التفاسير

< >
عرض

وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلاْ
٦٧
رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ ٱلْعَذَابِ وَٱلْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً
٦٨
-الأحزاب

خواطر محمد متولي الشعراوي

السادة: جمع السيد، وهو الآمر المنفِّذ على غيره، ولا يغير عليه أحد، والكبراء: هم الذين يأخذون منازل في قومهم، على قَدْر ما يُؤدُّون لهم من خدمات، فسيد القوم أو كبير القوم لا يتبوَّأ هذه المنزلة من فراغ، إنما من مواهب وإمكانات تؤهله لهذه المنزلة؛ لذلك لا يجد غضاضة في أنْ يقول له الناس: يا سيدي. لأنه دفع ثمن هذه السيادة وهذا هو السيد الحقيقي.
وقد تُؤْخَذ السيادة بالقوة والجبروت والقهر، دون أن يُقدِّم السيدُ شيئاً يَسُودُ به قومه، وهذا تلصُّص على السيادة يبغضه الناس؛ لذلك فإن الشرع الإسلامي لم يغفل هذه السيادة الحقيقية، ولم يغفل وجاهة الناس ومنزلتهم، فقيَّم ذلك كله مالياً في شركة سماها شركة الوجوه، فرأس مالي في الشركة أموال، ورأس مالك وجاهتك ومحبة الناس لك ومنزلتك في المجتمع.
والناس يُحبُّون هذه السيادة الحقَّة التي أخذها صاحبها بحقها؛ يحبونها لأنهم ينالون خيرها، وينتفعون بها على خلاف السيادة المسروقة التي أخذها صاحبها عُنْوةً، فهم لا يستفيدون منها بشيء، بل هي سيادة تضرُّهم، وتأكل خيراتهم.
لذلك قلنا في العبودية: إنها كلمة نكرهها، إنْ كانت عبودية بشر لبشر؛ لأنها عبودية تعطى خير العبد لسيده، إنما العِزّ كله في أنْ تكون العبودية لله تعالى، حيث يأخذ العبد خَيْر سيده.
وتأمل كيف كانت العبودية شرفاً وتكريماً لسيدنا رسول الله حينما خاطبه ربه بقوله:
{ { سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَا .. } [الإسراء: 1] فعبودية محمد لله هي التي أوصلته إلى هذه المنزلة التي لم يصل إليها بشر سواه.
وصدق الشاعر حين قال:

حَسْبُ نَفْسِي عِزًّا بأنِّي عَبْدٌ يَحْتفِي بِي بلاَ مَواعِيدَ رَبُّ
هُوَ فِي قُدسِهِ الأعَزِّ وَلكِنْ أَنَا ألْقَى مَتَى وأيْنَ أُحِبُّ

