التفاسير

< >
عرض

لِّيُعَذِّبَ ٱللَّهُ ٱلْمُنَافِقِينَ وَٱلْمُنَافِقَاتِ وَٱلْمُشْرِكِينَ وَٱلْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
٧٣
-الأحزاب

خواطر محمد متولي الشعراوي

أولاً: يلفت أنظارنا أن الآية السابقة ذُيِّلَتْ بقوله تعالى { { إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [الأحزاب: 72] وذُيِّلَتْ هذه الآية بقوله سبحانه { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [الأحزاب: 73] فكأن وصف (ظَلُومَاً) قابله (غَفُورَاً)، و (جَهُولاً) قابله (رَحيماً).
فالحق سبحانه غفور لمن ظلم، ورحيم لمن جهل، فالنسق القرآني مظهر من مظاهر رحمة الله، والله سبحانه وتعالى عُلم عنه مِمَّنْ آمن به أنه غفور رحيم، لكن لا ينبغي أنْ تغرَّك صفات الجمال في ربك - عز وجل - فتُقدِم على الذنب وتظلم، اعتماداً على أنَّ ربك سيغفر وسيرحم.
لذلك قالوا في قوله تعالى:
{ { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ } [الانفطار: 6] أن الذي غَرَّ الإنسان بربه فعصاه أو كفر به اعتماده على أن ربه كريم، فصفة الكرم في الله هي التي أغرَتْ بعصيانه.
وكأن الحق سبحانه لقَّنَ الإنسان الجواب عن هذه المسألة، فإنْ سُئِل: ما غرَّك بربك؟ يقول: كرمه، وعندنا في الفلاحين يسأل أحدهم الآخر: لماذا لا تطمئن في صلاتك، وتنقرها هكذا أرأيتَ لو كان عليك (شلن) لواحد هل يصلح أن تعطيه (شلناً ممسوحاً)؟ فردَّ عليه الرجل: والله لو كان كريماً لقَبِله.
وفي الآية دقيقة أخرى في قوله تعالى: { لِّيُعَذِّبَ ٱللَّهُ ٱلْمُنَافِقِينَ وَٱلْمُنَافِقَاتِ .. } [الأحزاب: 73] فهل كان عَرْضُ الأمانة والتكليف للناس ليُعذبهم؟ هل التعذيب مقصود لله في الحكم؟
قالوا: لا؛ لأن اللام هنا { لِّيُعَذِّبَ .. } [الأحزاب: 73] لام العاقبة، فالحق سبحانه جعل التكليف ليتبعه الناس ولا يعذبون، فاللام دلَّت على النتيجة كما في قوله تعالى:
{ { فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [القصص: 8].
فساعة التقطه آل فرعون التقطوه عليه السلام ليكون قُرَّة عَيْن لهم، لا ليكون عدواً، لكن الذي حدث أنه صار عدواً وحَزَناً، فاللام ليست للتعليل، إنما لام النتيجة والعاقبة، وهي أن تفعل الشيء لمراد عندك، ثم تأتي العاقبة لتدلّ على غباء الذي فعل.
وقوله: { ٱلْمُنَافِقِينَ وَٱلْمُنَافِقَاتِ .. } [الأحزاب: 73] سبق أن عرَّفنا النفاق، وقلنا: إن النفاق أشدُّ من الكفر؛ لأن الكافر كان منطقياً مع نفسه؛ لأنه كفر بقلبه وبلسانه. يعني: وافق لسانه ما في قلبه، أما المنافق فغير منطقي مع نفسه؛ لأنه اعتقد شيئاً ونطق بخلافه: أخفى الكفرَ وأظهر الإيمانَ فهو مُشتَّت الفكر؛ لذلك استحق أنْ يكون أعدى الأعداء، وأن يكون في الدَّرْك الأسفل من النار، ويكفي ما فيه من خداع وتمويه، فهو بظاهره معك، وفي حقيقته هو عدوك.
ونلحظ أيضاً في هذه الآية أن الحق سبحانه أراد أنْ يفصل فصلاً تاماً بين جزاء المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات، وبين جزاء المؤمنين والمؤمنات، فالأسلوب البشري يقتضي أن يقول بعدها: { لِّيُعَذِّبَ ٱللَّهُ ٱلْمُنَافِقِينَ وَٱلْمُنَافِقَاتِ وَٱلْمُشْرِكِينَ وَٱلْمُشْرِكَاتِ .. } [الأحزاب: 73] ويتوب على المؤمنين والمؤمنات.
لكن السياق القرآني هنا لم يعطف التوبة على العذاب وفصل الفعلين بتكرار الفاعل الصريح، وهو لفظ الجلالة فقال { لِّيُعَذِّبَ ٱللَّهُ .. } [الأحزاب: 73] وقال: { وَيَتُوبَ ٱللَّهُ .. } [الأحزاب: 73] ليفصل هذا عن هذا، ويعزله بحكم خاص به؛ لأن لله تعالى - كما ذكرنا - صفات جلال، تختص بالكافرين والمنافقين، وصفات جمال تختص بالمؤمنين، ولكل من النوعين سياق خاص مستقل.