التفاسير

< >
عرض

يَسْأَلُكَ ٱلنَّاسُ عَنِ ٱلسَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً
٦٣
-الأحزاب

خواطر محمد متولي الشعراوي

سُئِل رسول الله كثيراً عن الساعة، والسؤال ظاهرة صحية إذا كان في الأمر التكليفي؛ لأن السؤال عن التكاليف الشرعية دليل على أن السائل آمن برسول الله، وأحبَّ التكليف، فأراد أنْ يبني حركة حياته على أسس إسلامية من البداية.
فعلى فرض أن الإسلام جاء على أشياء كانت مُتوارثة من الجاهلية فأقرَّها الإسلام، فيأتي مَنْ يسأل عن رأي الإسلام فيها حِرْصاً منه على سلامة دينه وحركة حياته.
لكن أراد الحق سبحانه أنْ يُهوِّن المسائل على الناس، فقال سبحانه:
{ { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ .. } [المائدة: 101].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"دعوني ما تركتكم، فإنما أُهلك مَنْ كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم" .
إذن: السؤال المطلوب هو السؤال عن الأمور التكليفية التي تهم المسلم، حتى وإنْ كانت من أمور الجاهلية، وقد أقرَّ الإسلام كثيراً منها، فالدية مثلاً في الإسلام جاءت من جذور كانت موجودة عند الجاهليين وأقرَّها الإسلام، وقد أمر الله تعالى المسلم بأنْ يسأل عن مثل هذه المسائل في قوله تعالى: { { فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } [النحل: 43].
أما السؤال عن الساعة، فالساعة أمر غيبي لا يعلمه إلا الله، فهو سؤال لا جدوى منه، لذلك لما سُئِل رسول الله: متى الساعة؟ قال للسائل: "وماذا أعددتَ لها" فأخذه إلى ما ينبغي له أنْ يسأل عنه ويهتمّ به.
وهذه الآية الكريمة { يَسْأَلُكَ ٱلنَّاسُ عَنِ ٱلسَّاعَةِ .. } [الأحزاب: 63] جاءت بعد معركة الإيذاء لله تعالى، والإيذاء لرسوله وللمؤمنين به، هذا الإيذاء جاء ممَّنْ لا يُؤمنون بالسماء، ولا يؤمنون بالله، ولا يؤمنون بالبلاغ عن الله بواسطة رسوله.
وإيذاء هؤلاء لله تعالى هو في الحقيقة إيذاء لأنفسهم؛ لأنه لا يصل إلى الله تعالى، والله يريد لهم الخير؛ لأنهم عباده وصَنْعته، فحين يخرجون على منهجه فإنما يؤذون أنفسهم، أما إيذاؤهم لرسول الله فقد آذوه صلى الله عليه وسلم في أهله وفي نفسه، فقد تعرَّضوا له صلى الله عليه وسلم بما يتأبَّى عنه أيّ إنسان كريم، آذوْه بالقول وبالفعل، ومع ذلك صبر صلى الله عليه وسلم، وصبر أصحابه، وقد أوذوا في أنفسهم وفي أموالهم.
والمتأمل يجد أن هذا الإيذاء مقصود وله فلسفة، فقد أراده الله تعالى ليُمحِّص المؤمنين، وليرى - وهو أعلم سبحانه - مَنْ يثبت على الإيمان؛ لذلك قال تعالى:
{ { أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } [العنكبوت: 2].
وسبق أن أوضحنا أن الإيمان ليس كلمةً تُقال، إنما الإيمان مسئولية وعمل، ولهذا السبب امتنع كفار مكة عن النطق بكلمة الإيمان؛ لأنهم يعلمون حقيقتها، وهم أهل بيان وفَهْم للأساليب وللمعاني.
وثبات سيدنا رسول الله وصبره هو والذين آمنوا معه دليل على أنهم أجرَوْا مقارنة بين هذا الإيذاء في الدنيا من بشر له قدرة محدودة، وإيذاء الله سبحانه في الآخرة، وهذا إيذاء يناسب قدرته تعالى، ولا يمكن أنْ يفرّ منه أحدٌ.
