التفاسير

< >
عرض

وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ
٢٢
-الروم

خواطر محمد متولي الشعراوي

في خلق السماوات والأرض آيات أظهرها لنا كما قال في موضع آخر إنها تقوم على غير عمد: { { خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا .. } [لقمان: 10].
فالسماء التي تروْنها على امتداد الأفق تقوم بغير أعمدة، ولكم أنْ تسيروا في الأرض، وأنْ تبحثوا عن هذه العُمد فلن تروْا شيئاً. أو
{ { بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا .. } [لقمان: 10] يعني: هي موجودة لكن لا ترونها.
والمنطق يقتضي أن الشيء العالي لا بُدَّ له إما من عُمُد تحمله من أسفل، أو قوة تُمسكه من أعلى؛ لذلك ينبغي أنْ نجمع بين الآيات لتكتمل لدينا هذه الصورة، فالحق سبحانه يقول في موضع آخر:
{ { إِنَّ ٱللَّهَ يُمْسِكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ أَن تَزُولاَ .. } [فاطر: 41].
إذن: ليست للسماء أعمدة، إنما يمسكها خالقها - عز وجل - من أعلى، فلا تقع على الأرض إلا بإذنه، ولا تتعجب من هذه المسألة، فقد أعطانا الله تعالى مثالاً مُشَاهداً في قوله سبحانه:
{ { أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ ٱلطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ ٱلسَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱللَّهُ .. } [النحل: 79].
فإنْ قُلْت: يمسكها في جو السماء حركة الجناحين ورفرفتها التي تحدث مقاومة للهواء، فترتفع به، وتمسك نفسها في الجو، نقول: وتُمسك أيضاً في جو السماء بدون حركة الجناحين، واقرأ إنْ شئتَ قوله تعالى:
{ { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى ٱلطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ .. } [الملك: 19].
فترى الطير في السماء مادّاً جناحيه ثابتاً بدون حركة، ومع ذلك لا يقع على الأرض ولا يُمسكه في جَوِّ السماء إذن إلا قدرة الله.
إذن: خُذْ مما تشاهد دليلاً على صدْق ما لا تشاهد؛ لذلك يقول سبحانه:
{ { لَخَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ .. } [غافر: 57] مع أنها خُلِقت لخدمة الإنسان.
فمع أنك أيها الإنسان مظهر من مظاهر قدرة الله، وفيك انطوى العالم الأكبر، إلا أن عمرك محدود لا يُعَدُّ شيئاً إذا قِيسَ بعمر الأرض والسماء والشمس والقمر .. الخ.
ثم يعود السياق هنا إلى آية من آيات الله في الإنسان: { وَٱخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ .. } [الروم: 22] اللسان يُطلَق على اللغة كما قال تعالى
{ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } [الشعراء: 195] وقال: { { لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } [النحل: 103].
ويُطلَق أيضاً على هذه الجارحة المعروفة، وإنما أُطِلق اللسان على اللغة؛ لأن أغلبها يعتمد على اللسان وعلى النطق، مع أن اللسان يُمثِّل جزءاً بسيطاً في عملية النطق، حيث يشترك معه في النطق الفم والأسنان والشفتان والأحبال الصوتية .. إلخ، لكن اللسان هو العمدة في هذه العملية. إذن: فاختلاف الألسنة يعني اختلاف اللغات.
وسبق أنْ قُلْنا: إن اللغة ظاهرة اجتماعية يكتسبها الإنسان من البيئة المحيطة به، وحين نسلسلها لا بُدَّ أنْ نصلَ بها إلى أبينا آدم عليه السلام، وقلنا: إن الله تعالى هو الذي علَّمه اللغة حين علَّمه الأسماء كلها، ثم يتخذ آدم وذريته من بعده هذه الأسماء ليتفاهموا بها، وليضيفوا إليها أسماء جديدة.
لذلك نرى أولادنا مثلاً حينما نريد أنْ نُعلِّمهم ونُرقِّيهم نُعلِّمهم أولاً أسماء الأشياء قبل أنْ يتعلموا الأفعال؛ لأن الاسم أظهر، أَلاَ ترى أن الفِعْل والحدث يدل عليه باسم، فكلمة (فِعْل) هي ذاتها اسم.
لكن، كيف ينشأ اختلاف اللغات؟ لو تأملنا مثلاً اللغة العربية نجدها لغة واحدةً، لكن بيئاتها متعددة: هذا مصري، وهذا سوداني، وهذا سوري، مغربي، عراقي ... الخ نشترك جميعاً في لغة واحدة، لكن لكل بيئة لهجة خاصة قد لا تُفهَم في البيئة الأخرى، أما إذا تحدَّثنا جميعاً باللغة العربية لغة القرآن تفاهم الجميع بها.
