحد منهم طلب .. فما بالك إذا كانوا مختلفين؟ أحد الشركاء يقول له تعال .. والآخر يقول له لا تأت، وأحد الشركاء يأمره بأمر، والآخر يأمره بأمر مناقض، ويحتار أيهما يرضى وأيهما يغضب؟ .. وهكذا تكون حياته شقاء وتناقضاً.
إن الله سبحانه وتعالى يريد أن يُقرِّبَ لنا الصورة في قضية هي قمة اليقين، وهي الإيمان بالواحد الأحد .. يريدنا أن نلمس هذه الصورة، بمثل نراه ونشهده، وأن نرى فيض الله برحمته على عباده، ويمضي الحق سبحانه ليلفتنا إلى أن نفكر قليلاً في مثل يضربه لنا في القرآن الكريم:
{ { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [النحل: 76].
فالحق تبارك وتعالى في هذه الآية الكريمة، يطلب منا أن نفكر في مثل مادي محسوس .. أيهما خير؟ .. أذلك الصنم الذي يعبده الكفار وهو لا يأتي لهم بخير أبداً .. لأنه لا يستطيع أن ينفع نفسه فكيف يأتي بالخير لغيره؟! بل هو عبء على مَنْ يتخذونه إلهاً، فإنهم يجب أن يضعوه وأن يحملوه من مكان إلى آخر إذا أرادوا تغيير المعبد أو الرحيل، وإذا سقط فتهشمت أجزاء منه، فإنه يجب أن يصلحوها.
إذن: فزيادة على أنه لا يأتي لهم بخير، فإنه عبء عليهم يكلفهم مشقة، ويحتاج منهم إلى عناية ورعاية.
أعبادة مثل هذا الصنم خير؟ أم عبادة الله سبحانه الذي منه كل الخير وكل النعم .. والذي يأمر بالعدل .. فلا يُفضِّل أحداً من عباده على أحد، والذي يعطي لعباده الصراط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، والمُوَصِّل إلى الجنة في الآخرة .. إن الله سبحانه وتعالى يُبَيَّنُ بهذا المثل غباء فكر المشركين الذين يعبدون الأصنام ويتركون عبادة الله تبارك وتعالى.
وهكذا يعطينا الحق سبحانه هذين المثلان توضيحاً لقضية الوحدانية والألوهية .. ثم يأتي الله سبحانه وتعالى بمثل آخر .. يضرب لنا مثلاً لنوره .. هذا النور الإلهي الذي يضيء الدنيا والآخرة، فيضيء القلوب المؤمنة .. إنه يريد أن يضرب لنا مثلاً لهذا النور بشيء مادي محس .. فيقول جل جلاله:
{ { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ٱلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ } [النور: 35].
كأن الله سبحانه وتعالى .. يريدنا أن نعرف بتشبيه محس .. أن مثل نوره كمشكاة، والمشكاة هي (الطاقة) .. وهي فجوة في الحائط بالبيت الريفي، ونحن نضع المصباح في هذه الطاقة .. إذن: المصباح ليس في الحجرة كلها، ولكن نوره مركز في هذه الطاقة فيكون قوياً في هذا الحيز الضيق، ولكن المصباح في زجاجة .. تحفظه من الهواء من كل جانب .. فيكون الضوء أقوى .. صافياً لا دخان فيه .. كما أن الزجاج يعكس الأشعة فيزيد تركيزه، والزجاجة غير عادية ولكنها: "كوكب دري" .. أي: هي مضيئة بذاتها وكأنها كوكب، ووقودها من شجرة مباركة يملؤها النور لا شرقية ولا غربية .. أي يملؤها النور من الوسط ويخرج صافياً، والزيت مضيء بذاته دون أن تَمَسَّهُ النار .. فهي نور على نور .. أيكون جزء من هذه المشكاة ذات المساحة الصغيرة مظلماً، أم تكون كلها مليئة بالنور القوي؟.
وهذا ليس نور الله تبارك وتعالى عن التشبيه والوصف، ولكنه مثل فقط للتقريب إلى الأذهان، فكأن نور الله يضيء كل ركن وكل بقعة، ولا يترك مكاناً مظلماً .. فهو نور على نور.
ولقد أراد أحد الشعراء أن يمدح الخليفة وكانت العادة أن يشبه الخليفة بالأشخاص البارزين ذوي الصفات الحسنة .. فقال:

إقدامُ عمرٍو في سماحة حاتمٍ في حِلْمِ أحنفَ في ذكاءِ إياسِ

وكل هؤلاء الذين ضرب بهم الشاعر المثل كانوا مشهورين بهذه الصفات، فعمرو كان مشهوراً بالإقدام والشجاعة، وحاتم كان مشهوراً بالسماحة، وأحنف يُضرب به المثل في الحلم، وإياس شعلة في الذكاء .. وهنا قام أحد الحاضرين وقال: الأمير أكبر من كل شيء ممن شبهته بهم .. فقال أبو تمام على الفور:

لا تنكروا ضَرْبي لَه مَنْ دُونَهُ مثلاً شَرُوداً في النَّدَى والباسِ
فاللهُ قَدْ ضَربَ الأقلَّ لنـوره مثلاً من المِشْـكَاةِ والنّبْراسِ

فأُعْجِب أحمد بن المعتصم والحاضرون من ذكائه وأمر بأن تُضَاعَفَ جائزته. والله سبحانه وتعالى يضرب لنا المثل بما سيشهده المؤمنون في الجنة .. فيقول جل جلاله: { { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } [محمد: 15].
