التفاسير

< >
عرض

بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ ٱللَّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ
٩٠
-البقرة

خواطر محمد متولي الشعراوي

عندما رفض اليهود الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم وطردهم الله من رحمته .. بيّن لنا أنهم: { بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ } [البقرة: 90] .. وكلمة اشترى سبق الحديث عنها وقلنا إننا عادة ندفع الثمن ونأخذ السلعة التي نريدها .. ولكن الكافرين قلبوا هذا رأساً على عقب وجعلوا الثمن سلعة .. على أننا لابد أن نتحدث أولاً عن الفرق بين شرى واشترى .. شَرَى بمعنى باع .. واقرأ قوله عز وجل: { { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ ٱلزَّاهِدِينَ } [يوسف: 20].
ومعنى الآية الكريمة أنهم باعوه بثمن قليل .. واشترى يعني ابتاع .. ولكن اشترى قد تأتي بمعنى شرى .. لأنك في بعض الأحيان تكون محتاجاً إلى سلعة ومعك مال .. وتذهب وتشتري السلعة بمالك وهذا هو الوضع السليم .. ولكن لنفرض أنك احتجت لسلعة ضرورية كالدواء مثلاً .. وليس عندك المال ولكن عندك سلعة أخرى كأن يكون عندك ساعة أو قلم فاخر .. فتذهب إلى الصيدلية وتعطي الرجل سلعة مقابل سلعة .. أصبح الثمن في هذه الحالة مشترى .. إذن فمرة يكون البيع مشتري ومرة يكون مبيعاً ..
والحق تبارك وتعالى يقول: { بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ } [البقرة: 90] .. وكأنما يعيرهم بأنهم يدعون الذكاء والفطنة .. ويؤمنون بالمادية وأساسها البيع والشراء .. لو كانوا حقيقة يتقنون هذا لعرفوا أنهم قد أتموا صفقة خاسرة .. الصفقة الرابحة كانت أن يشتروا أنفسهم مقابل التصديق بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم .. ولكنهم باعوا أنفسهم واشتروا الكفر فخسروا الصفقة لأنهم أخذوا الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة .. والله سبحانه وتعالى يجعل بعض العذاب في الدنيا ليستقيم ميزان الأمور حتى عند من لم يؤمن بالآخرة .. فعندما يرى ذلك من لا يؤمن بالآخرة عذاباً دنيوياً يقع على ظالم .. يخاف من الظلم ويبتعد عنه حتى لا يصيبه عذاب الدنيا ويعرف أن في الدنيا مقاييس في الثواب والعقاب .. وحتى لا ينتشر في الأرض فساد من لا يؤمن بالله ولا بالآخرة .. وضع الحق تبارك وتعالى قصاصاً في الدنيا .. واقرأ قوله جل جلاله:
{ { وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَاةٌ يٰأُولِي ٱلأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة: 179].
والله سبحانه وتعالى في قصاصه يلفت المؤمن وغير المؤمن إلى عقوبة الحياة الدنيا .. فيأتي للمرابي الذي يمتص دماء الناس ويصيبه بكارثة لا يجد بعدها ما ينفقه .. ولذلك نحن نقول يا رب إن القوم غرهم حلمك واستبطأوا آخرتك فخذهم ببعض ذنوبهم أخذ عزيز مقتدر حتى يعتدل الميزان.
والله تبارك وتعالى جعل مصارع الظالمين والباغين والمتجبرين في الدنيا .. جعلها الله عبرة لمن لا يعتبر بمنهج الله. فتجد إنساناً ابتعد عن دينه وأقبلت عليه الدنيا بنعيمها ومجدها وشهرتها ثم تجده في آخر أيامه يعيش على صدقات المحسنين .. وتجد امرأة غرها المال فانطلقت تجمعه من كل مكان حلالاً أو حراماً وأعطتها الدنيا بسخاء .. وفي آخر أيامها تزول عنها الدنيا فلا تجد ثمن الدواء .. وتموت فيجمع لها الناس مصاريف جنازتها .. كل هذه الأحداث وغيرها عبرة للناس .. ولذلك فهي تحدث على رؤوس الأشهاد .. يعرفها عدد كبير من الناس .. إما لأنها تنشر في الصحف وإما أنها تذاع بين أهل الحي فيتناقلونها .. المهم أنها تكون مشهورة.
وتجد مثلاً أن اليهود الذين كانوا زعماء المدينة تجار الحرب والسلاح .. ينتهي بهم الحال أن يطردوا من ديارهم وتؤخذ أموالهم وتسبى نساؤهم .. أليس هذا خزياً؟
قوله تعالى: { أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ ٱللَّهُ بَغْياً } [البقرة: 90] .. البغي تجاوز الحد، والله جعل لكل شيء حداً مَنْ تجاوزه بَغَى .. والحدود التي وضعها الله سبحانه هي أحكام .. ومرة تكون أوامر ومرة تكون نواهي. ولذلك يقول الحق بالنسبة للأوامر:
{ { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا .. } [البقرة: 229].
ويقول تعالى بالنسبة للنواهي:
{ { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا .. } [البقرة: 187].
ولكن ما سبب بغيهم؟.. بغيهم حسد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تأتي إليه الرسالة .. وعلى العرب أن يكون الرسول منهم .. واليهود اعتقدوا لكثرة أنبيائهم أنهم الذين ورثوا رسالات الله إلى الأرض .. وعندما جاءت التوراة والإنجيل يبشران برسول خاتم قالوا إنه منا .. الرسالة والنبوة لن تخرج عنا فنحن شعب الله المختار .. ولذلك كانوا يعلنون أنهم سيتبعون النبي القادم وينصرونه .. ولكنهم فوجئوا بأنه ليس منهم .. حينئذ ملأهم الكبر والحسد وقالوا ما دام ليس منا فلن نتبعه بل سنحاربه .. لقد خلعت منهم الرسالات لأنهم ليسوا أهلاً لها .. وكان لابد أن يعاقبهم الله على كفرهم ومعصيتهم ويجعل الرسالة في أمة غيرهم .. والله تبارك وتعالى يقول:
{ { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُـمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٍ } [فاطر: 16-17].
لقد اختبرهم الله في رسالات متعددة ولكنهم كما قرأنا في الآيات السابقة .. كذبوا فريقاً من الأنبياء. ومن لم يكذبوه قتلوه .. لذلك كان لابد أن ينزع الله منهم هذه الرسالات ويجعلها في أمة غيرهم .. لتكون أمة العرب فيها ختام رسالات السماء إلى الأرض .. ولذلك بغوا.
وقوله تعالى: { بَغْياً أَن يُنَزِّلُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } [البقرة: 90] .. ومن هنا نعرف أن الرسالات واختيار الرسل .. فضل من الله يختص به من يشاء .. والله سبحانه حين يطلق أيدينا ويملكنا الأسباب .. فإننا لا نخرج عن مشيئته بل نخضع لها .. ونعرف أنه لا ذاتية في هذا الكون .. وذلك حتى لا يغتر الإنسان بنفسه .. فإن بطل العالم في لعبة معينة هو قمة الكمالات البشرية في هذه اللعبة .. ولكن هذه الكمالات ليست ذاتية فيه لأن غيره يمكن أن يتغلب عليه .. ولأنه قد يصيبه أي عائق يجعله لا يصلح للبطولة .. وعلى كل حال فإن بطولته لا تدوم .. لأنها ليست ذاتية فيه ومَنْ وهبها له وهو الله سيهبها لغيره متى شاءَ .. ولذلك لابد أن يعلم الإنسان أن الكمال البشري متغير لا يدوم لأحد .. وأن كل من يبلغ القمة ينحدر بعد ذلك لأننا في عالم أغيار .. ولابد لكل من علا أن ينزل .. فالكمال لله وحده .. والله سبحانه يحرس كماله بذاته.
إذن اليهود حسدوا رسول الله .. حسدوا نزول القرآن على العرب .. والحق سبحانه يقول: { فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [البقرة: 90] .. والله جل جلاله يخبرنا أنه غضب عليهم مرتين.
الغضب الأول أنهم لم ينفذوا ما جاء في التوراة فغضب الله عليهم .. والغضب الثاني حين جاءهم رسول مذكور عندهم في التوراة ومطلوب منهم أن يؤمنوا به فكفروا به .. وكان المفروض أن يؤمنوا حتى يرضى الله عنهم .. ولذلك غضب الله عليهم مرة أخرى عندما كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ..
وقوله تعالى: { وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [البقرة: 90] .. العذاب في القرآن الكريم وُصِفَ بأنه أليم .. وَوُصِفَ بأنه عظيم وَوُصِفَ بأنه مهين .. أليم أي شديد الألم يصيب من يعذب بألم شديد .. ولكن لنفرض أن الذي يعذب يتجلد .. ويحاول ألا يظهر الألم حتى لا يشمت فيه الناس .. يأتيه الله بعذاب عظيم لا يقدر على احتماله .. ذلك أن عظمة العذاب تجعله لا يستطيع أن يحتمل .. فإذا كان الإنسان من الذين تزعموا الكفر في الدنيا .. ووقفوا أمام دين الله يحاربونه وتزعموا قومهم .. يأتيهم الله تبارك وتعالى بعذاب مهين .. ويكون هذا أكثر إيلاماً للنفس من الألم .. تماماً كما تأتي لرجل هو أقوى مَنْ في المنطقة يخافه الناس جميعاً ثم تضربه بيدك وتسقطه على الأرض .. تكون في هذه الحالة قد أهنته أمام الناس .. فلا يستطيع بعد ذلك أن يتجبر أو يتكبر على واحد منهم .. ويكون هذا أشد إيلاماً للنفس من ألم العذاب نفسه ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:
{ { ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ عِتِيّاً * ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِٱلَّذِينَ هُمْ أَوْلَىٰ بِهَا صِلِيّاً } [مريم: 69-70].
وقوله جل جلاله:
{ { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ } [الدخان: 49].
ذلك هو العذاب المهين.