التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ
١٥
-طه

خواطر محمد متولي الشعراوي

أي: مع ما سبق وَطِّنْ نفسك على أن الساعة آتية لا محالةَ، والساعة هنا هي عمر الكون كله، أمّا أعمار المكين في الكون فمتفاوته، كل حسب أجله، فمَنْ مات فقد قامت قيامته وانتهت المسألة بالنسبة له.
إذن: نقول: الساعة نوعان: ساعة لكُلٍّ منا، وهي عمره وأجَله الذي لا يعلم متى سيكون، وساعة للكون كله، وهي القيامة الكبرى.
فقوله تعالى: { إِنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَة } [طه: 15] أي: اجعل ذلك في بالك دائماً، وما دام الموت سينقلك إليها سريعاً فإياك أنْ تقول: سأموت قريباً، أما القيامة فبعد آلاف أو ملايين السنين؛ لأن الزمن مُلغىً بعد الموت، كيف؟
الزمن لا يضبطه إلا الحدث، فإن انعدم الحدث فقد انعدم الزمن، كما يحدث لنا في النوم، وهل تستطيع أنْ تُحدِّد الوقت الذي نمْتَه؟ لذلك قال الحق سبحانه وتعالى:
{ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } [النازعات: 46].
والعبد الذي أماته الله مائة عام لما بعثه قال: يوماً أو بعض يوم، وكذلك قال أهل الكهف بعد ثلاثمائة سنة وتسع، لأن يوماً أو بعض يوم هي أقْصى ما يمكن تصوُّره للنائم حين ينام؛ لذلك نقول: "مَنْ مات فقد قامت قيامته".
ومن حكمته سبحانه أن أخفى الساعة، أخفاها للفرد، وأخفاها للجميع؛ وربما لو عرف الإنسان ساعته لقال: أفعل ما أريد ثم أتوب قبل الموت؛ لذلك أخفاها الحق - تبارك وتعالى - لنكون على حذر أنْ نلقى الله على حال معصية.
وكذلك أخفى الساعة الكبرى، حتى لا تأخذ ما ليس لك من خَلْق الله، وتنتفع به ظُلْماً وعدواناً، وتعلم أنك إنْ سرقتَ سترجع إلى الله فيحاسبك، فما دُمْتَ سترجع إلى الله فاستقِمْ وعَدِّل من سلوكك، كما يقول أهل الريف (ارع مساوي).
وقوله تعالى: { آتِيَةٌ } [طه: 15] أي: ليس مَأْتِياً بها، فهي الآتية، مع أن الحق - تبارك وتعالى - هو الذي سيأتي بها، لكن المعنى (آتية) كأنها منضبطة (أوتوماتيكيا)، فإنْ جاء وقتها حدثتْ.
وقوله تعالى: { أَكَادُ أُخْفِيهَا } [طه: 15] كاد: أي: قَرُب مثل: كاد زيد أن يجيء أي: قَرُب لكنه لم يأْتِ بعد، فالمراد: أقرب أن أخفيها، فلا يعلم أحد موعدها، فإذا ما وقعتْ فقد عرفناها. كما قال تعالى:
{ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ .. } [الأعراف: 187].
وقد تكون { أُخْفِيهَا } [طه: 15] بمعنى آخر، فبعض الأفعال الثلاثية تُعطى عكس معناها عند تضعيف الحرف الثاني منها، كما في: مرض أي: أصابه المرض. ومرَّضه الطبيب. أي: عالجه وأزال مرضه. وقَشَرتُ الشيء أي: جعلْتُ له قشرة، وقشَّرتُ البرتقالة أزلْتُ قِشْرها.
ومن ذلك قوله تعالى:
{ تَالله تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضاً } [يوسف: 85] والحَرض: هو الهلاك. من: حَرِض مثل: تَعب.
وقوله تعالى:
{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَرِّضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَى ٱلْقِتَالِ } [الأنفال: 65].
ومعنى (حَرِّض) حثَّهم على القتال، الذي يُزيل عنهم الهلاك أمام الكفار؛ لأنهم إنْ لم يجاهدوا هلكوا، فَحرِض: هلك، وحرَّض: أزال الهلاك.
وقد يأتي مضاد الفعل بزيادة الهمزة على الفعل مثل:
{ وَأَمَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [الجن: 15] فالقاسط من قسط. أي: الجائر بالكفر.
أما في قوله تعالى:
{ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } [المائدة: 42] فالمقسط من أقسط: العادل الذي يُزيل الجوْرَ. وإنْ كانت المادة واحدة هي (قَسَط) فالمصدر مختلف نقول: قسط قِسْطاً أي: عدل، وقسط قَسْطاً وقسوطاً يعني: جار. فهذه الهمزة في أقسط تسمى "همزة الإزالة".
ومن الفعل الثلاثي قَسَطَ يستعمل منها: القسط والميزان والفرق بين قَسَط وأقسط: قسط أي: عدل من أول الأمر وبادىء ذي بَدْء، إنما أقسط: إذا وجد ظُلْماً فرفعه وأزاله، فزاد على العدل أنْ أزال جَوْراً.
وأيضاً الفعل (عجم) عجم الأمر: أخفاه، وأعجمه: أزال خفاءه. ومن ذلك كلمة المعجم الذي يزيل خفاء الكلمات ويُوضِّحها.
وكذلك في قوله تعالى: { أَكَادُ أُخْفِيهَا .. } [طه: 15] خفى بمعنى: استتر وأخفاها: أزال خفاءها، ولا يُزَال خفاء الشيء إلا بإعلانه.
ثم يقول تعالى: { لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ } [طه: 15].
وإلا لو لم يكُنْ في الآخرة حساب وجزاء لَكَان الذين أسرفوا على أنفسهم وعربدوا في الوجود أكثر حظاً من المؤمنين المتلزمين بمنهج الله؛ لذلك في نقاشنا مع الشيوعيين قُلْنا لهم: لقد قتلتم مَنْ أدركتموه من أعدائكم من الرأسماليين، فما بال مَنْ مات ولم تدركوه؟ وكيف يفلت منكم هؤلاء؟
لقد كان أَوْلَى بكم أن تؤمنوا بمكان آخر لا يفلت منه هؤلاء، وينالون فيه جزاءهم، إنها الآخرة التي تُجزَى فيها كُلُّ نفس بما تسعى.
ثم يقول الحق سبحانه:
{ فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ ... }.