التفاسير

< >
عرض

لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَٱلْمُرْجِفُونَ فِي ٱلْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً
٦٠
مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوۤاْ أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً
٦١
-الأحزاب

خواطر محمد متولي الشعراوي

المتتبع لموكب الرسالات يجد أن الرسل واجهوا في نشر رسالتهم ثلاثة أصناف من البشر: صنف آمن، وصنف كفر، وصنف وقف متردداً بين الكفر والإيمان، وهؤلاء هم المنافقون.
ذلك؛ لأن الرسول حين يُبعث إنما يُبعَث لتغيير وضع اجتماعي بلغ من السوء درجةً لا يحتملها الناس، فالذي يعاني من هذا الوضع ينتظر هذا الرسول الجديد، فما أنْ يُبعث حتى يبادر إلى الإيمان به؛ لأنه جاء بمبادىء جديدة، لا ظُلْم فيها، ولا قهر، ولا استبداد، ولا رشوة، ولا فساد.
إذن: مَنْ عضته هذه الأحداث، وشقى بهذا الفساد سارع إلى الإيمان، وكذلك آمن أهل مصر، وما إنْ دخلها الإسلام حتى أسرعوا إليه، لماذا؟ لأنهم شَقُوا قبله بحكم الرومان، وكذلك آمن الفُرْس بمجرد أنْ سمعوا بالإسلام، ورأوا الأسوة الحسنة في المسلمين بعد أنْ عَضَّهم فساد غير المسلمين.
ساعة يشْقَى الناسُ بفساد الأوضاع يتطلَّعون إلى منقذ، فإنْ جاءهم اتبعوه، خاصة إنْ كان منهم وله فيهم مَاضٍ مُشرِّف لم يُجربوا عليه كذباً ولا نقيصة.
وهذا ما رأيناه مثلاً في قصة إسلام سيدنا أبي بكر، فما أنْ أعلن محمد أنه رسول الله حتى سارع إلى الإيمان به دون أنْ يسأله عن شيء، لماذا؟ لأنه عرف صِدْقه، وعرف أمانته، ووثق من ذلك.
ومثله كان إيمان السيدة خديجة - رضي الله عنها - فما إنْ جاءها رسول الله مُضطرباً مما لاقى من نزول المَلك عليه حتى احتضنته، وهدَّأتْ من رَوْعه، وأنصفته، وذهبتْ به إلى ورقة بن نوفل لتثبت له أنه على الحق، وأن الله تعالى لن يُسلمه ولن يتخلى عنه.
وكان مما قالتْ: "والله إنك لتقري الضيف، وتحمل الكلَّ، وتُكسِب المعدوم، وتعين على نوائب الدهر ...".
لذلك قال العلماء: إن السيدة خديجة كانت أول فقيهة في الإسلام قبل أنْ ينزل الإسلام.
وطبيعي أن يكون أهل الفساد والمستفيدون منه على النقيض، فهم ينتفعون بالفساد والاستبداد، ويريدون أن تظلَّ لهم سيادتهم ومكانتهم، وأنْ يظل الناسُ عبيداً لهم، يأكلون خيراتهم ويستذلونهم.
وهؤلاء الذين استعبدوا الناس، وجعلوا من أنفسهم سادةً بل آلهة، ويعلمون أن الرسول ما جاء إلا للقضاء على سيادتهم وألوهيتهم الكاذبة، هؤلاء لا بُدَّ أن يصادموا الدعوة، لا بُدَّ أنْ يكفروا بها، وأن يحاربوها، حِفَاظاً على سيادتهم وسلطتهم الزمنية.
وعجيب أن نرى من عامة الناس مَنْ أَلِف هذه العبودية، ورضي هذه المذلة، واكتفى بأنْ يعيش في كَنَف هؤلاء السادة مهما كانت التبعاتُ، هؤلاء وأمثالهم هم الذين قالوا:
{ { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31].
فبعد أنْ جاءهم الرسول المنقذ ما زالوا يتطلعون إلى عظيم يستعبدهم.
وكلٌّ من هذيْن الفريقين (المؤمن، والكافر) كان منطقياً مع نفسه، فالمؤمن آمن بقلبه، ونطق بلسانه، والكافر كفر بقلبه، وكفر بلسانه، لأنه لم ينطق بكلمة التوحيد، والإنسان قلبٌ وقالبٌ، ولا بُدَّ في الإيمان أنْ يوافق القالبُ ما في القلب.