إذن: نقول: إن للإيذاء فلسفةً مقصودة، وإلا فقد كان من الممكن أن يأخذ الله أعداء دينه أَخْذ عزيز مقتدر، كما أخذ قوم نوح بالطوفان، وقوم فرعون بالغرق، وكما خسف بقارون الأرض، لكن أراد سبحانه أن يعذب هؤلاء بأيدي المؤمنين وبأيدي رسول الله، وربما لو نزلت بهم أخذه عامة لقالوا: آية كونية كالزلازل والبراكين مثلاً؛ لذلك قال تعالى مخاطباً المؤمنين:
{ { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ .. } [التوبة: 14].
ثم يُصبِّر الحق سبحانه نبيه ويُسلِّيه:
{ { فَـإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } [غافر: 77].
إذن: ردُّ الحق سبحانه على هذا الإيذاء جاء على نوعين: نوع في الدنيا بأنْ ينصرَ اللهُ نبيَّه عليهم، كما بشَّره الله بقوله:
{ { سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ } [القمر: 45].
والآخر رَدٌّ أخروي يوم القيامة؛ لذلك قال تعالى: { يَسْأَلُكَ ٱلنَّاسُ عَنِ ٱلسَّاعَةِ .. } [الأحزاب: 63].
والسؤال الذي سُئِلَه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان متوجهاً إلى أمرين: الأول: إعجازي لأنهم كانوا يعلمون من كتبهم وأنبيائهم بعض الأمور، فيريدون أنْ يُحرِجوا بها رسول الله حين يسألونه عنها، فلم يجدوا جواباً، وهم يعرفون أن رسول الله أُمِيٌّ لا يقرأ ولا يكتب، ولم يجلس أبداً إلى مُعلِّم، لكن الحق سبحانه كان يُسِعف رسوله ويُعلمه الجواب، فيجيب عليهم الجواب الصحيح، فيموتون غيظاً، ويتمحكون في أيِّ مسألة ليثبتوا لأنفسهم أن محمداً لا يعلمها.
من ذلك مثلاً سؤالهم عن أهل الكهف: كم لبثوا؟ فأجابهم الله تعالى:
{ { وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ وَٱزْدَادُواْ تِسْعاً } [الكهف: 25] فقالوا: نحن نعلم أنها ثلاثمائة، فمن أين هذه الزيادة؟ وجهلوا أن توقيت المناسك الإلهية في الدين إنما يقوم على التقويم الهلالي لا على حركة الشمس؛ لأن مُقْتضى ما تعطيه لنا الشمس أن نعلم بها بداية اليوم ونهايته، لكن لا نعرف بها أول الشهر ولا آخره.
أما التوقيت العربي الهلالي، فله علامة مميزة هي ظهور الهلال أول الشهر، وإذا ما قارنْتَ بين التقويم الهلالي والتقويم الميلادي تجد أن كل سنة هجرية تنقص أحد عشر يوماً عن السنة الشمسية، فالثلاثمائة سنة الميلادية تساوي في السنة الهجرية ثلاثمائة وتسعة.
فكأنهم أرادوا تجهيل محمد، فنبَّههم الله إلى أنهم هم الجهلة. وعجيب أن يعترض اليهود على هذا التوقيت، مع أنه التوقيت العبادي لسيدنا موسى عليه السلام، ألم يقل سبحانه:
{ { وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ .. } [الأعراف: 142].
إذن: فقوله تعالى:
{ { وَٱزْدَادُواْ تِسْعاً } [الكهف: 25] فيه إعجاز أدائي بليغ، يدل على أنَّ التسْع سنين إنما جاءتْ زيادةً من داخل الثلاثمائة، وليستْ خارجة عنها.
ثم سألوه صلى الله عليه وسلم عن رجل جوَّال، فأنزل الله:
{ { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي ٱلْقَرْنَيْنِ .. } [الكهف: 83].
