التفاسير

< >
عرض

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ
٩٦
-آل عمران

خواطر محمد متولي الشعراوي

لقد عرفنا من قبل كيف كان تداعي المعاني سبباً في إرواء الحق لكل ملكات الإنسانية، وقبل هذه الآية التي تتحدث عن بناء البيت الحرام بمكة المكرمة كان هناك حديث عن سيدنا إبراهيم عليه السلام حين قال الحق: { قُلْ صَدَقَ ٱللَّهُ فَٱتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [آل عمران: 95].
وإبراهيم عليه السلام هو أول الأنبياء صلة بالبيت الحرام، وكان رفع قواعد البيت الحرام على يده بعد أن طمر وستر بالطوفان في عهد نوح عليه السلام، فحين يأتي الكلام في رسالة سيدنا إبراهيم عليه السلام فلا بد أن تأتي أكبر حادثة في تاريخ سيدنا إبراهيم، وهي حادثة بناء البيت الحرام، كما أن الحق سبحانه حينما تكلم عن المحاجاة بين المسلمين وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده القرآن، وبين أهل الكتاب وفي أيديهم التوراة المحرفة والإنجيل المحرف أراد سبحانه أن يردنا إلى شيء واحد هو ملة إبراهيم الذي سمانا مسلمين. ومعنى ذلك أن الله يريد منا أن تسيطر قيم السماء على حركة أهل الأرض؛ لأن حركة أهل الأرض إن اتبعت الأهواء تصادمت الحركات، وما دامت الحركات قد تصادمت فإن ما ينتج عنها هو ضياع مجهود الحركة الإنسانية، ويصير هذا المجهود مبدداً.
ولكن الإنسان الذي يحمل القيم التي تتركز عقيدة في قلبه - بعد أن يبحثها بفكره - هذا الإنسان له قالب تنفذ به تشريعات الله، ولولا وجود القالب هذا لما استطاع الإنسان أن يطبق تشريعات الله، ولَمَا استطاع أن يؤدي هذه التشريعات، ولما استطاع أن يطيع الله بجوارحه؛ فالإنسان بغير قالب لا يستطيع أن يؤدي الحركة المطلوبة.
إذن فلا بد للقالب الإنساني - البدن - في التشريع من عملية أخرى وهي أن ينصب القالب ويكون له عمل حين يتوجه إلى بيت واحد لله، وبذلك يصبح للقالب نصيب في العبادة أيضاً.
ولهذا كان لا بد أن يوجد للقالب - أيضاً - مُتّجَهٌ وهذا المُتَجه يحكم القالب نفسه، فكان المؤمن المسلم محكوماً قلباً وقالباً، فحين نأتي للصلاة لنكون في حضرة الله نتحرى أن يكون قالبنا متجهاً إلى المكان الذي أمرنا الله أن نتوجه إليه، لماذا؟
لأن الحق سبحان وتعالى ساعة يعطي رحمته وبركته وتنزلاته وإشراقاته يريد أن يكون الجسم في وضع مؤهل لاستقبال هذه التجليات؛ ولذلك كان لا بد أن يكون لله بيت يتجه إليه الجميع حتى يعطي للتدين وحدة، فكما أعطى الحق لموكب الرسالات وحدة، فإنه يعطي أيضاً وحدة في القالب الإنساني والمتجَه، وكل مكان يعبد الله فيه بالنسبة للإسلام يُعتبر مسجداً، وقد يسر الله الأمر على أمة سيدنا محمد، فقال - صلى الله عليه وسلم -:
"جعلت لي أرض مسجداً وطهوراً" .
وكان لقاء الله وعبادته في الديانات السابقة يقتضي مكان محدداً ولكن قد وسع رحمته على أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
إن تراب الأرض طهور، إننا عندما نفتقد الماء الطهور فإن التراب الذي قد يبدو للوهلة السطحية أنه سبب في عدم النظافة قد جعله الله لنا طهوراً.
إن الإنسان يمكنه أن يتيمم ويتطهر بالتراب، وكأن الله قد أراد أن يكون لقاء كل فرد من أمة محمد به ميسراً تيسيراً كبيراً. وكل مكان نعبد فيه الله ويسجد فيه المسلم لله يصير مسجداً.