أما اختلاف اللغات فينشأ عن انعزال البيئات بعضها عن بعض، هذا الانعزال يؤدي إلى وجود لغة جديدة، فمثلاً الإنجليزية والفرنسية والألمانية و ... الخ ترجع جميعها إلى أصل واحد هو اللغة اللاتينية، فلما انعزلتْ البيئات أرادتْ كل منها أن يكون لها استقلالية ذاتية بلغة خاصة بها مستقلة بألفاظها وقواعدها.
أو { وَٱخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ .. } [الروم: 22] يعني: اختلاف ما ينشأ عن اللسان وغيره من آلات الكلام من أصوات مختلفة، كما نرى الآن في آخر صيحات علم الأصوات أنْ يجدوا للصوت بصمة تختلف من شخص لآخر كبصمة الأصابع، بل بصمة الصوت أوضح دلالة من بصمة اليد.
ورأينا لذلك خزائن تُضْبط على بصمة صوت صاحبها، فساعة يُصدر لها صوتاً تفتح له.
ومن العجيب والمدهش في مجال الصوت أن المصوِّتات كثيرة منها: الجماد كحفيف الشجر وخرير الماء، ومنها: الحيوان، نقول: نقيق الضفادع وصهيل الخيل، ونهيق الحمار، وثُغَاء الشاة، ورُغَاء الإبل .. الخ لكن بالله أسألك: لو سمعت صوت حمار ينهق، أتستطيع أن تقول هذا حمار فلان؟ لا، لأن كل الأصوات من كُلِّ الأجناس خلا الإنسان صوتها واحد لا يميزه شيء.
أما في الإنسان، فلكُلٍّ منّا صوته المميز في نبرته وحدّته واستعلائه أو استفاله، أو في رقته أو في تضخيمه .. الخ. فلماذا إذن تميَّز صوت الإنسان بهذه الميزة عن باقي الأصوات؟
قالوا: لأن الجماد والحيوان ليس لهما مسئوليات ينبغي أنْ تُضبط وأنْ تُحدَّد كما للإنسان، وإلا كيف نُميز المجرم حين يرتكب جريمته ونحن لا نعرف اسمه، ولا نعرف شيئاً من أوصافه؟ وحتى لو عرفنا أوصافه فإنها لا تدلُّنا عليه دلالة قاطعة تُحدِّد المسئولية ويترتب عليها الجزاء.
وقال سبحانه بعدها { وَأَلْوَانِكُمْ .. } [الروم: 22] فاختلاف الألسنة والألوان ليحدث هذا التميُّز بين الناس، ولأن الإنسان هو المسئول خلق اللهُ فيه اختلافَ الألسنة والألوان؛ لنستدل عليه بشكله: بطوله أو قِصَره أو ملابسه ... إلخ.
وفي ذلك ما يضبط سلوك الإنسان ويُقوِّمه حين يعلم أنه لن يفلت بفِعْلته، ولا بُدَّ أنْ يدل عليه شيء من هذه المميزات.
لذلك نرى رجال البحث الجنائي ينظمون خطة للبحث عن المجرم قد تطول، لماذا؟ لأنهم يريدون أنْ يُضيِّقوا دائرة البحث فيُخرجون منها مَنْ لا تنطبق عليه مواصفاتهم، وما يزالون يُضيِّقون الدائرة حتى يصلوا للجاني.
والحق - تبارك وتعالى - يقول:
{ { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ .. } [الحجرات: 13].
فالتميُّز والتعارف أمر ضروري لاستقامة حركة الحياة، ألاَ ترى الرجل يضع لكل ولد من أولاده اسماً يُميِّزه، فإن عشق اسم محمد مثلاً، وأحب أن يسمى كل أولاده محمداً لا بد أن يميزه، فهذا محمد الكبير، وهذا محمد الصغير، وهذا الأوسط .. الخ.
إذن: لا بُدَّ أن يتميز الخَلْق لنستطيع تحديد المسئوليات.
ثم يقول سبحانه: { إِنَّ فِي ذٰلِكَ .. } [الروم: 22] أي: في الخَلْق على هذه الهيئة الحكيمة المحكمة { لآيَاتٍ .. } [الروم: 22] لنعتبر بها، فالخالق سبحانه إنْ وحَّد الصفات فدليل على الحكمة، وإن اختلفت فدليل على طلاقة القدرة. وانظر مثلاً إلى الصانع الذي يصنع أكواب الزجاج، تراه يأخذ عجينة الزجاج ويصبُّها في قالب قتخرج جميعها على شكل واحد، أما الخباز مثلاً فيأخذ العجينة ويجعلها رغيفاً فلا ترى رغيفاً مثل الآخر.
