التفاسير

< >
عرض

يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ٱلآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ
٧
-الروم

خواطر محمد متولي الشعراوي

إذا رأيت فعلاً نُفِي مرة، وأُثبت مرة أخرى، فاعلم أن الجهة منفكة، فهم لا يعلمون بواطن الأمور، إنما يعلمون ظواهرها، وليتهم يعلمون ظواهر كل شيء، إنما ظواهر الدنيا فحسب، ولا يعلمون بواطنها، فما بالك بالآخرة؟
حين تتأمل أمور الدنيا والقوانين الوضعية التي وضعها البشر، ثم رجعوا عنها بعد حين، تجد أننا لا نعلم من الدنيا إلا الظاهر، فمثلاً قانون الإصلاح الزراعي الذي نعمل به منذ عام 1952، وكنا مُتحمِّسين له نُمجِّده ولا نسمح بالمساس به يناقشونه اليوم، ويطلبون إعادة النظر فيه، بل إلغاءه؛ لأنه لم يَعُدْ صالحاً للتطبيق في هذا العصر، روسيا التي تبنتْ النظام الشيوعي ودافعتْ عنه بكل قوة هي التي نقضتْ هذا النظام وأسقطته.
ما أسقطته أمريكا مثلاً، ولو أسقطته أمريكا لانتقلت إليها قوة الشيوعية وغطرستها؛ لذلك يقولون: ما اندحرت الشيوعية إنما انتحرت على أيدي أصحابها. ومن الممكن أن ينتحر هؤلاء كما انتحرتْ نُظمهم فأوْلَى بهم أنْ يستقيموا لله، وأن يُخِلصوا للناس.
إذن: لا نعرف من الدنيا إلا ظواهر الأشياء، ولا نعرف حقيقتها، كما نشقى الآن بسبب المبيدات الحشرية التي ظننا أنها ستُريحنا وتُوفر علينا الجهد والوقت في المقاومة اليدوية؟
كم يشقى العالم اليوم من استخدام السيارات مثلاً من تلوث في البيئة وقتْل للأرواح كل يوم، ولك أن تقارن بين وسائل المواصلات في الماضي ووسائل المواصلات اليوم، فإن كان للوسائل الحديثة نفع عاجل، فلها ضرر آجل، ويكفي أن عادم المخلوق لله يصلح الأرض، وعادم المخلوق للبشر يفسدها، لماذا؟ لأننا نعلم ظواهر الأشياء. ولو علم الذي اكتشف السولار مثلاً حقيقته لما استخدمه فيما نستخدمه نحن فيه الآن.
هذا عن عِلْمنا بأمور الدنيا، أمّا الآخرة فنحن في غفلة عنها؛ لذلك يقول سيدنا الحسن: أعجب للرجل يمسك الدينار بأنامله فيعرف وزنه، و (يرنه) فيعرف زيوفه من جيده، ولا يحسن الصلاة.
ومن ذلك قوله تعالى:
{ { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ .. } [الأنفال: 17] فنفى الرمي، وأثبته في آية واحدة؛ لأن الجهة منفكة، فالإثبات لشيء، والنفي لشيء آخر. وسبق أنْ مثَّلْنا لذلك بالتلميذ الذي تجبره على المذاكرة فيفتح الكتاب ويُقلِّب صفحاته ويهزّ رأسه، كأنه يقرأ، فإذا ما أختبرته فيما قرأ تجده لم يفهم شيئاً، فتقول له: ذاكرتَ وما ذاكرتَ؛ لأنه فعل فِعْل المذاكرة، ومع ذلك هو في الحقيقة لم يذاكر؛ لأنه لم يُحصِّل شَيئاً مما ذاكره.
كذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى حين أخذ حفنة من الحصى ورمى بها ناحية جيش الكفار، لكن
{ { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ .. } [الأنفال: 17] هذه الحفنة؛ لأن قدرتك البشرية لا توصل هذه الرمية إلى كل الجيش، فهذه إذن قدرة الله.
ونلحظ في قوله تعالى:
{ { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [الروم: 6] أنه استثنى من عدم العلم فئة قليلة، فلماذا استثنى هذه الفئة مع أننا نُغيِّر النظم الدنيوية والقوانين على الجميع؟ قالوا: لأنه حين وُضِعت هذه القوانين وشُرعت هذه النظم كانت هناك فئة ترفضها ولا تقرها، لذلك لم يتهم الكل بعدم العلم.
والظاهر الذي يعلمونه من الحياة الدنيا فيه مُتَع وملاذ وشهوات، البعض يعطي لنفسه فيها الحرية المطلقة، وينسي عاقبة ذلك في الآخرة، لذلك فإن أهل الريف يقولون فيمن لا يحسب حساباً للعواقب: (الديب بلع منجل، فيقول الآخر: ساعة خراه تسمع عواه).
واقرأ قوله تعالى:
{ { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلأَنْعَامِ وَٱلْحَرْثِ ذٰلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ } [آل عمران: 14].
فذكر الناس متاع الحياة الدنيا ونسُوا الباقيات الصالحات في الآخرة، والعاقل هو الذي يستطيع أنْ يُوازن بينهما، وسبق أنْ قُلْنا عن الدنيا بالنسبة لك: هي مدة بقائك فيها، هي عمرك أنت لا عمر الدنيا كلها، كما أن عمرك فيها محدود مظنون لا بُدَّ أن ينتهي بالموت.
أما الآخرة فدار باقية دائمة، دار نعيم لا ينتهي، ولا يفوتك بحال، فلماذا تشغلك الفانية عن الباقية؟ لماذا ترضى لنفسك بصفقة خاسرة؟
لذلك لما سُئِل الإمام علي: أريد أن أعرف أنا من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة؟ فقال: لم يدع الله الجواب لي، إنما الجواب عندك أنت، فإنْ دخل عليك اثنان: واحد جاء بهدية، والآخر جاء يسألك عطية، فإنْ كنت تهشُّ لصاحب الهدية فأنت من أهل الدنيا، وإنْ كنت تهشُّ لمن يطلب العطية فأنت من أهل الآخرة.
لماذا؟ لأن الإنسان يحب مَنْ يُعمِّر ما يحب، فإنْ كنتَ تحب الآخرة فإنك تحب بالتالي مَنْ يعمرها لك، وإنْ كنتَ تحب الدنيا فإنك تحب مَنْ يعمرها لك؛ لذلك كان أحد الصالحين إنْ جاءه سائل يطرق بابه يهشُّ في وجهه، ويبَشُّ ويقول: مرحباً بمَنْ جاء يحمل زادي إلى الآخرة بغير أجرة.
لكن، لماذا أعاد الضمير في { وَهُمْ عَنِ ٱلآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } [الروم: 7] لماذا لم يقل: وهم عن الآخرة غافلون؟
لو قال الحق سبحانه وهم عن الآخرة غافلون لَفُهم أن الغفلة مسيطرة عليهم، وليست هناك أدلة تُوقِظهم، إنما { وَهُمْ عَنِ ٱلآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } [الروم: 7] يعني: الغفلة واقعة منهم أنفسهم، وإلاَّ فالأدلة واضحة، لكن ما جدوى الأدلة مع قوم هم غافلون.
ثم يقول الحق سبحانه:
{ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِيۤ أَنفُسِهِمْ ... }.