فكان ينبغي أن يلفتهم ذلك إلى صدق محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يسألوا أنفسهم: من أين له هذا العلم، وهو الأميُّ الذي لم يجلس مرة إلى مُعلِّم؟
لذلك قلنا: إن الأُمية عَيْبٌ في كل إنسان، إلا أنها كانت شرفاً وميزة في رسول الله بالذات؛ لأنها تعني في حقِّ رسول الله أنه لم يُعلِّمه بشر كما اتهموه، إنما علمه ربه.
كذلك كانت الأمة التي نزل فيها القرآن أمة أمية، وهذا أيضاً شرف في حقها، فلو أن هذه الأمة كانت أمةَ علم وثقافة لقالوا عن الإسلام: إنه قفزة حضارية، لكنها كانت أمة أمية يسودها النظام القبلي، فلكل قبيلة قانونها ونظامها، ولكل قبيلة رئيسها، ومع ذلك خرج منهم مَنْ جاء بنظام عام يصلح لسياسة الدنيا كلها، إلى أنْ تقوم الساعة، وهذا لا يتأتَّى إلا بمنهج إلهي.
إذن: الأمية في العرب شرف، وعجزهم عن محاكاة القرآن، والإتيان بمثله أيضاً شرف لهم، فكوْن الحق سبحانه يتحدَّاهم بأسلوب القرآن دليل على عظمتهم في هذا المجال، وإلا فأنت لا تتحدَّى الضعيف إنما تتحدَّى القوي في مجال التحدي، فكأن تحدِّي الله العرب شهادة منه سبحانه بأنهم أفصح الخَلْق؛ لذلك جاءهم بمعجزة من جنس ما نبغوا فيه.
ثم يسأل اليهود رسول الله عن الساعة { يَسْأَلُكَ ٱلنَّاسُ عَنِ ٱلسَّاعَةِ .. } [الأحزاب: 63] وهم يسألون عن الساعة يعني: عن يوم القيامة؛ لأنهم ينكرونه، ومن مصلحتهم ألاَّ يكون هذا اليوم، حتى لا يقفوا موقف المساءلة والحساب على ما أجرموه في الدنيا من ظلم وشرك وعربدة وسَفْكٍ للدماء، ولَغْو في أعراض الناس.
ولو بحث هؤلاء قضية القيامة والحساب بالعقل - لا بنصوص القرآن - لَوجدوا أنها أمر منطقي لا بُدَّ أنْ يحدث، فمثلاً نحن عاصرنا الحزب الشيوعي في روسيا سنة 1917، ورأينا كيف أخذوا الإقطاعيين والرأسماليين وعذَّبوهم، وفعلوا بهم الأفاعيل، وصادروا ممتلكاتهم جزاءً لهم على ظلمهم للناس، وكنا نقول لهم: نعم هذا أمر منطقي أنْ تقتصَّ من الظالم، لكن ما بال كثير من الظَّلمة الذين ماتوا أو لم تدركوهم وأفلتوا من قبضتكم؟
بالله، لو جاء شخص ودلّكم على مكان أحد الظلمة هؤلاء، ألستم تحمدون له هذه المساعدة؟ فكيف به لو قال: بل سأحضره وأحاسبه وأقتصّ منه، أليست هذه إعانة لكم على مهمة الانتقام من الظالمين؟
لذلك نقول: كان من الواجب أن يكون الشيوعيون أول الناس إيماناً بيوم القيامة وبالبعث والحساب ليتداركوا مَنْ أفلت من أيديهم.
شيء آخر: ألستم تضعون - في أيِّ نظام من أنظمتكم الوضعية - القوانين المنظمة؟ ما معنى القانون: القانون قواعد تحدد للمواطن ما له وما عليه، أليس في قوانينكم هذا مبدأ الثواب للمحسن، والعقاب للمقصر؟
إذن: كل مجتمع لا بُدَّ أن تكون فيه عناصر خارجة على نظامه، وتستحق العقوبة، فمَنِ استطاع أنْ يُدلِّس على المجتمع، وأنْ يداري جريمته ما حظه من العقوبة، وقد استشرى فساده وكَثُر ظلمه؟
إذن: لا بُدَّ أنْ نؤمن بقدرة أخرى لا يَخْفَى عليها أحد، ولا يُدلِّس عليها أحد، ولا يهرب منها أحد، قدرة تعرف الخفايا وتفضحها وتحاسب أصحابها. هذه القضية لا بُدَّ أنْ تسوقك إلى فطرية الإيمان بالله تعالى، وأنه سبحانه خبير عالم
{ { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ ٱلأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إلا فِي .. } [الأنعام: 59].