لكن هناك فارقاً بين أي مكان نعبد الله فيه والمسجد، فنحن نرى العامل يعبد الله في المصنع والتلميذ يعبد الله في الفصل، والفلاح يعبد الله ويؤدي الفروض في الحقل، ويمكن للسائر في الشارع أن يؤدي صلاته في أي مكان، وأن يزاول عمله بعد ذلك، ولكن حين يُحَيِّزُ الإنسان مكاناً ليكون بيتاً لله، فمحظور أن يزاول فيه نشاطاً آخر من نشاطات الحياة؛ إنه مكان مُحيز.
إن العبادة كلها مقبولة، ولكن هناك فارقاً بين مكان تعمل فيه ومكان تخصصه ليصير مسجداً. فالمسجد هو مكان لا يزاول فيه إلا لقاء الله، لذلك أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا نستغل هذا الحيز في أي أمر يتعلق بدنيانا، وقد أوضح لنا - صلى الله عليه وسلم - أن الذي يعقد صفقة في المسجد لم يبارك الله فيها، والذي ينشد فيه شيئاً ضالاً له لن يجده. فقد دعا الرسول ألا يرد الله عليه ضالته.
إن أمور الدنيا يكفيها أن تأخذ من الإنسان كل يوم ثلاثاً وعشرين ساعة، فليخصص الإنسان المؤمن ساعة لله وحده، وليخلع كل أغراض الحياة الدنيا كما يخلع النعال على باب المسجد. فليس من حسن الأدب واللياقة أن ينشغل الإنسان بأي شيء غير لقاء الله في الوقت المخصص للقاء الله، وفي المكان المخصص لهذا اللقاء.
فساعة تدخل المسجد ينبغي أن تمنع نفسك من أن يتكلم معك أحد في فضول الكلام ولغوه، وأن تنوي الاعتكاف لتستفيد من وجودك في المسجد. وساعة أن نخصص حيزاً ما ليكون مسجداً، فكيف يكون الاتجاه داخل المسجد؟ أيترك الأمر لكل واحد أن يختار له متجهاً؟
لا، إن المؤمن ملتزم بالاتجاه إلى مكان واحد، هذا المكان الواحد هو بيت لله باختيار الله بينما المساجد الأخرى هي بيوت لله باختيار خلق الله، فبيوت الله باختيار خلق الله متجها جميعاً هو بيت الله الحرام.
وحين تنظر هذه النظرة ستجد العالم متواجهاً؛ لأن كل عابد سيكون اتجاهه إلى بيت الله مع بقية العابدين لله، فيلتف المؤمنون كلهم حول بيت الله، ويتواجهون، إن وجوهنا كلها تُقابل بعضها بعضاً، ولكن ما ضرورة الاتجاه للكعبة؟ والحق سبحانه يقول:
{ وَللَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة: 115].
نقول: إن هذه الآية تؤيد ما نقوله، فما دام لله المشرق والمغرب، فهذا هو المعنى العام، فالناس أول ما عرفوا الكون تعرفوا على المشرق والمغرب ثم الشمال والجنوب أيضاً، وبعد أن توصل العلم إلى تحديد الجهات الفرعية بجانب الجهات الأصلية الأربع المعروفة عرفنا "الشمال الشرقي" و"الشمال الغربي" و "الجنوب الشرقي" و "الجنوب الغربي". إذن فكل المتجهات لله، والاتجاه للكعبة يحقق هذا القول الكريم.
وعندما يتجه إنسان إلى الكعبة فقد يكون الشرق خلفه، ويكون الغرب أمامه، ويتجه إليها إنسان آخر إلى الكعبة، فيتقابل وجهه مع وجه المتجه للكعبة، وثالث يتجه إلى الكعبة، فيكون في زاوية أخرى ناظراً إليها، وهكذا يلتف البشر من الشرق والغرب والشمال والجنوب وكل الجهات الفرعية حول الكعبة.
إذن فقول الحق:
{ { وَللَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ } [البقرة: 115] أي جميع الخلق متجه إلى الكعبة، وبذلك لا تكون هناك جهة أولى بالله من جهة أخرى. وأنا لا أريد أن أدخل في متاهة أنّ الكعبة مركز الأرض وأن الأرض خلقت منها؛ لأن الشيء إذا كان مكوراً فأي نقطة فيه تكون مركزاً للجميع، لذلك فلنترك مثل هذا الكلام، لكن ألا يكفي أن يرجحها أن الله قد اختارها؟ إن ذلك يكفي وزيادة، وبذلك ينتهي الأمر، إنها كذلك؛ لأنها بيت الله باختيار الله، وهذا يكفي.