أما الصنف الثالث وهو المنافق، فليس منطقياً مع نفسه، لأنه آمن بلسانه، ولم يؤمن بقلبه، فهو جبان يُظهر لك الحب، ويُضمِر الكره؛ لذلك جعلهم الله في الدَّرْك الأسفل من النار.
لذلك، فالعرب لما سألهم رسول الله أنْ يقولوا: لا إله إلا الله، ليبطل بها سيادة زعماء الكفر أبوْا أن يقولوها، لماذا؟ لأنهم يعلمون أنها ليست كلمة تُقال، إنما لها تبعات، ويترتب عليها مسئوليات لا يقدرون هم على القيام بها، ولو أنها كلمة تُقَال لقالوها، وانتهى العداء بينهم وبين رسول الله.
فمعنى لا إله إلا الله: لا عبودية إلا لله، ولا خضوعَ إلا لله، ولا تشريعَ إلا لله، ولا نافع إلا الله ... إلخ، وكيف تستقيم هذه المعاني مع مَنْ أَلِف العبودية والخضوع لغير الله؟
والحق - تبارك وتعالى - لما تكلّم هنا عن المنافقين خَصَّ المدينة، فقال سبحانه { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَٱلْمُرْجِفُونَ فِي ٱلْمَدِينَةِ .. } [الأحزاب: 60] فالنفاق لم يظهر في مكة، وهي مَعْقل الكفر والأصنام، إنما ظهر في المدينة، وهي التي آوَتْ مهاجري رسول الله، وكان غالبية أهلها من أهل الكتاب، وهم أقرب إلى الإيمان من الكفار، فلماذا هذه الظاهرة؟
قالوا: لإن الإسلام كان ضعيفاً في مكة، وصار قوياً في المدينة، فالنفاق ظاهرة صحية للإسلام؛ لأنه لولا قوته ما نافقه المنافقون، فظهور النفاق في المدينة دليل على قوة الإسلام فيها، وأنه صارت له شوكة، وصارت له سطوة؛ لذلك نافق ضعافُ الإيمان؛ ليأخذوا خير الإسلام، وليحتموا بحماه، وإلا فالضعيفُ لا يُنَافَق.
نعم، ظهر النفاق في المدينة التي قال الله في حق أهلها:
{ { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ .. } [الحشر: 9].
ويقول عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جُحْرها" .
وأيضاً القرآن هو الذي قال عن أهل المدينة: { { وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ .. } [التوبة: 101] وهذا ليس استضعافاً للمدينة، إنما إظهار لقوة الإسلام فيها، بحيثُ أصبحتْ له سطوة وقوة تُنافَق.
هنا قوله تعالى: { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ٱلْمُنَافِقُونَ .. } [الأحزاب: 60] ساعة تسمع { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ .. } [الأحزاب: 60] فاعلم أن الله تعالى أقسم بشيء وهذا القول هو جواب القسم، والحق سبحانه لا يُقسِم إلا على الشيء العظيم، ونحن البشر نُقسِم لنؤكد كلامنا، كما تقول: والله إنْ ما حدث من فلان كذا وكذا سأفعل كذا وكذا.
أما الحق سبحانه، فكلامه صادق ونافذ دون قَسَم، فما بالُكَ إنْ أقسم؟ لذلك يقول بعض العارفين إذ سمع الله تعالى يُقسِم: مَنْ أغضب الكريم حتى ألجأه أن يقسم؟
كلمة { ٱلْمُنَافِقُونَ .. } [الأحزاب: 60] مفردها منافق، مأخوذ من نَافَقاء اليربوع، واليربوع حيوان صغير يشبه الفأر، يعرفه أهل البادية، يعيش في جحور، فيترصدونه ليصطادوه ساعة يخرج من جُحْره، لكن هذا الحيوان الصغير فيه لُؤْم ودهاء، فماذا يفعل؟ يجعل لجُحْره مدخلين، واحد معروف، والآخر مستتر بشيء، فإذا أحس بالصياد على هذا المدخل ذهب إلى المدخل الآخر؛ لذلك أشبه المنافق تماماً الذي له قلب كافر ولسان مؤمن.
وتلحظ أن المنافقين وصفهم الله هنا بصفات ثلاث { ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَٱلْمُرْجِفُونَ فِي ٱلْمَدِينَةِ .. } [الأحزاب: 60] فالعطف هنا لا يقتضي المغايرة، إنما عطف صفات مختلفة لشيء واحد، وجاءتْ هذه الصفات مستقلةً؛ لأنها أصبحتْ من الوضوح فيهم، بحيث تكاد تكون نوعاً منفرداً بذاته.
