التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّىٰ
٥٣
-طه

خواطر محمد متولي الشعراوي

مَهْداً: من التمهيد وتوطئة الشيء ليكون صالحاً لمهمته، كما تفعل في فراشك قبل أن تنام، ومن ذلك يسمى فراش الطفل مَهْداً؛ لأنك تُمهِّده له وتُسوّيه، وتزيل عنه ما يقلقه أو يزعجه ليستقر في مَهْده ويستريح.
ولا بُدَّ لك أنْ تقوم له بهذه المهمة؛ لأنه يعيش بغريزتك أنت، إلا أن تتنبه غرائزه لمثل هذه الأمور، فيقوم بها بنفسه؛ لذلك لزمك في هذه الفترة رعايته وتربيته والعناية به.
فمعنى { جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ مَهْداً .. } [طه: 53] أي: سوَّاها ومهَّدها لتكون صالحة لحياتكم ومعيشتكم عليها.
وليس معنى مهّدها جعلها مستوية، إنما سوّاها لمهمتها، وإلا ففي الأرض جبال ومرتفعات ووديان، وبدونها لا يستقيم لنا العيش عليها، فتسويتها تقتضي إصلاحها للعيش عليها، سواء بالاستواء أو التعرّج أو الارتفاع أو الانخفاض.
فمثلاً في الأرض المستوية نجد الطرق مستوية ومستقيمة، أما في المناطق الجبلية فهي مُتعرّجة مُلتوية؛ لأنها لا تكون إلا كذلك، ولها ميزة في التوائها أنك لا تواجه الشمس لفترة طويلة، بل تراوح بين مواجهة الشمس مرة والظل أخرى.
وسبق أن ضربنا مثلاً بالخطّاف الذي نصنعه من الحديد، فلو جعلناه مستقيماً ما أدَّى مهمته، إذن: فاستقامته في كَوْنه مُعْوجاً فتقول: سويته ليؤدي مهمته، ولو كان مستقيماً ما جذب الشيء المراد جَذْبه به.
إذن: نقول التسوية: جَعْل الشيء صالحاً لمهمته، سواء أكان بالاعتدال أو الاعوجاج، سواء أكان بالأمْت أو بالاستقامة.
ثم يقول تعالى: { وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً .. } [طه: 53] أي: طرقاً ممهدة تُوصّلكم إلى مهماتكم بسهولة.
سلك: بمعنى دخل، وتأتي متعدية، تقول: سلك فلان الطريق. وقال تعالى:
{ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ } [المدثر: 42] فالمخاطبون مَسْلوكون في سقر يعني: داخلون، وقال: { ٱسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ } [القصص: 32] أي: أدْخِلْها.
فتعديها إلى المفعول الداخل أو للمدخول فيه، فقوله: { وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً .. } [طه: 53] متعدية للمدخول فيه أي: عديت المخاطب إلى المدخول فيه، فأنتم دخلتم، والسُّبل مدخول فيه. إذن: المفعول مرة يكون المسلوك، ومرة يكون المسلوك فيه.
وحينما تسير في الطرق الصحراوية تجدها مختلفة على قَدْر طاقة السير فيها، فمنها الضيّق على قَدْر القدم للشخص الواحد، ومنها المتسع الذي تسير فيه الجمال المحمّلة أو السيارات، فسلك لكم طرقاً مختلفة ومتنوعة على قَدْر المهمة التي تؤدونها.
ثم يقول تعالى: { وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّىٰ } [طه: 53].
وهذه أيضاً من مسألة الخَلْق التي لا يدعيها أحد؛ لأنها دَعْوى مردودة على مدعيها، فأنت يا مَنْ تدّعي الألوهية أخرِجْ لنا شيئاً من ذلك، إرِنَا نوعاً من النبات فلن يقدر، وبذلك لزمتْه الحجة.
كما أن إنزال الماء من السماء ليس لأحد عمل فيه، لكن عندما يخرج النبات قد يكون لنا عمل مثل الحَرْث والبَذْر والسَّقْي وخلافه، لكن هذا العمل مستمد من الأسباب التي خلقها الله لك؛ لذلك لما تكلم عن الماء قال (أنْزَلَ) فلا دَخْل لأحد فيه، ولما تكلم عن إخراج النبات قال (أَخْرَجْنَا) لأنه تتكاتف فيه صفات كثيرة، تساعد في عملية إخراجه، وكأن الحق - تبارك وتعالى - يحترم عملك السَّببي ويُقدِّره.