لقد علّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأشياء التي تقف فيها العقول وليست من صلب العقائد أو الدين لا يصح أن تكون محل خلاف أو جدل. ويقول سيدنا علي كرم الله وجهه عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: سأله رجل، "أذلك أول بيت لله؟" فوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قبله بيوتاً، ولكن هو أول بيت وُضِع للناس. وهذا إيضاح أن الله قد جعل الكعبة هي أول بيت له يتعبد فيه جنس البشر، وذلك لقول الله تعالى: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ } [آل عمران: 96]. ولكن إن كانت هناك أجناس سابقة على الجنس البشري فمن المؤكد أنه كانت هناك لله بيوت لا نعرفها.

وما آدم في منطق العقل واحدولكنه عند القياس أوادم

ولذلك فوجود البيت الحرام كبيت لله لا يصطدم مع منطق الناس الذين لا يملكون إلا الثقافة الدينية الضحلة، فساعة أن يسمع الواحد منهم، أن هناك اكتشافاً لحفريات من كذا مليون سنة فهو يتساءل قائلاً: كيف وآدم لم يمر عليه ملايين السنين؟ لنفترض أن هناك خمسة أجيال لإدريس عليه السلام وثلاثة أجيال لنوح عليه السلام، وأحد عشر جيلاً لإبراهيم عليه السلام وثلاثين جيلا لمحمد عليه الصلاة والسلام، وهكذا يكون الوجود البشري محدداً بآلاف السنوات لا ملايينها.
لهذا الإنسان نقول: وهل قال لك أحد: إن آدم أول من عَمَرَ الأرض؟ إن الدين لم يقل ذلك، لكن الدين قال: إن آدم هو أول هذا الجنس البشري، ولكنه ليس أول من سكن الأرض، لذلك فليقل العلماء: إن عمر هذه الأرض ملايين السنين ولنسمع جميعاً قول الحق تبارك وتعالى:
{ { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } [إبراهيم: 19].
إذن فلا مجال لهذا البحث، لذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام:
"لا، بل قبله بيوت" .
والحق سبحانه وتعالى يقول ما يوضح أن الجن قد سكنوا الأرض قبلنا: { وَٱلْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ } [الحجر: 27].
ألم يقل الحق سبحانه إن الإنسان خليفة، وردّت عليه الملائكة:
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [البقرة: 30].
إن الذين قالوا ذلك ليسوا من البشر، إذن فكلام الله يؤكد أن الكعبة هي أول بيت وُضع للناس، أي للجنس البشري، ولذلك فلا داعي أن نتكلم في الأشياء التي يقف فيها العقل حتى لا ندخل في متاهة. ولو كان الله قد أراد أن يعلمنا أن الكعبة هي أول بيت في الأرض لقال لنا: "إن أول بيت وضع في الأرض"، ولم يكن قد حدد الجنس الذي وضع البيت من أجله، لكن الحق سبحانه قال: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً } [آل عمران: 96]، ولذلك بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قبله بيوتاً، ولكنه أول بيت وضع للناس. إنه جواب يتسع لكل ما يأتي به العلم.
وحين ننظر إلى القول الحق: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً } [آل عمران: 96] ما معنى "أول"؟ إنه الابتداء، وهل كل ابتداء له انتهاء؟ لا، إن هناك أموراً لها "أول" وليس لها "آخر" ومثال ذلك العدد "واحد" وما بعده ليس له آخر، فآخر ما بعد العدد واحد هو ما يمكن الإنسان أن يحسبه عجزاً في التقديرات الدشليونية ولكن ما بعد الدشليون هناك أعداد أخرى، وكان الإنسان قديماً يقف عند الألف، ثم يقول عن المليون "ألف ألف"، وكذلك الجنة لها أول وليس لها آخر.