لماذا إذن تنكرون القيامة وأنتم في أنظمتكم الدنيوية تُجنِّدون الجواسيس والمخابرات،وتُحْصُون هَمْسَ الناس لمعرفة الذين يحتالون في ألاَّ يراهم القانون؟ أليس من فضل الله عليكم أنه سبحانه يعلم ما خَفِي عليكم ويقتصّ لكم من خصومكم؟
فقضية القيامة والحساب واضحة بالفطرة؛ لذلك تجد أن المنكرين لها هم الذين أسرفوا على أنفسهم ويخافون ما ينتظرهم من العقاب في هذا اليوم، ولا يملكون إلا إنكاره وعدم الاعتراف به، وكأن هذا الهروب هو الحل.
وسورة الكهف تعطينا نموذجاً لهؤلاء، وهو صاحب الجنة الذي قال:
{ { وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَائِمَةً .. } [الكهف: 36] بعد أنْ أسرف على نفسه وجحد نعمة الله عليه، ولما تنبَّه وراجع فطرته قال: { { وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } [الكهف: 36].
فالتكذيب بيوم القيامة هو الأغلب والآكد والشكّ في
{ { وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي .. } [الكهف: 36] يعني: وعلى فرض أَنِّي رُددْتُ إلى ربي يوم القيامة فسوف يكون لي عنده أفضل مما أعطاني في الدنيا، فكما أكرمني هنا سيكرمني هناك.
وهذا اعتقاد خاطيء وفَهْم أحمق، فالله تعالى لا يكرم في الآخرة إلا مَنْ أكرم نفسه باتباع منهجه في الدنيا، ومَنْ لم يكرم نفسه هنا بمنهج الله لا يكرمه الله في الآخرة.
لذلك كثيراً ما نسمع: دَعوْتُ فلم يُستجب لي، خصوصاً السيدات، جاءتني إحداهن تشتكي أنها توجهت إلى الله بالدعاء، ومع ذلك البنت لم تتزوج والولد كذا والزوج كذا. فكنت أقول لها (كتر خيرك) أولاً أنك عرفت أن لك رباً تفزعين إليه وقت الشدة كما قال سبحانه:
{ { فَلَوْلاۤ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ .. } [الأنعام: 43].
إنما أسألك: هل أنت أجبت الله أولاً فيما طلبه منك كي تنتظري منه أنْ يُجيبك إلى ما طلبتِ؟ أأجبت الله في شعرك هذا؟ أأجبتِ الله في (شفايفك) وتغييرك لخِلْقة الله؟ فكانت لا تجد جواباً، إلا أنْ تقول: والله أنا قلبي (صافي) ولا أوذي أحداً ... إلخ.
إذن: أخذتم على الله أنكم دعوتُم فلم يَسْتجب لكم، ولم تأخذوا على أنفسكم أنه سبحانه دعاكم أولاً وناداكم فلم تستجيبوا لندائه، احرصوا أولاً على إجابة نداء الله، وثقوا أنه سبحانه سيجيبكم.
نعود إلى ما كنا بصدده من الحديث عن السؤال في القرآن الكريم، فسؤالهم عن الساعة إمَّا ليتأكد السائل أنها ستحدث، وإما لأنه يستبطئها ويريدها الآن.
ومادة السؤال جاءت كثيراً في كتاب الله؛ لأن القرآن لم ينزل على رسول الله جملةً واحدة، إنما نزل مُنجَّماً حَسْب الأحداث ليعطيهم الفرصة للسؤال، وجاء السؤال إما لتحدي رسول الله، وإما للاستزادة من أحكام الله التي أنزلها على رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا جاء مِمَّنْ عشقوا الإيمان، فأحبوا أنْ تُبني حركة حياتهم على هدى الإيمان.