هذه ليست الجنة .. ولكن هذا مثل يُقَرِّبُ الله سبحانه وتعالى لنا به الصورة بأشياء موجودة في حياتنا .. لأنه لا يمكن لعقول البشر أن تستوعب أكثر من هذا، والجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .. ومن هنا فإنه لا توجد أسماء في الحياة تعبر عما في الجنة .. واقرأ قوله تعالى:
{ { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [السجدة: 17].
فإذا كانت النفس لا تعلم، فلا توجد ألفاظ تعبر عما يوجد في الجنة، والمثل متى شاع استعماله بين الناس سمي مثلاً .. فأنت إذا رأيت شخصاً مغتراً بقوته، وتريد أن تُفْهِمه أنك أقوى منه تقول له: "إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً"، ولا توجد ريح ولا إعصار فيما يحدث بينكما، وإنما المراد المعنى دون التقيد بمدلول الألفاظ.
فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يعطينا صورة عما في داخل قلوب المنافقين، من اضطراب وذبذبة وتردد في استقبال منهج الله، وفي الوقت نفسه ما يجري في القلوب غيب عنا، وأراد الله أن يُقَرِّبَ هذا المعنى إلينا .. فقال: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً } [البقرة: 17] .. أي حاول أن يوقد ناراً، والذي يحاول أن يوقد ناراً .. لابد أن له هدفاً، والهدف قد يكون الدفء وقد يكون الطهي .. وقد يكون الضوء وقد يكون غير ذلك .. المهم أن يكون هناك هدف لإيقاد النار..
يقول الحق سبحانه وتعالى: { فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } [البقرة: 17] .. ذلك أنهم في الحيرة التي تملأ قلوبهم .. كانوا قد سمعوا من اليهود أن زمن نبي جديد قد: أتى، فقرروا أن يؤمنوا به، ولكن إيمانهم لم يكن عن رغبة في الإيمان، ولكنه كان عن محاولة للحصول على أمان دنيوي .. لأن اليهود كانوا يتوعدونهم ويقولون أتى زمن نبي سنؤمن به ونقتلكم به قتل عاد وإرم .. فأراد هؤلاء المنافقون أن يتقوا هذا القتل الذي يتوعدهم به اليهود، فتصوروا أنهم إذا أعلنوا أنهم آمنوا بهذا النبي نفاقاً أن يحصلوا على الأمن.
إن الحق سبحانه وتعالى يعطينا هذه الصورة .. إنهم أوقدوا هذه النار .. لتعطيهم نوراً يريهم طريق الإيمان .. وعندما جاء هذا النور بدلاً من أن يأخذوا نور الإيمان انصرفوا عنه، وعندما حدث ذلك ذهب الله بنورهم .. فلم يبق في قلوبهم شيء من نور الإيمان .. فهم الذين طلبوا نور الإيمان أولاً .. فلما استجاب الله لهم انصرفوا عنه .. فكأن الفساد في ذاتهم .. وكأنهم هم الذين بدأوا بالفساد، وساعة فعلوا ذلك ذهب الله بنور الإيمان من قلوبهم.
ونلاحظ هنا دقة التعبير القرآني في قوله تعالى: { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } [البقرة: 17] ولم يقل ذهب الله بضوئهم مع أنهم أوقدوا النار ليحصلوا على الضوء .. ما هو الفرق بين الضوء والنور؟ .. إذا قرأنا قول الحق سبحانه وتعالى:
{ { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُوراً .. } [يونس: 5].
نجد أن الضوء أقوى من النور، والضوء لا يأتي إلا من إشعاع ذاتي .. فالشمس ذاتية الإضاءة .. ولكن القمر يستقبل الضوء ويعكس النور، وقبل أن تشرق الشمس تجد في الكون نوراً، ولكن الضوء يأتي بعد شروق الشمس .. فلو أن الحق تبارك وتعالى قال: ذهب الله بضوئهم .. لكان المعنى أنه سبحانه ذهب بما يعكس النور، ولكنه أبقى لهم النور، ولكن قوله تعالى: { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ .. } [البقرة: 17] .. معناها أنه لم يُبْقِ لهم ضوءاً ولا نوراً .. فكأن قلوبهم يملؤها الظلام، ولذلك قال الله بعدها؛ { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } [البقرة: 17] .. لنعلم أنه لا يوجد في قلوبهم أي نور ولا ضوء إيماني .. كل هذا حدث بظلمهم هم وانصرافهم عن نور الله.