إذن فأول بيت وضعه الله للناس هو الكعبة. وعندما نرى كلمة "وُضع" نجدها فعلاً، ونرى أنه قد وُضِع للناس. وما دام هذا البيت قد وضع للناس لذلك فمن اللازم حين تأتي كلمة "ناس" أن يكون هناك "بيت" و"آدم" من الناس، ووالد كل الناس، وكان له بيت وُضع له. وحين يقال: إن البيت قد تم بناؤه قبل آدم فإننا نقول: نعم، لأن آدم من الناس، والله يقول: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاس } [آل عمران: 96] فلماذا نحرم آدم من أن يكون له بيت عند الله؟ إذن فالبيت موجو من قبل آدم. وبعض الناس تظن أن إبراهيم عليه السلام هو الذي بنى البيت، ولأصحاب هذا الظن نقول: لنفهم القرآن معاً، إن مثل هذا القول يناقض القرآن؛ لأن القرآن قد قال: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاس } [آل عمران: 96] وذلك إيضاح أن إبراهيم كان من قبله أناس سابقون له، فكيف لا يكون للناس من قبل إبراهيم بيت؟ ولا يكون للناس من بعد إبراهيم بيت؟
إن الذين كانوا يعيشون قبل مجيء إبراهيم عليه السلام لهم الحقوق نفسها عند الله التي وضعها الله لمن بعد إبراهيم، فلا بد أن الله قد جعل بيته لهم، والنص القرآني { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاس } [آل عمران: 96] يؤكد ذلك، وما دام قد جعل الفعل مَبْنِيَاَ للمجهول فواضعه غير الناس، فـ "وُضِع" هو فعل مبني على ما لم يسم فاعله، فمن الذي وضعه؟ هل هم الملائكة؟
قد يصح ذلك وهو أن يكون الملائكة قد تلقوا الأمر من الله بمزاولة هذا البناء؛ ولكن الحق يقول عن هذا البيت إنه: "هدى للعالمين" وهذا يعني أن البيت هدى للملائكة؛ لأنهم عالم، وهذا يعني أن البيت قد وضعه الله من قبل ذلك، إن أحداً لا يقدر أن يجعل الكون على قدر العقل البشري، إن على العقل البشري أن يكون في ركاب الكون، وإياك أن تجعل الكون في ركاب عقلك. أما مسألة أن إبراهيم قد بني الكعبة أولاً فهذا عدم فهم للنص القرآني القائل:
{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } [البقرة: 127].
فما هو الرفع؟ إنه إيجاد البُعد الثالث وهو الارتفاع، فالطول والعرض موجودان إذن فهذا دليل على وجود البيت قبل أن يقيم إبراهيم عليه السلام ارتفاع البيت. وهكذا نستنتج أن الذي كان مطموساً هو القاعدة والارتفاع، مع وجود الطول والعرض اللذين يحددان المكان، أما البناء فهو الذي يحدد "المكين" وعندما انهدم البيت الحرام كان الناس يتجهون إلى المكان نفسه. ونحن عندما نصلي في الدور الثالث في الحرم، فإننا نتجه إلى الهواء الموجود من فوق الكعبة، ولو حفرنا نفقاً تحت الأرض بألف متر، وأردنا أن نصلي فإننا سنتجه إلى جذر الكعبة، وهكذا نعرف أن جو الكعبة كعبة.
إذن فعمل إبراهيم عليه السلام كان في إيجاد المكين لا المكان، ولنقرأ بالفهم الإيماني ما حدث لإبراهيم عليه السلام. لقد أخذ إبراهيم هاجر وابنها إسماعيل، وخرج بهما ليضعهما في هذا المكان. "وهاجر" تعرف أن مكونات الحياة هي المياه والهواء والقوت، وهذا المكان لا توجد به حتى المياه، لذلك قالت هاجر سائلة إبراهيم عليه السلام: كيف تتركنا هنا؟ هل أنزلتنا هنا برأيك أم بتوجيه من الله؟ فقال لها إبراهيم عليه السلام: إنه توجيه من الله، لذلك قالت: "لقد اطمأننت، والله لا يضيعنا أبداً". لم تقلق هاجر لأن إبراهيم اتجه إلى ما أمر الله، وهذا هو الإيمان في قمته، ولو لم يكن الإيمان على هذه الدرجة الرفيعة فأي قلب لأم تترك أب الطفل يذهب بعيداً عنها وتعيش مع ابنها في هذا المكان الذي لا يوجد به طعام أو ماء، فهي لا تؤمن بإبراهيم، ولكنها تؤمن برب إبراهيم وعندما تقرأ القرآن الكريم تجد القول الحق على لسان إبراهيم:
{ رَّبَّنَآ إِنَّيۤ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِيۤ إِلَيْهِمْ وَٱرْزُقْهُمْ مِّنَ ٱلثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } [إبراهيم: 37].
هكذا نعرف أنه ساعة إسكان إبراهيم لذريته كان هناك بيت وأن هذا البيت محرم، وعندما نقرأ عن رفع البيت الحرام نجد أن إبراهيم عليه السلام لم يرفع قواعد البيت بمفرده بل شاركه ابنه إسماعيل عليه السلام.