وقد وصف القرآن في موضع آخر المنافقين بأن في قلوبهم مرضاً، فقال سبحانه:
{ { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } [البقرة: 8-10].
وفي هذا دليل على أن الواو هنا أفادت عطف صفة على صفة، لا طائفة على طائفة، ومِثْله العطف في قوله تعالى:
{ { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ .. } [الحشر: 9] فالدار أي المدينة، وكذلك الإيمان يُراد به المدينة أيضاً.
ومعنى { وَٱلْمُرْجِفُونَ .. } [الأحزاب: 60] المرجف من الإرجاف، وهو الهزَّة العنيفة التي تزلزل، ومنه قوله تعالى:
{ { يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا ٱلرَّادِفَةُ } [النازعات: 7] فالمرجفون هم الذين يحاولون زلزلة الشيء الثابت، وزعزعة الكيان المستقر، كذلك كان المنافقون كلما رأو للإسلام قوةً حاولوا زعزعتها وهزّها لإضعافه والقضاء عليه.
وهؤلاء هم الذين نسميهم في التعبير السياسي الحديث (الطابور الخامس)، وهم الجماعة الذين يُروِّجون الإشاعات، ويذيعون الإباطيل التي تُضِعف التيار العام وتهدد استقراره.
وكثيراً ما قعد المنافقون يقولون: إن قبيلة فلان وقبيلة فلان اجتمعوا للهجوم على المدينة والقضاء على محمد ورسالته، وهدفهم من هذه الإشاعات إضعاف وهزيمة الروح المعنوية لدى المسلمين الجدد والمستضعفين منهم.
حتى على مستوى الأفراد، كانوا يذهبون إلى مَنْ يفكر في الإسلام، أو يرون أنه ارتاح إليه، فيقولون له: ألم تعلم أن فلاناً أخذه قومه، أو أخذه سيده وعذَّبه حتى الموت لأنه اتبع محمداً، ذلك ليصرفوا الناس عن دين الله.
إذن: المرجِفُ يعني الذي يمشي بالفتنة والأكاذيب؛ ليصرف أهل الحق عن حقهم، بما يُشيع من بهتان وأباطيل.
لذلك يهددهم الحق سبحانه: لئن لم ينته هؤلاء المنافقون عن الإرجاف في المدينة وتضليل الناس لَيكُونَنَّ لنا معهم شأن آخر، كان هذا وقت مهادنة ومعاهدة بين المسلمين واليهود وأتباعهم من المنافقين، وكأن الله تعالى يقول: لقد سكتنا على جرائمهم إلى أنْ قويَتْ شوكة الإسلام، أما وقد صار للإسلام شوكة فإنْ نقضوا عهدهم معنا فسوف نواجههم.
وعجيب من هؤلاء المرجفين أنْ يظنُّوا أن الله لا يعلم أباطيلهم، ولا يعلمها رسوله، والله تعالى يقول:
{ { أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ ٱللَّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ ٱلْقَوْلِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ } [محمد: 29-30].
ومعنى لحن القول: أن يميلوا بالكلام عن غير معناه، ومن ذلك قولهم في السلام على رسول الله: السام عليكم، والسام هو الموت، وكما لووا ألسنتهم بكلمة (راعنا) فقالوا: راعونا يقصدون الرعونة.
وأغرب من ذلك ما حكاه القرآن عنهم:
{ { وَيَقُولُونَ فِيۤ أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُ .. } [المجادلة: 8].
فهذا القول منهم دليل على غبائهم. أولاً: لأنهم يتمنوْنَ العذاب.
ثانياً: لأنهم قالوا ذلك في أنفسهم لم يقولوا للناس، ولم يقولوا حتى لبعضهم البعض؛ لأن (يقولون) جمع، و (في أنفسهم) جمع، فكأن كلاً منهم كان يقول ذلك في نفسه.
إذن: ألم يسأل واحد منهم نفسه: مَنِ الذي أعلم رسولَ الله بما في نفسي؟ أَلاَ يدل ذلك على أن محمداً موصول بربه، وأنه لا بُدَّ فاضحهم، وكاشفٌ مكنونات صدورهم، إذن: هذا غباء منهم.