حتى المسائل التي كانت لها جذور في الجاهلية راحوا يسألون عنها، لماذا، مع أن الإسلام أقرها؟ قالوا: لأنهم أرادوا أنْ يَبْنوا أعمالهم على العبادة، لا على العادة الجاهلية.
والقرآن حينما عرض لهذه الأسئلة قال مرة:
{ { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى .. } [البقرة: 222] فرسول الله صلى الله عليه وسلم حينما سُئِل هذا السؤال لم يَقُلْ: هو أذى؛ لأن الجواب ليس من عنده، إنما هو مُبَلِّغ عن الله، والله هو الذي يقول، فقال { { قُلْ هُوَ أَذًى .. } [البقرة: 222] فكلمة قُلْ هذه من مقول الله تعالى، وأنا أقولها كما هي.
لذلك نعجب مِمَّنْ ينادي بحذف كلمة (قُلْ) من القرآن، بحجة أنها لا تضيف جديداً للمعنى في حين أنها دليل على صدق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودليل على أن ما جاء به ليس من عنده إنما من عند الله وهو مُبلِّغ فحسب، فربه قال له قُلْ وهو يقولها كما هي
{ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ .. } [البقرة: 219].
وفي موضع آخر:
{ { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ .. } [البقرة: 215].
لكن قُلْ تأتي مرة مقترنة بالفاء، ومرة أخرى غير مقترنة بها، فلماذا؟ هذا مَلْمح إعجازي في أداء القرآن، لأن الجواب بقُلْ يعني أن السؤال قد حدث بالفعل، مثل
{ { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ .. } [البقرة: 189].
أما الجواب حين يقترن بالفاء، فإنه يعني وجودَ شرطٍ، فالسؤال لم يحدث بالفعل، إنما سيحدث في المستقبل، كما في قوله تعالى:
{ { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } [طه: 105].
والمعنى: إن سألوك في المستقبل عن الجبال فقُلْ ينفسها ربي نَسْفاً، فالجواب مُعَدٌّ مسْبقاً لسؤال لم يُسأل بَعْد، لكنه لا بُدَّ أنْ يُسأل، وأنْ يقع منهم، وهذا وجه آخر من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم، وإلا فقد كان بإمكانهم ألاَّ يسألوا، لكن هيهات أنْ ينقض أحد كلام الله، أو ينقض علمه تعالى.
ما دام الله قال فلا بُدَّ أنْ يقولوا، وهذه المسألة أوضحناها في قوله تعالى:
{ { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَىٰ نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَٱمْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ ٱلْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ } [المسد: 1-5].
فحكم الله تعالى على هذا الكافر العنيد أنه سيموت على كفره، وسيكون مصيره وزوجته النار، وقد سمع أبو لهب وامرأته هذه الآية، وعرفوا صِدْقها، لكنه مع ذلك لم يؤمن ولو نفاقاً، وقد آمن مَنْ هو أشدُّ كفراً وعناداً، أمثال: عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد وغيرهما.
لكن الذي حكم وأخبر أنه لن يؤمن يعلم أنه سينتهي إلى هذه النهاية مهما حذَّره وأنذره؛ لذلك كان أبو لهب مثالاً لغباء الشرك، فلو أنه جاء في مَحْفل من محافل قريش بعد نزول هذه السورة، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله لأحرجَ رسول الله وكذَّب القرآن، لكن لم يحدث شيء من هذا، وما كان ليحدث بعد أنْ قال الله، مع أنه حُرٌّ مختار.
وفي آية واحدة من كتاب الله وردت الإجابة عن السؤال غير مُصدَّرة (قُلْ) ولا (فقل)، وهي قوله سبحانه:
{ { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ .. } [البقرة: 186]، لماذا؟
قالوا: لأن السؤال هنا عن ذات الله تعالى؛ لذلك جعل الجواب منه سبحانه مباشرة بلا واسطة؛ لأن المقامَ مقامُ سؤال عن قريب مباشر لك، كذلك جاءتْ الإجابة مباشرة.