فإنْ أردْتَ أنْ تقابل ربك، فالأمر في يدك، فأنت تحدد مكان المقابلة وزمانها وموضوعها، في الشارع، في البيت، في العمل، في المسجد مجرد أنْ تتوضأ وتقول: الله أكبر تصبح في حضرة ربك، ثم أنت الذي تُنهي المقابلة إنْ شئتَ، وربك عز وجل لا يملُّ حتى تملُّوا. فأيُّ عِزٍّ فوق هذا؟
في حين أنك إنْ أردتَ أنْ تقابل رئيساً مثلاً أو وزيراً فَدُون هذا اللقاء عقبات ومصاعب، وليس لك من أمر هذا اللقاء شيء، فهو الذي يحدد لك الزمان والمكان، حتى ما تقوله، وهو الذي يُنهي المقابلة.
أنت في عبوديتك لله تعالى، ربُّك هو الذي يطلبك لحضرته، ويغضب إنْ دعاك ولم تُجِبْ، فنِعْم الرب ربُّك، ونِعمتْ العبوديةُ عبوديتُك له سبحانه.
وهنا يُلْقى الكفار باللائمة على سادتهم وكبرائهم { إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلاْ } [الأحزاب: 67] ويريدون الانتقام منهم، وأنْ يُنفِّسوا عن أنفسهم بأنْ يروهم في العذاب جزاءَ ما أوقعوهم في الشرك، وزيَّنوا لهم المعصية.
فيقولون: { رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ ٱلْعَذَابِ .. } [الأحزاب: 68] أي عذاب مضاعف؛ لأن ضلالهم كان كذلك مُضَاعفاً، فقد ضَلُّوا في أنفسهم، وأضلُّوا غيرهم.
وفي موضع آخر يحكى لنا القرآن قول الكافرين يوم القيامة:
{ { رَبَّنَآ أَرِنَا ٱلَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ ٱلأَسْفَلِينَ } [فصلت: 29].
وفي آيات كثيرة يحكى لنا القرآن حوارات تدور بين الكافرين، يُلْقى كل منهم التهمة على الآخر، كما حكى عن إبليس قوله:
{ { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوۤاْ أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ ٱلظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [إبراهيم: 22].
ولم يكتفوا بمضاعفة العذاب لسادتهم، إنما طلبوا لهم اللعن، واللعن الكبير { وَٱلْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً } [الأحزاب: 68] فاللعن لأنهم ضلُّوا في ذواتهم، وينبغي أن يكون كبيراً؛ لأنهم أضلوا غيرهم.
ونلحظ هنا أن كل نداء للرب - تبارك وتعالى - يأتي دائماً بغير أداة النداء، لماذا؟ قالوا: لأن النداء له أدوات تختلف باختلاف المسافة بينك وبين المنادى، والنداء طلب الإقبال، فإنْ كان المنادى بجوارك تقول: محمد افعل كذا، فإنْ كان بعيداً عنك تقول: أمحمدُ. والأبعد منه: يا محمد. والأبعد: أيا محمد. وهذه الأدوات مبنية على مَدِّ الصوت بحسب المسافة.
إذن: ماذا تقول حين تنادي ربك وإنْ لم تكُنْ أنت قريباً من الله، فالله قريب منك؟ لا تستخدم أداة النداء لا للقريب ولا للبعيد، لذلك ورد في القرآن لفظ (ربّ) منادى في خمس وستين آية بدون أداة نداء، أولها قول سيدنا إبراهيم - عليه السلام -:
{ { رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً .. } [البقرة: 126].
إلى قول نوح - عليه السلام -:
{ { رَّبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ .. } [نوح: 28].
ويكفي في هذا القُرْب قول الله تعالى:
{ { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } [ق: 16].
لذلك لما سُئل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقريبٌ ربُّنا فنناجيه؟ أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله:
{ { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ .. } [البقرة: 186].
إذن: فالله تعالى قريب منا بالفعل، وإنْ حدث بعد فمنك أنت، وأكثر ما يكون العبد قُرْباً من الله حين يكون مضطراً، حتى إنْ كان بعيداً عن الله قبل الاضطرار.
وفي آيتين فقط من كتاب الله نُودي الربُّ - تبارك وتعالى - بأداة النداء (يَا) الأولى:
{ { وَقَالَ ٱلرَّسُولُ يٰرَبِّ إِنَّ قَوْمِي ٱتَّخَذُواْ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ مَهْجُوراً } [الفرقان: 30].
والأخرى:
{ { وَقِيلِهِ يٰرَبِّ .. } [الزخرف: 88].
وهذان الموضعان حكاية عن كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فلماذا لم تأت أداة النداء إلا من محمد صلى الله عليه وسلم في نداء ربه؟
قالوا: لأن سيدنا رسول الله كان شديد الحرص على هداية قومه ونُصْرة دعوته، حتى خاطبه ربه بقوله:
{ { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [الشعراء: 3].
وقد مَرَّ رسول الله بمواقف صعبة لدرجة جعلَتْه يستبطئ نصر الله، فالله تعالى أنزل عليه:
{ { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا .. } [غافر: 51] ومع ذلك زلزل رسول الله والذين آمنوا معه كما قال سبحانه: { { وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ .. } [البقرة: 214] فخاف صلى الله عليه وسلم أن يكون بعُد عن ربه، وهذا البُعْد ما هو إلا مظنّة من رسول الله، أو اتهام للنفس.
فلما ذهب صلى الله عليه وسلم يدعو ربه ويشتكي إليه أنَّ قومه هجروا القرآن نادى ربه من منزلة البعيد، فقال: (يا رب) وكأنه صلى الله عليه وسلم ظنَّ في نفسه التقصير أو الفشل في مهمته ورأى أن ذلك يُبعده عن ربه، لكن أنصفه ربه وأكَّد نداءه، بل وأقسم به، فقال الحق سبحانه:
{ { وَقِيلِهِ يٰرَبِّ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ * فَٱصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [الزخرف: 88-89].
أي: أقسم بقولك يا محمد:
{ { يٰرَبِّ إِنَّ قَوْمِي ٱتَّخَذُواْ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ مَهْجُوراً } [الفرقان: 30] والحق سبحانه يُقسِم بما يشاء على ما يشاء، يُقْسم بالملائكة وبالجماد، يقسم بالنبات، لكن الحق - سبحانه وتعالى - لم يُقْسم بأحد من الخَلْق إلا برسول الله في قوله تعالى: { { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } [الحجر: 72].
أي: وتعميرك، أو وحياتك يا محمد.
وكما أقسم سبحانه بحياة نبيه محمد أقسم بقوله، فقال سبحانه:
{ { وَقِيلِهِ يٰرَبِّ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ } [الزخرف: 88].
ثم يخاطب الحق سبحانه عباده المؤمنين، فيقول تعالى:
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ آذَوْاْ مُوسَىٰ ... }.