{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } [البقرة: 127].
هكذا نعلم أن إسماعيل عليه السلام كان قد نضج بصورة تسمح له أن يساعد والده خليل الرحمن في إقامة قواعد البيت الحرام، وهذا يدلنا على أن إسماعيل نشأ طفلاً في هذا المكان عندما أسكنه والده إبراهيم عند البيت المحرم، هكذا نتيقن أن البيت المحرم كان موجوداً من قبل إبراهيم عليه السلام، وعندما ندقق النظر في معنى كلمة "بكة" التي وردت في هذا القول الكريم: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً } [آل عمران: 96] فإننا نعرف أن هناك اسماً لمكان البيت الحرام هو "بكة" وهناك اسم آخر هو مكة، وبعض العلماء يقول: إن "الميم" و"الباء" يتعاونان، ونلحظ ذلك في الإنسان "الأخنف" أو المصاب بزكام، إنه ينطق "الميم" كأنها "باء". والميم و"الباء" حرفان قريبان في النطق، والألفاظ منهما تأتي قريبة المعنى من بعضها.
ولننظر إلى اشتقاق "مكة" واشتقاق "بكة". إننا نقرأ "بكّ المكان" أي ازدحم المكان، وهكذا نعرف من قوله الحق: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً } [آل عمران: 96] أي أنه مكان الازدحام الذي يأتي إليه كل الناس وكل الوفود لتزور بيت الله الحرام، ولا أدل على ازدحام البيت الحرام من أن الرجال والنساء يختلط بعضهم ببعض، والإنسان يطوف بالبيت الحرام، ولا يدري أنه يسير وقد يلمس امرأة أثناء الطواف.
و"بكة" هي المكان الذي فيه الطواف والكعبة، أي هي اسم مكان البيت الحرام، و"مكة" اسم البلد كلها الذي يوجد به البيت الحرام. و"مكة" مأخوذة من ماذا؟ إن "مكة" مأخوذة من "مك الفصيل الضرع" أو "امتك الفصيل الضرع"، أي امتص كل ما فيه من لبن، والفصيل كما نعرف هو صغير الإبل أو صغير البقر. وما دام الفصيل قد امتص كل ما في الضرع من لبن فمعنى هذا أنه جائع، ومكة كما نعرف ليس فيها مياه، والناس تجهد وتبالغ في أن تمتص المياه القليلة عندما تجدها في مكة.
وفي كلمة "مباركاً" نجد أنها مأخوذة من "الباء والراء والكاف" والمادة كلها تدور حول شيء اسمه الثبات، فهل هو الثبات الجامد، أم الثبات المعطي النامي الذي مهما أخذت منه فإنه ينمو أيضاً؟ إننا في حياتنا اليومية نقول: "إن هذا المال فيه بركة مهما صرفت منه فإنه لا ينتهي"، أي أنه ثابت لا يضيع، ويعطي ولا ينفد. وكلمة "بِرْكة" في حياتنا تعني أنها تَجَمعُ الماء تأخذ منها مهما تأخذ فيأتي إليها ماء آخر.
وكلمة "تبارك الله" تعني "ثبت الحق" ولم يزل أزلاً ولا يزال هو واحداً أحداً، إنه الثبوت المطلق. وهكذا نجد أن الثبات يأتي في معنى البيت الحرام. إن البيت الحرام مبارك أبداً "كيف"؟ أليست تضاعف فيه الحسنة؟ وهل هناك بركة أحسن من هذه؟ وهل هناك بركة أفضل من أنه بيت تُجبى إليه ثمرات كل شيء ولا تنقطع؟ فقديما كان الذاهب إلى البيت الحرام يأخذ معه حتى الكفن، ويأخذ الإبرة والخيط، والملح، والآن فإن الزائر لبيت الله الحرام يذهب ليأتي بكماليات الحياة من هناك. ويقول سبحانه عن هذا البيت الحرام المبارك: إنه "هدى للعالمين". ما هو الهدى؟ قلنا: إن الهدى هو الدلالة الموصلة للغاية، ومن يَزُرْ البيت الحرام يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فهل اهتدى للجنة أم لا؟ إنه يعرف بزيارة البيت الحرام الطريق إلى الجنة. وحينما ننظر إلى هذه المسألة نجد أن الحق سبحانه وتعالى عندما تكلم عن البيت لم يتكلم إلا عن آية واحدة فيه هي مقام إبراهيم مع أن فيه آيات كثيرة.
قال الحق:
{ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ... }.