هذا عن السؤال، أما عن الساعة التي سألوا عنها، فكلمة الساعة حين نطلقها في هذا العصر نريد بها الآلة المعروفة التي تحدد أجزاء الوقت من ليل أو نهار بالسوية، فليس هناك ساعة أكبر من ساعة.
والعرب حينما اخترعوا الساعة أو المزولة، كانت ساعة دقَّاقة بالماء، وهي عبارة عن خزان يقطر منه الماء قطرة قطرة، وكلما نزلت قطرة الماء حرّكتْ عقارب الساعة بالتساوي، وسُمِّيت ساعة بالذات؛ لأن الساعة هي أقرب أجزاء الوقت لليل أو للنهار، وبعد ذلك عرفنا الدقيقة والثانية والجزء من الثانية.
وقد حرص العرب بالذات على حساب الوقت، وفكَّروا في آلة تضبطه؛ لأن الإسلام يقوم على عبادات موقوتة لا بُدَّ أنْ تُؤدَّى في وقتها، من هنا اخترعوا الساعة.
وكأن الحق سبحانه استعار فطرة البشر منهم، حين سَمَّى القيامة (الساعة) فالساعة التي تنتظرونها هي آلة مواقيتكم في الحركة؛ لذلك قال شوقيرحمه الله :

دَقَّاتُ قَلْبِ المْرءِ قَائِلةٌ لَهُإنَّ الحَياةَ دَقَائِقُ وثَوانِ

والحق سبحانه يقول: { { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ .. } [الروم: 55] أي القيامة: { { يُقْسِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ .. } [الروم: 55] أي ساعتكم وآلتكم التي تعارفتم عليها لضبط الوقت، فجمع سبحانه بين الساعة الفاصلة بالقيامة، وبين الساعة التي هي جزء من الليل، أو من النهار.
والمعنى: { يَسْأَلُكَ ٱلنَّاسُ عَنِ ٱلسَّاعَةِ .. } [الأحزاب: 63] يعني: أتوجد أم لا توجد؟ وإذا كانت تُوجَد، قالوا:
{ { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } [الأعراف: 70].
الحق سبحانه تكلَّم في السؤال عن الساعة في موضعين: هنا { يَسْأَلُكَ ٱلنَّاسُ عَنِ ٱلسَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً } [الأحزاب: 63].
وفي سورة الشورى:
{ { ٱللَّهُ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ وَٱلْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ قَرِيبٌ } [الشورى: 17].
ونلحظ أولاً أن كلمة (قريب) جاءت بدون تأنيث، والساعة مؤنثة، فلم يَقُلْ قريبة، قالوا: لأن المراد وقت قيامها: وما يدريك لعل وقت قيامها قريب. وقال اللغويون: إن (قريب) على وزن فعيل، وهذا الوزن يستوي فيه المذكَّر والمؤنث، كما في قوله سبحانه:
{ { وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } [التحريم: 4].
ثم في الآية الأولى جاء بالفعل تكون، فقال: { تَكُونُ قَرِيباً } [الأحزاب: 63] وفي الأخرى قال: (قريب) لماذا؟ قالوا: لأن السؤال مرة يكون عن أصل الوجود، ومرة يكون عن شيء تابع لأصل الوجود، وفي الدراسات النحوية نُدرِّس للتلاميذ كان وأخواتها، وهي فعل مَاضٍ ناقص، يرفع المبتدأ وينصب الخبر، وقد تأتي كان تامة تكتفي بفاعلها كما في
{ { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ .. } [البقرة: 280] يعني: إنْ وُجِد ذو عُسْرة.
إذن: إنْ أردتَ الوجود الأول فهي تامة، وإنْ أردتَ وجوداً ثانياً طارئاً على الوجود الأول فهي ناقصة، كما لو قُلْتَ: كان زيد مجتهداً، فأنت لا تتكلم عن الوجود الأول لزيد، إنما تتكلم عن شيء طرأ على وجوده، وهو اجتهاده، وهذه هي كان الناقصة؛ لأن الفعل ينبغي أنْ يدلَّ على زمن وحدث، والفعل كان دلَّ على زمن فقط، فاحتاج إلى خبر ليدل على الحدث، فكأنك قُلْتَ: اجتهد زيد .. في الزمن الماضي.