والمتتبع لتاريخ اليهود والمنافقين في المدينة يجد أن الإسلام لم يأخذهم على غرَّة، إنما أعطاهم العهد وأمنَّهم ووسَّع لهم في المسكن والمعيشة طالما لم يُؤذُوا المسلمين، لكن بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يتناجوْنَ بالإثم والعدوان، فبعث إليهم ونهاهم عن التناجي بالإثم والعدوان، لكنهم عادوا مرة أخرى، كما قال القرآن عنهم
{ { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نُهُواْ عَنِ ٱلنَّجْوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } [المجادلة: 8].
إذن: لم يَبْقَ إلا المواجهة على حَدِّ قول الشاعر:

أَنَاةٌ فإنْ لَمْ تُغْنِ عقَّبَ بَعْدهَاوَعيداً فإنْ لم يُغْنِ أغنَتْ عَزَائمهُ

لذلك يأتي جواب الشرط: { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَٱلْمُرْجِفُونَ فِي ٱلْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ .. } [الأحزاب: 60].
فجواب الشرط: { لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ .. } [الأحزاب: 60] من الإغراء، وهو باب من أبواب الدراسات النحوية اسمه الإغراء، ويقابله التحذير، الإغراء: أنْ تحمل المخاطب وتُحبِّبه في أمر محبوب ليفعله، كما تقول لولدك مثلاً: الاجتهادَ الاجتهادَ.
أما التحذير فأنْ تُخوِّفه من أمر مكروه ليجتنبه، كما تقول: الأسدَ الأسدَ، أو الكسلَ الكسلَ.
فمعنى { لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ .. } [الأحزاب: 60] أي: نُسلِّطك عليهم، ونُغريك بمواجهتهم والتصدِّي لهم، فكأن هذه المواجهة صارتْ أمراً محبوباً يُغْرى به؛ لأنها ستكون جزاءَ ما فزَّعوك وأقلقوك.
وما دمنا سنسلطك عليهم، وما دمتم ستصيرون إلى قوة وشوكة تُغرى بعدوها، فلن يستطيعوا البقاء معكم في المدينة.
{ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً } [الأحزاب: 60] أي: في المدينة، وكلمة { إِلاَّ قَلِيلاً } [الأحزاب: 60] يمكن أنْ يكون المعنى: قليل منهم، أو قليل من الزمن ريَثْما يجدوا لهم مكاناً آخر، يرحلون إليه مُشيَّعين بلعنة الله.
{ مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوۤاْ أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً } [الأحزاب: 61].
الملعون: المطرود من رحمة الله، أو مطرودون من المدينة بعد أنْ كشف الله دخائِلَ نفوسهم الخبيثة؛ لذلك طردهم رسول الله من المسجد؛ لأنهم كانوا من خُبْثهم ولُؤْمهم يدخلون المسجد، بل ويُصلُّون في الصف الأول، يظنون أن ذلك يستر نفاقهم.
لكن رسول الله كان يطردهم بالاسم: يا فلان، يا فلان، فكان صلى الله عليه وسلم يعرفهم، ولم لا وقد قال الله له:
{ { وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ .. } [محمد: 30].
ومعنى { أَيْنَمَا ثُقِفُوۤاْ .. } [الأحزاب: 61] أي: وُجِدوا { أُخِذُواْ .. } [الأحزاب: 61] أي: أُسِروا { وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً } [الأحزاب: 61] ولاحظ المبالغة في { وَقُتِّلُواْ .. } [الأحزاب: 61] والتوكيد في { تَقْتِيلاً } [الأحزاب: 61] يعني: اقتلوهم بعنف، ولا تأخذكم فيهم رحمة جزاءَ ما ارتكبوه في حق الإسلام والمسلمين.
ولأن المنافق الذي طُبع على النفاق صارت طبيعته مسمومة مُلوّثة لا تصفو أبداً، فالنفاق في دمه يلازمه أينما ذهب، ولا بُدَّ أنْ ينتهي أمره إلى الطرد من أي مكان يحل فيه.
لذلك، فمع أن الله تعالى قطَّعهم في الأرض أمماً، إلا أن كل قطعة منهم في بلد من البلاد لها تماسك فيما بينها، بحيث لا يذوبون في المجتمعات الأخرى فتظل لهم أماكن خاصة تُعرف بهم، وفي كل البلاد تعرف حارة اليهود، لكن لا بد أنْ يكتشف الناس فضائحهم، وينتهي الأمر بطردهم وإبادتهم، وآخر طرد لهم ما حدث مثلاً في ألمانيا.
وصدق الله حين قال فيهم:
{ { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ } [الأعراف: 167].
ثم يقول الحق سبحانه:
{ سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ ... }.