التفاسير

< >
عرض

نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ
١٩٣
-الشعراء

خواطر محمد متولي الشعراوي

كان من الممكن أن يكون الوحي من عند الله إلهاماً أو نَفْثاً في الرَّوْع؛ لذلك قال تعالى بعدها: { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ } [الشعراء: 193] إذن: الأمر ليس نَفْثاً في رَوْع رسول الله بحكم ما، إنما يأتيه روح القُدُس وأمين الوحي يقول له: قال الله كذا وكذا.
لذلك لم يثبت القرآن إلا بطريق الوحي، بواسطة جبريل عليه السلام، فيأتيه الملَك؛ ولذلك علامات يعرفها ويحسّها، ويتفصّد جبينه منه عرقاً، ثم يُسرِّي عنه، وهذه كلها علامات حضور الملَك ومباشرته لرسول الله، هذا هو الوحي، أمَّا مجرد الإلهام أو النَّفْث في الرَّوْع فلا يثبت به وَحْي.
لذلك كان جلساء رسول الله يعرفونه ساعة يأتيه الوحي، وكانوا يسمعون فوق رأسه صلى الله عليه وسلم كدويّ النحل أثناء نزول القرآن عليه، وكان الأمر يثقل على رسول الله، حتى إنه إنْ أسند فَخِذه على أحد الصحابة أثناء الوحي يشعر الصحابي بثقلها كأنها جبل، وإذا نزل الوحي ورسول الله على دابته يثقل عليها حتى تنخّ به، كما قال تعالى:
{ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } [المزمل: 5].
ولم تهدأ مشقَّة الوحي على رسول الله إلا بعد أنْ فتَر عنه الوحي، وانقطع فترة حتى تشوَّق له رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتظره، وبعدها نزل عليه قوله تعالى:
{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * ٱلَّذِيۤ أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } [الشرح: 1-4].
ونزلت عليه:
{ وَٱلضُّحَىٰ * وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ ٱلأُولَىٰ } [الضحى: 1-4].
يعني: سيعاودك الوحي في سهولة ودون مشقَّة، ولن تتعب في تلقيه، كما كنتَ تعاني من قبل.
وقوله تعالى { نَزَلَ .. } [الشعراء: 193] تفيد العلو، وأن القرآن نزل من أعلى من عند الله، ليس من وضع بشر يخطىء ويصيب ويجهل المصلحة، كما نرى في القوانين الوضعية التي تُعدَّل كل يوم، ولا تتناسب ومقتضيات التطور، والتي يظهر عُوَارها يوماً بعد يوم.
ولأن القرآن نزل من أعلى فيجب علينا أن نستقبله استقبالَ الواثقِ فيه المطمئن به، لا نعانده، ولا نتكبر عليه؛ لأنك تتكبر على مساوٍ لك، أمّا ما جاءك من أعلى فيلزمك الانقياد له، عن اقتناع.
وفي الريف نسمعهم يقولون (اللي الشرع يقطع صباعه ميخرش دم) لماذا؟ لأنه قُطِع بأمر الأعلى منك، بأمر الله لا بأمر واحد مثلك.
وحين نتأمل قوله تعالى في التشريع لحكم من الأحكام:
{ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ .. } [الأنعام: 151].
كلمة (تعالوا) تعني: اتركوا حضيض تشريع الأرض، وأَقْبلوا على رِفْعة تشريع السماء، فتعالوا أيْ: تعلَّوا وارتفعوا، لا تهبطوا إلى مستوى الأرض، وإلا تعبتُم وعضَّتكم الأحداث؛ لأن الذي يُشرِّع لكم بشر أمثالكم وإنْ كانوا حتى حَسَنِي النية، فهم لا يعلمون حقائق الأمور، فإنْ أصابوا في شيء أخطأوا في أشياء، وسوف تُضطرون لتغيير هذه التشريعات وتعديلها. إذن: فالأسلم لكم أنْ تأخذوا من الأعلى؛ لأنه سبحانه العليم بما يُصلحكم.
إذن: { نَزَلَ .. } [الشعراء: 193] تفيد أنه من الأعلى من مصدر الخير حتى الحديد وهو من نِعَم الله، لما تكلم عنه قال سبحانه:
{ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِٱلْغَيْبِ .. } [الحديد: 25].
ولم يَقُلْ مثلاً: أنزلنا الألماظ أو الألماس، أو غيره من المعادن النفيسة، لماذا؟ لأن الحديد أداة من أدوات نُصْرة الدعوة وإعلاء كلمة الله.
وسُمِّي جبريل - عليه السلام - الروح؛ لأن الروح بها الحياة، والملائكة أحياء لكن ليس لهم مادة، فكأنهم أرواح مطلقة، أما البشر فمادة فيها روح.
كما أن كلمة الروح استُعملَتْ عدة استعمالات منها
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي .. } [الإسراء: 85] والمراد الروح التي نحيا بها.
وسُمِّي القرآن رُوحاً:
{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا .. } [الشورى: 52] إذن: فالقرآن روح، والملَك الذي نزل به روح، فإنْ قلتَ: فما حاجتي إلى الروح وفيَّ روح؟
نقول لك: هذه الروح التي تحيا بها مادتك، والتي تفارقك حين تموت وتنتهي المسألة، أمّا الروح التي تأتيك في القرآن فهي روح باقية خالدة، إنها منهج الله الذي يعطيك الحياة الأبدية التي لا تنتهي.
لذلك، فالروح التي تحيا بها المادة للمؤمن وللكافر على حَدٍّ سواء، أمّا الروح التي تأتيك من كتاب الله وفي منهجه، فهي للمؤمن خاصة، وهي باقية، وبها تستأنف حياة جديدة خالدة بعد حياة المادة الفانية.
واقرأ إن شئت قوله تعالى:
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ .. } [الأنفال: 24].
كيف وها نحن أحياء؟ نعم، نحن أحياء بالروح الأولى روح المادة الفانية، أمَّا رسول الله فهو يدعونا للحياة الباقية، وكأنه - عز وجل - يشير إلى أن هذه الحياة التي نحياها ليست هي الحياة الحقيقية؛ لأنها ستنتهي، وهناك حياة أخرى باقية دائمة.
حتى مجرد قولنا نحن أحياء فيه تجاوز؛ لأن الأحياء هم الذين لا يموتون، وهذه الحياة لا تأتي إلا بمنهج الله، وهذا معنى قوله تعالى:
{ وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [العنكبوت:64] فالحيوان مبالغة في الحياة، أي: الحياة الحقيقية، أما حياة المادة فأيّ حياة هذه التي يموت فيها المرء يوم مولده، أو حتى بعد مائة عام؟!
ثم يَصِف الحق - سبحانه وتعالى - الروح بأنه { ٱلأَمِينُ } [الشعراء: 193] أي: على الوحي، القرآن - إذن - مَصُون عند الله، مصون عند الروح الأمين الذي نزل به، مَصُون عند النبي الأمين الذي نزل عليه.
لذلك يقول سبحانه:
{ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ * فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [الحاقة: 44-47].
وقال تعالى:
{ وَمَا هُوَ عَلَى ٱلْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ } [التكوير: 24-25].
ثم يقول الحق سبحانه:
{ عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ ... }.