اقرأ قوله تعالى:
{ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّارِعُونَ } [الواقعة: 63-64] فأثبت لهم عملاً، واحترم مجهودهم، إنما لما حرثتم من أين لكم بالبذور؟ فإذا ما تتبعت سِلْسِلة البذور القبلية لانتهتْ بك إلى نبات لا قَبْلَ له. كما لو تتبعتَ سلسلة الإنسان لوجدتها تنتهي إلى أب، لا أب له إلا مَنْ خلقه.
وأنت بعد أن ألقيتَ البذرة في الأرض وسقيْتها، ألَكَ حيلة في إنباتها ونُموّها يوماً بعد يوم؟ أأمسكْتَ بها وجذبْتها لتنمو؟ أم أنها قدرة القادر
{ ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ * وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ } [الأعلى: 2-3].
لذلك يقول تعالى بعدها:
{ لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً .. } [الواقعة: 65]، فإنْ كانت هذه صنعتكم فحافظوا عليها.
كما حدث مع قارون حينما قال عن نعمة الله:
{ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ .. } [الزمر: 49].
فما دام الأمر كذلك فحافظ عليه يا قارون بما عندك من العلم، فلما خسف الله به وبداره الأرض دَلَّ ذلك على كذبه في مقولته.
ونلحظ في قوله تعالى:
{ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً .. } [الواقعة: 65] أنه مؤكد باللام، لماذا؟ لأن لك شبهة عمل في مسألة الزرع، قد تُطمِعك وتجعلك مُتردّداً في القبول. إنما حينما تكلم عن الماء قال: { { أَفَرَأَيْتُمُ ٱلْمَآءَ ٱلَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ٱلْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً .. } [الواقعة: 68-70].
هكذا بدون توكيد؛ لأنها مسألة لا يدَّعيها أحد لنفسه.
وقوله تعالى: { أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّىٰ } [طه: 53] لم يقل: نباتاً فقط. بل أزواجاً؛ لأن الله تعالى يريد أن تتكاثر الأشياء، والتكاثر لا بُدَّ له من زوجين: ذكر وأنثى. وكما أن الإنسان يتكاثر، كذلك باقي المخلوقات؛ لأن الحق - تبارك وتعالى - خلق الأرض وقدَّر فيها أقواتها، ولا بُدَّ لهذه الأقوات أن تكفي كل مَنْ يعيش على هذه الأرض.
فإذا ضاقت الأرض، ولم تُخرِج ما يكفينا، وجاع الناس، فلنعلم أن التقصير مِنّا نحن البشر من استصلاح الأرض وزراعتها؛ لذلك حينما حدث عندنا ضيق في الغذاء خرجنا إلى الصحراء نستصلحها، وقد بدأت الآن تُؤتي ثمارها ونرى خيرها، والآن عرفنا أننا كنا في غفلة طوال المدة السابقة، فتكاثرنا ولم نُكثِّر ما حولنا من الرقعة الزراعية.
والذكر والأنثى ليسا في النبات فحسْب، بل في كل ما خلق الله:
{ سُبْحَانَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ ٱلأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } [يس: 36].
فالزوجية في كل شيء، عَلِمته أو لم تعلمه، حتى في الجمادات، هناك السالب والموجب والألكترونيات والأيونات في الذرة، وهكذا كلما تكاثر البشر تكاثر العطاء.
وقوله تعالى: { مِّن نَّبَاتٍ شَتَّىٰ } [طه: 53] شتى مثل: مرضى جمع مريض فشتى جمع شتيت. يعني أشياء كثيرة مختلفة ومتفرقة، ليست في الأنواع فقط، بل في النوع الواحد هناك اختلاف.
فلو ذهبت مثلاً إلى سوق التمور في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم تجد أنواعاً كثيرة، مختلفة الأشكال والطُّعوم والأحجام، كلها تحت مُسمّى واحد هو: التمر. وهكذا لو تأملتَ باقي الأنواع من المزروعات.
ثم يذكر الحق - تبارك وتعالى - العِلَّة في إخراج النبات:
{ كُلُواْ وَٱرْعَوْا أَنْعَامَكُمْ ... }.