التفاسير

< >
عرض

قَالَ ٱهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىٰ
١٢٣
-طه

خواطر محمد متولي الشعراوي

أي: اهبطا إلى الأرض وامضوا فيها على ضوء التجربة الماضية، واعلما أن هناك أمراً ونهياً وعدواً يوسوس ويُزيِّن ويُغوِي حتى يظهر عوراتكم، وكأنه - عز وجل - يعطي آدم المناعة الكافية له ولذريته من بعده لتستقيم لهم حركة الحياة في ظل التكاليف؛ لأن التكاليف إما أمر وإما نهي، والشيطان هو الذي يفسد علينا هذه التكاليف.
ومع ذلك لا ننسى طَرَفاً آخر هو النفس الأمَّارة التي تُحرِّكك نحو المعصية والمخالفة. إذن: ليس عدوك الشيطان فحسب فتجعله شماعة تُعلّق عليها كل معاصيك، فهناك مَعَاصٍ لا يدخل عليك الشيطان بها إلا عن طريق النفس، وإلا إبليس لما غوى؟ مَنْ أغواه؟ ومَنْ وسوس له؟
وقوله: { ٱهْبِطَا .. } [طه: 123] بصيغة التثنية أمر لاثنين: آدم مطمور فيه ذريته، وإبليس مطمور فيه ذريته، فقوله: { ٱهْبِطَا .. } [طه: 123] إشارة إلى الأصل، وقوله في موضع آخر:
{ ٱهْبِطُواْ .. } [البقرة: 38] إشارة إلى ما يتفرّع عن هذا الأصل.
وقوله:
{ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ .. } [البقرة: 36] أي: بعض عدو للبعض الآخر، وكلمة (بعض) لها دَوْر كبير في القرآن، والمراد: أنت عدو الشيطان إنْ كنتَ طائعاً، والشيطان عدوك إنْ كنتَ طائعاً. فإنْ كنتَ عاصياً فلا عداوة إذن؛ لأن الشيطان يريدك عاصياً. وحين لا يُعيِّن البعض تكون العداوة متبادلة، فالبعض شائع في الجميع.
كما في قوله تعالى:
{ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ .. } [الزخرف: 32] فمَن المرفوع؟ ومَنْ المرفوع عليه؟ أصحاب النظرة السطحية يفهمون أن الغنيَّ مرفوع على الفقير.
والمعنى أوسع من هذا بكثير، فكُلُّ الخَلْق بالنسبة للحق سبحانه سواء، ومهمات الحياة تحتاج قدرات كثيرة ومواهب متعددة؛ لذلك لا تتجمع المواهب في شخص، ويُحرم منها آخر، بل ينشر الخالق - عز وجل - المواهب بين خَلْقه، فهذا ماهر في شيء، وذاك ماهر في شيء آخر، وهكذا ليحتاج الناس بعضهم لبعض، ويتم الربْط بين أفراد المجتمع، ويحدث بينهما الانسجام اللازم لحركة الحياة.
إذن: كُلُّ بعض في الوجود مرفوع في شيء، ومرفوع عليه في شيء آخر، فليكُنْ الإنسان مُؤدَّباً في حركة حياته لا يتعالى على غيره لأنه نبغ في شيء، ولينظر إلى ما نبغ فيه الآخرون، وإلى ما تميَّزوا به حتى لا يسخَر قوم من قوم، عسى أن يكونوا خيراً منهم، وربما لديهم من المواهب ما لم يتوفّر لك.
لكن ما دام بعضكم لبعض عدواً أي: آدم مطمور فيه ذريته، وإبليس مطمور فيه ذريته، فَمنْ سيكون الحَكَم؟ الحَكَم بينهما منهج الله: { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى .. } [طه: 123] فإياكم أنْ تجعلوا الهدى من عندكم؛ لأن الهدى إنْ كان من عندكم فلن ينفع ولن يفلح.
{ فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىٰ } [طه: 123] فكأن هدى الله ومنهجه هو (كتالوج) سلامة الإنسان وقانون صيانته. ألاَ ترى الصانع من البشر حين يرفق بصنعته (كتالوجاً) يضم تعليمات عن تشغيلها وصيانتها، فإن اتبعتَ هذه التعليمات خدمتْك هذه الآلة وأدَّتْ لك مهمتها دون تعطّل.
وكما أن هذا (الكتالوج) لا يضعه إلا صانع الآلة، فكذلك الخالق - عز وجل - لا يضع لخَلْقه قانونهم وهَدْيَهم إلا هو سبحانه، فإنْ وضعه آخر فهذا افتئات على الله عز وجل، وكما لو ذهبتَ إلى الجزار تقول له: ضَعْ لي التعليمات اللازمة لصيانة (الميكروفون)!!
إذن: الفساد في الكون يحدث حينما نخرج عن منهج الله، ونعتدي على قانونه وتشريعه، ونرتضي بهَدْي غير هَدْيه؛ لذلك يقول تعالى بعدها: { فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىٰ } [طه: 123] فإنْ كانت هذه نتيجة مَنِ اتبع هدى الله وعاقبة السير على منهجه تعالى، فما عاقبة مَنْ أعرض عنه؟
{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي ... }.