كذلك نقول في الوجود الأول وكان التامة: "كان الله ولا شيء معه" هذا هو الوجود الأعلى، فإنْ أردتَ شيئاً آخر مُتعلِّقاً بهذا الوجود الأول تقول:
{ { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [النساء: 152].
فالحق سبحانه في هاتين الآيتين يردُّ على الذين يسألون عن الساعة، إما لأنهم ينكرونها وجوداً، أو يؤمنون بها، ويسألون عن وقتها، فقال مرة: { لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً } [الأحزاب: 63] ومرة
{ { لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ قَرِيبٌ } [الشورى: 17].
كلمة
{ { وَمَا يُدْرِيكَ .. } [الشورى: 17] معنى الدراية: الإعلام، كما نقول: هل دريْتَ بالموضوع الفلاني، يعني: علمتَ به.
وفي علم الأصول يُقسِّمون العلم إلى: علم دراية، وعلم رواية، فلم الرواية كالذي يحفظ القرآن الكريم بالقراءات السبع أو العشر أو الأربعة عشر، ومع ذلك ربما لا يعرف تفسيره؛ لأن عِلْمه بالقرآن عِلْم رواية فحسب، أما الذي تخصص في تفسيره ومعرفة معانيه وأحكامه، فهذا العلم يُعَدُّ عِلْم دراية، فالدراية إذن عِلْم بالتفصيل، والرواية علم بالإجمال الكلي.
ومن حكمته تعالى أن يكون حَفَظة القرآن ليسوا من العلماء - إلا فيما نَدُر - لأن العالم إذا ما وقف حفظه عند كلمة معينة ربما دعاه عِلْمه إلى التصرُّف فيها بلفظ آخر، كما في (فتبينوا، فتثبتوا) مَثلاً، أما الذي حفظ القرآن رواية فحسب، فإذا وقف أمام كلمة ناسياً لها، فإنه لا يتجاوزها حتى يفتح الله عليه بما نسيه، وبذلك حفظ الله كلامه.
ونلحظ أن هذا الفعل جاء بصيغة المضارع
{ { وَمَا يُدْرِيكَ .. } [الشورى: 17] وجاء بصيغة الماضي { { وَمَآ أَدْرَاكَ .. } [المرسلات: 14] ولكل منهما مدلول، فساعةَ يقول سبحانه { { وَمَا يُدْرِيكَ .. } [الشورى: 17] يعني: لا وسيلةَ إلى أنْ يُعْلِمك أحد بها أبداً، لا في الحال، ولا في الاستقبال. أما { { وَمَآ أَدْرَاكَ .. } [المرسلات: 14] فتدل على أنه نفى أنْ يعلمه أحد قبل الآن، ومن الممكن أن نعلمه نحن.
ومن ذلك قوله تعالى:
{ { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ } [المدثر: 26-28].
وقال:
{ { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [المرسلات: 14-15].
وقال:
{ { ٱلْحَاقَّةُ * مَا ٱلْحَآقَّةُ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْحَاقَّةُ * كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِٱلْقَارِعَةِ } [الحاقة: 1-4].
وقال:
{ { ٱلْقَارِعَةُ * مَا ٱلْقَارِعَةُ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ ٱلنَّاسُ كَٱلْفَرَاشِ ٱلْمَبْثُوثِ } [القارعة: 1-4].
وقال:
{ { فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ } [البلد: 11-14].
وقال:
{ { وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ } [القارعة: 8-11].
وقال:
{ { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلدِّينِ * ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلدِّينِ * يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [الانفطار: 17-19].
وقال:
{ { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ * لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } [القدر: 1-3].
وهكذا في كل (وَمَا أَدْرَاكَ) تعني: أنك لم تكُنْ تعرفه من قبل، لكن سيخبرك اللهُ به، أما صيغة { وَمَا يُدْرِيكَ .. } [الأحزاب: 63] فتعني أن هذا الشيء المبهم سيظل كذلك مُبْهماً لا يطلعك الله عليه، ومن هذه الأمور وقت قيام الساعة { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً } [الأحزاب: 63].