أمَّا الخالق - عز وجل - فيخلق بحكمة وبطلاقة قدرة، ويخلق سبحانه ما يشاء، غير محكوم بقالب معين.
وقوله { لِّلْعَالَمِينَ .. } [الروم: 22] أي: الذين يبحثون في الأشياء، ولا يقفون عند ظواهرها، إنما يتغلغلون في بطونها، ويَسْبرون أغوارها للوصول إلى حقيقتها.
لذلك يلوم علينا ربنا عز وجل:
{ { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [يوسف: 105] فلا يليق بأصحاب العقول أن يغفلوا عن هذه الآيات، إنما يتأملونها ليستنبطوا منها ما ينفعهم في مستقبل حياتهم، كما نرى في المخترعات والاكتشافات الحديثة التي خدمتْ البشرية، كالذي اخترع عصر البخار، والذي اخترع العجلة، والذي اكتشف الكهرباء والجاذبية والبنسلين .. الخ، إذن: نمر على آيات الله في الكون بيقظة، وكل العلوم التجريبية نتيجة لهذه اليقظة.
والعَالمون: جمع عالم، وكانت تطلق في الماضي على مَنْ يعرف الحلال والحرام، لكن هي أوسع من ذلك، فالعالم: كل مَنْ يعلم قضية كونية أو شرعية، ويُسمَّى هذا "عالم بالكونيات" وهذا عالم بالشرع، وإنْ شئتَ فاقرأ:
{ { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ .. } [فاطر: 27-28].
فذكر سبحانه النبات، ثم الجماد، ثم الناس، ثم الحيوان.
ثم يقول سبحانه:
{ { إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ .. } [فاطر: 28] على إطلاقها فلم يُحدِّد أي علماء: علماء النبات، أو الحيوان، أو الجمادات، أو علماء الشرع، إذن: العَالِم كل مَنْ يعلم حقيقة في الكون وجودية أو شرعية من عند الله.
لكن، لماذا أطلقوا العالم على العالم بالشرع خاصة؟ قالوا: لأنه أول العلوم المفيدة التي عرفوها؛ لذلك رأينا من آداب العلم في الإسلام ألاَّ يُدخِل علماء الشرع أنفسهم في الكونيات، وألاَّ يُدخل علماء الكونيات أنفسهم في علوم الشرع.
والذي أحدث الاضطراب بين هذه التخصصات أن يقول مثلاً علماء الكونيات بأن الأرض تدور حول الشمس، فيقوم من علماء الدين مَنْ يقول: هذا مخالف للدين - هكذا عن غير دراسة، سبحان الله، لماذا تُقحِم نفسك فيما لا تعلم؟ وماذا يضيرك كعالم بالشرع أن تكون الأرض كرة تدور أو لا تدور؟ ما الحرام الذي زاد بدوران الأرض وما الحلال الذي انتقص؟ كذلك الحال لما صعد الإنسان إلى القمر، اعترض على ذلك بعض رجال الدين.
كذلك نسمع مَنْ لا عِلْم له بالشرع يعترض على بعض مسائل الشرع يقول: هذه لا يقبلها العقل. إذن: آفة العلم أن يقحم العالم نفسه فيما لا يعلم، ولو التزم كلٌّ بما يعلم لارتاح الجميع، وتركت كل ساحة لأهلها.
وعجيب أن يستشهد رجال الدين على عدم كروية الأرض بقوله تعالى:
{ { وَٱلأَرْضَ مَدَدْنَاهَا .. } [الحجر: 19] ولو تأملوا معنى { { مَدَدْنَاهَا .. } [الحجر: 19] لما اعترضوا؛ لأن معنى مددناها يعني: كلما سِرْتُ في الأرض وجدتها ممتدة لا تنتهي حتى تعود إلى النقطة التي بدأت منها، وهذا يعني أنها كرة لا نهاية لها، ولو كانت مُسطحة أو مُثلثة مثلاً لكان لها نهاية.
إذن: نقول للعلماء عموماً: لا تُدخلوا أنوفكم فيما لا علْم لكم به، ودَعُوا المجال لأصحابه، عملاً بقوله تعالى:
{ { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ .. } [البقرة: 60].
ثم يقول الحق سبحانه:
{ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِٱلَّيلِ ... }.