التفاسير

< >
عرض

قَالُواْ سُبْحَٰنَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ
٣٢
-البقرة

خواطر محمد متولي الشعراوي

هذه الآية الكريمة. توضح لنا أن الله سبحانه وتعالى هو المُعلِّم الأول في الكون. وإذا كان لكل عِلْم مُعلِّم، فإن المعلم الأول لابد أن يكون هو الله سبحانه وتعالى. وإذا كنا نشاهد في عصرنا ألواناً من العلوم، فهذه العلوم من تفاعل العقل الذي وهبه الله تعالى للإنسان من المواد التي وضعها الله تعالى في الكون بالمنطق والعلم الذي علَّمه الله للإنسان.
إن كل الاختراعات والابتكارات أخذت وجودها من مقدّمات كانت سابقة عليها، فالماء مثلاً كان موجوداً منذ الأزل، والشمس كطاقة تُبخِّر الماء لتصنع منه سحاباً. فإذا استخدم الإنسان الطاقة الحرارية في تبخير الماء واستخدم البخار كطاقة، فهناك قفزة حضارية في العلوم اسمها "عصر البخار"، وهو الذي كانت تسير به القطارات والآلات في المصانع وغير ذلك.
إن هذا التقدم في العلم، إنما هو نابع من وجود العلم والطاقة، وزاد عليهما القدرة العقلية للإنسان الممنوحة له من الخالق سبحانه وتعالى، وهذه القدرة العقلية هي التي جعلته يفكر في استخدام الطاقة الناتجة من البخار، فإذا توصَّل الإنسان لمراقبة شجرة ساقطة وهي تتدحرج إلى الأرض لأن جذعها أسطواني، فإنه أخذ من نظام هذه الشجرة ما يصنع منه العجلة التي كانت تطوراً هاماً في تاريخ العلم.
إذن: فساق الشجرة الأسطوانية هو الذي أعطى للإنسان فكرة العجلة، فإذا طور الإنسان استخدام البخار وصنع قطاراً يسير بالبخار، فهذا التطوير هو ابن للعلم السابق عن قدرة الطاقة الناتجة عن تبخير الماء، وكيفية صناعة العجلة .. فكل علم نابع من علم سابق .. يترابط مع إمكانات وهبها الله سبحانه وتعالى للإنسان ولذلك عندما جاء الإسلام ليعرض العلم التجريبي أو المادي، جاء ليلفتنا إلى آيات الخالق في الكون، وطلب منا أن نتأمل في هذه الآيات .. ونُعْمِل فيها العقل والإدراك. واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى:
{ { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [يوسف: 105].
وهكذا يلفتنا الله جل جلاله إلى آياته التي في السماوات والأرض لنُعْمِل فيها العقل والإدراك، لنستنبط منها ما يعطينا الحضارة .. إن القرآن يطالبنا بأن نواصل العلم الذي علَّمه الله لآدم. وإذا كان تاريخ العلوم يحمل لنا أخباراً عن قوم لم يكونوا مؤمنين، ومع هذا سبقونا في العلم والاستنباط، فكان الواجب علينا نحن المؤمنين أن نتأمل آيات الله تعالى في الأرض. فنيوتن - الذي لاحظ قوة جاذبية الأرض - كان يراقب تفاحة تسقط من أعلى الشجرة وتصطدم بالأرض، فتوصل إلى قانون الجاذبية.
وإذا أردنا أن نأخذ لمحة من علم الله الذي علَّمه لنا، فيكفي أن ننظر إلى النواة. ففي هذه النواة الصغيرة نخلة كاملة، متى وضعت النواة في الأرض. نمت النخلة، وأصبح لها وجود.
ولكي نوضح هذا كله نقول إن كل علم مبني على نظريات، النظرية الأولى تؤدي إلى الثانية، والثانية تؤدي إلى الثالثة، وهكذا .. ولكن بداية كل هذه العلوم لم تبدأ بنظرية، ولكنها بدأت بما يسمونه البديهيات، أي: الأشياء التي لا تحتاج إلى دليل، إنها الأشياء التي خلقها الله في الكون، وعلى هذه البديهات بنيت النظريات الواحدة بعد الأخرى حتى إذا أردت أن تعيدها إلى أصلها، فإنك تصل في نهاية الأمر إلى أن العلم الأول من الله سبحانه وتعالى، فالمعلم الأول علَّمه الله. والثمرة الأولى خلقها الله، وكل اكتشافات الإنسان منذ بداية الحياة وحتى قيام الساعة موجودة بالقوة. مثل النواة التي فيها النخلة تنتظر التأمل والعمل؛ لتصبح اكتشافاً بالفعل. والله سبحانه وتعالى وهو المعلم الأول .. وضع في كونه من العلم الكثير.
ويحضرني قول الشاعر أحمد شوقي حين قال:

سُبْحَانَكَ اللهُمَّ خَيْرَ مُعلِّمٍعَلَّمْتَ بالقلمِ القُرونَ الأولىَ
أرْسَلتَ بالتَّوراةِ مُوسَى مُرْشِداً وابنَ البتُولِ يُعلِّم الإنجيلا
وَفَجرتَ يَنْبوعَ البَيانِ مُحمداً فَسَقَى الحديثَ ونَاولَ التنزيلا

وكان شوقي يصوغ في أبياته أن كل علم هو منسوب إلى الله وحده .. وهكذا يتضح لنا أن قول الملائكة: { سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ } [البقرة: 32].
يتضمن الاعتراف بأن العلم كله مرجعه إلى الله؛ فالله سبحانه وتعالى هو مصدر العلم والحكمة. وقوله سبحانه وتعالى: "العليم الحكيم" العليم أي الذي يعلم كل شيء خافياً كان أو ظاهراً، والعلم كله منه. وأما الحكمة فتطلق في الأصل على قطعة الحديد التي توضع في فم الفرس لتلجمه؛ حتى يمكن للراكب أن يتحكم فيه. ذلك أن الحصان حيوان مُدَلَّل شارد، يحتاج إلى ترويض، وقطعة الحديد التي توضع في فمه تجعله أكثر طاعة لصاحبه. وكأن إطلاق صفة الحكيم على الخالق سبحانه وتعالى هو أنه جل جلاله يحكم المخلوقات حتى لا تسير بغير هدى، ودون دراية.
والحكمة أن يوضع هدف لكل حركة لتنسجم الحركات بعضها مع بعض، ويصير الكون محكوماً بالحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. والحكيم العليم هو الذي يضع لكل كائن إطاره وحدوده. والحكمة هي أن يؤدي كل شيء ما هو مطلوب منه ببراعة. والحكمة في الفقه هي أن تستنبط الحكم السليم. والحكمة في الشعر أن تزن الكلمات على المفاعيل. والحكمة في الطب أن تعرف تشخيص المرض والدواء الذي يعالجه. والحكمة في الهندسة أن تصمم المستشفى - مثلاً - طبقاً لاحتياجات المريض والطبيب وأجهزة العلاج ومخازن الأدوية، وغير ذلك، أو في تصميم المنزل للسكن المريح. وحكمة بناء منزل مثلاً تختلف عن حكمة بناء قصر أو مكان للعمل.
والكون كله مخلوق من قِبَل حكيم عليم، وضع الخالق سبحانه وتعالى فيه كل شيء في موضعه ليؤدي مهمته. وَوَصْفُ الله تعالى بأنه حكيم يتطلب أن يكون عليماً؛ لأن علمه هو الذي يجعله يصنع كل شيء بحكمة، وقد أعطى الله سبحانه وتعالى لكل خلقه من العلم على حاجته، فليس من طبيعة الملائكة أن يعرفوا ماذا سيفعل ذلك الإنسان الذي سيستخلفه الله في الأرض. ولكنهم موجودون لمهمة أخرى .. ومَيَّز الله الإنسان بالعقل ليستكشف من آيات الله في الكون على قدر حاجة حياته. والحق سبحانه وتعالى يقول:
{ { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ * ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ * وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ } [الأعلى: 1-3].
إذن فكل شيء خُلِق بقدر. وكل مخلوق مُيسَّرٌ لما هداه الله له..