ولم يخبر الحق سبحانه عن وقتها؛ لأن الإبهام قد يكون أوضح البيان، فالله تعالى أبهم عنَّا ساعة الموت، فلا يدري أحد منا متى يموت، وهذا الإبهام جعلك تنتظره في كل لحظة من لحظات حياتك، فالحقيقة أنه بهذا الإبهام أوضحه كل الإيضاح.
كذلك أبهم الله مثلاً ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان؛ لأنه سبحانه لا يريدك متعبِّداً ليلة واحدة، إنما يريدك مُتعبِّداً طوال هذه العشر لتستزيد من الثواب وتحب العبادة لذاتها لا لمجرد الثواب عليها.
وكذلك أخفى الله تعالى عنا وقت الساعة، لكي نتوقعها في كل وقت، وننتظرها كل لحظة، وهذا أَدْعى للاستقامة والخوف من المعصية، ومن أدراك أنْ تقومَ الساعة وأنت على معصية الله، إذن: الإبهام هنا عَيْن البيان.
وهو مقصد من مقاصد الحق سبحانه؛ ليشيع الحكم في كُلِّ زمان، وإلا لو عرف الإنسانُ أجَله لسار في الدنيا كما نقول (على حَلِّ شعره) يُعربد فيها كما يشاء، ثم يتوب قبل الموت؛ لذلك لم يجعل الله تعالى للموت سبباً، فحين لا ترى سبباً قُلْ مات لأنه يموت، وصدق مَنْ قال: والموت من دون أسباب هو السبب.
ورحم الله شوقي حين قال في الموت:

في الموْتِ ما أَعْيَا وفِي أسْبابِه كلُّ امْري رهن بِطيّ كِتَابه
أسَد لَعْمرك مَنْ يموتُ بظُفْرهِ عِنْد اللقاء كمنْ يموتُ بنَابِه
إنْ نامَ عنكَ فكُلُّ طِبٍّ نافِعٌ أَوْ لَم يَنَمْ فالطبُّ مِنْ أذْنَابِه

وكثيراً ما نرى المريض يموت بسبب حقنة أعطاها له الطبيب، أو عملية جراحية غير مُوفَّقة.
وصدق مَنْ قال:

سُبْحانَ مَنْ يرِثُ الطبيبَ وطِبَّه ويُرى المريضَ مصَارعَ الآسينَا

لكن مع ذلك، يجعل الله لها علامات لُطْفاً بِنا ورحمة، علاماتٍ صغرى وعلاماتٍ كبرى؛ لذلك يقول سبحانه عن الساعة: { { إِنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا .. } [طه: 15].
يعني قاربْتُ أن أزيل خفاءها بالعلامات الصغرى، والعلامات الكبرى، لأنها أصبحت قريبة، وقلنا: إن الهمزة في (أخفيها) همزة إزالة يعني: أزيل خفاءها، مثل همزة (أعجم) تقول: أعجم الكتاب أي: أزال عُجْمته وإبهامه بوضع النقط على الحروف، ومنه سُمِّيتْ الكتب التي توضِّح معاني المفردات: معاجم.
وقد تكون الإزالة بالتضعيف مثل (قشَّرت البرتقالة) يعني: أزلْتُ قِشْرتها.
فمعنى
{ { وَمَا يُدْرِيكَ .. } [الشورى: 17] أي: لا أحدَ سيخبرك بها ولا أنا، وكما ضَنَّ الحقُّ بعلمها على الخَلْق جميعاً فقد ضَنَّ على نبيه وحبيبه محمد، ولو كان مُخْبراً بها لأخبر نبيه، حتى ولو سِرَّا بينه وبينه، دون أن يُبلِّغ الناسَ بها، لكن أبداً لا هذه ولا هذه؛ لذلك كان سيدنا رسول الله إذا سُئِلَ عن الساعة قال: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل" .
ثم يقول الحق سبحانه:
{ إِنَّ ٱللَّهَ لَعَنَ ٱلْكَافِرِينَ ... }.