ونلاحظ هنا أن الحق سبحانه وتعالى .. لم يقل وتركهم في ظلام، بل قال: { فِي ظُلُمَاتٍ .. } [البقرة: 17] .. أي أنها ظلمات متراكمة .. ظلمات مركبة لا يستطيعون الخروج منها أبداً.
من أين جاءت هذه الظلمات؟ .. جاءت لأنهم طلبوا الدنيا ولم يطلبوا الآخرة، وعندما جاءهم نور الإيمان انصرفوا عنه فصرف الله قلوبهم.
مثلاً إذا أخذنا قصة زعيم المنافقين "عبد الله بن أُبَيِّ" نرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المدينة وأهلها يستعدون لتتويج "عبد الله بن أُبَيِّ" ملكاً عليها، وعندما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف الناس عن "عبد الله بن أُبَيِّ" إلى استقبال الرسول عليه الصلاة والسلام .. فوصول الرسول عليه الصلاة والسلام ضَيَّعَ على عبد الله بن أُبَيِّ الْمُلْك، ولقد كان من الممكن أن يؤمن، وأن يلتمس النور من رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ولو آمن حينئذ ربما أُعطِي في الآخرة مُلْكاً دائماً .. يفوق المِلك الذي كان سيحصل عليه في الدنيا، ولكن لأن في قلبه الدنيا وليس الدين، ولأنه يريد رفعة في الدنيا، ولا يريد جنة في الآخرة، فقد ملأ الحقد قلبه فكان ظُلْمَة، وملأ الحسد قلبه فكان ظلمة .. وملأت الحسرة قلبه فكانت ظلمة .. وملأت الكراهية والبغضاء قلبه فكانت ظلمة .. إذن هي ظلمات متعددة.
وهكذا في قلب كل منافق ظلمات متعددة .. ظلمة الحقد على المؤمنين وظلمة الكراهية لهم، وظلمة تمني هزيمة الإيمان، وظلمة تمني أن يصيبهم سوء وشر، وظلمة التمزق والألم من الجهد الذي يبذله للتظاهر بالإيمان وفي قلوبهم الكفر .. كل هذه ظلمات، ولكن لا تحاول أن تأخذها بمقاييس عقلك، والمفروض أن المثل هنا لتقريب المعنى .. لأنك إذا قرأت قول الحق سبحانه وتعالى:
{ { وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً } [الإسراء: 45].
كيف يكون الحجاب مستوراً؟ .. مع أن الحجاب هو الساتر الذي يستر شيئاً عن شيء .. ولكن الحق سبحانه وتعالى يريدنا أن نفهم .. أنه برغم أن الحجاب يستر شيئاً عن شيء، فإن الحجاب نفسه مستور لا نراه، وبعض العلماء يقولون: إن مستوراً اسم مفعول، وهو في معنى اسم الفاعل ساتر .. نقول: لا .. واقرأ قوله تبارك وتعالى:
{ { جَنَّاتِ عَدْنٍ ٱلَّتِي وَعَدَ ٱلرَّحْمَـٰنُ عِبَادَهُ بِٱلْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً } [مريم: 61].
مَأْتِيّاً اسم مفعول واسم الفاعل "آتٍ"، ويقول البعض: وضع اسم المفعول مكان اسم الفاعل .. نقول إنك لم تفهم .. هل وعد الله يلح في طلب العبد .. أم أن العبد يلح في طلبه بعمله فكأنه ذاهب إليه .. والموعود هو المستفيد وليس الوعد .. إذن من دقة القرآن الكريم .. أنه يريد أن ينبهنا إلى أن الموعود هو الذي يسعى للقاء الوعد، وليس الوعد هو الذي يطلب لقاء الموعود فيستخدم اسم الفاعل.
فحين يقول الحق سبحانه وتعالى: { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } [البقرة: 17] .. نفى النور عنهم، والنور لا علاقة له بالسمع ولا بالشم ولا باللمس، ولكنه قانون البصر.
وانظر إلى دقة التعبير القرآني .. إذا امتنع النور امتنع البصر .. أي: أن العين لا تُبْصِر بذاتها، ولكنها تبصر بانعكاس النور على الأشياء ثم انعكاسه على العين..
واقرأ قوله تعالى:
{ { وَجَعَلْنَا ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلْلَّيْلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً .. } [الإسراء: 12].
فكأن الذي يجعل العين تبصر هو الضوء أو النور .. فإذا ضاع النور ضاع الإبصار، ولذلك فأنت لا تبصر الأشياء في الظلام، وهذه معجزة قرآنية اكتشفها العلم بعد نزول القرآن .