التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَٱلطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ
١٠
أَنِ ٱعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ وَٱعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
١١
-سبأ

خواطر محمد متولي الشعراوي

بعد أن فتح الحق سبحانه باب التوبة لعباده، وأعطاهم الأمل حتى الكافرين منهم، وبعد أنْ فعلوا برسول الله ما فعلوا، وسعَوْا في آيات الله معاجزين ما يزال الحق سبحانه رحيماً بهم، حريصاً عليهم، فيلفت أنظارهم إلى واسع رحمته.
وكأنه سبحانه يقول لهم: لا تستكثروا أفعالكم وذنوبكم أمام رحمة الله، ولا تصدَّنكم هذه الذنوب عن التوبة والعودة إلى الله، وإنْ كنتم أذنبتمْ، فمن الرسل مَنْ حدثت هفوة من بعضهم مع أنهم أنبياء، فكأن الحق سبحانه مع هذا كله يلتمس لهم عذراً.
لذلك ذكر بعدها حكاية سيدنا داود: { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً .. } [سبأ: 10] وفي موضع آخر بيَّن ما كان من أمر سيدنا داود:
{ { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } [ص: 24].
إذن: لا تخجلوا أنْ تُنيبوا إلى الله؛ لأن سيدكم الذي أعطيته كذا وكذا لمَّا حدثتْ منه هفوة استغفر وخَرَّ راكعاً وأناب، يريد سبحانه أنْ يُحنِّن قلوبهم ليعودوا إلى أحضان ربهم.
كذلك سيدنا سليمان حدثتْ منه هفوة، فابتلاه الله وعاقبه، فتاب واستغفر، واقرأ:
{ { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَداً .. } [ص: 34] والجسد يعني: أنه أصبح لا يستطيع الحركة في ذاته { { ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۤ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْوَهَّابُ } [ص: 34-35] فماذا كان من أمره بعد أن استغفر { { فَسَخَّرْنَا لَهُ ٱلرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ * وَٱلشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي ٱلأَصْفَادِ } [ص: 36-38].
لذلك يُقال: إن سيدنا سليمان ركب البساط مرة، فداخله شيء من الزَّهْو أو الإعجاب، فمال به البساط، فقال له: اعتدل يا بساط، فقال: أُمرنا أنْ نطيعك ما أطعتَ الله. والمعنى: أنك ما سخَّرتنا، إنما سخَّرنا اللهُ لك.
ومعنى (الفضل) الشيء الزائد، وقد أعطى الله داود عليه السلام نِعَماً كثيرة لم يُعْطِها لكثير من الأنبياء، أعطاه الاصطفاءَ وأعطاه المنهج، وزاده نعمة أخرى خاصة به، وهي أنه ألان له الحديد، كما قال سبحانه: { وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ * أَنِ ٱعْمَلْ سَابِغَاتٍ .. } [سبأ: 10-11].
وكلمة { مِنَّا .. } [سبأ: 10] دلتْ على أن النعمة ليست من ذاتك، إنما من الله، فتقديم الجار والمجرور هنا أفاد قصْر النعمة على المنعِم سبحانه، ومثلها الجار والمجرور في قوله تعالى في قصة سيدنا موسى عليه السلام:
{ { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي .. } [طه: 39].
كأن الحق سبحانه يقول لنبيه موسى عليه السلام: لقد أخذك آل فرعون، والتقطوك من اليم في وقت كانوا يقتلون فيه الأطفال، وقد جئتَهم في صورة تدعو إلى الشك، لكنهم أحبوك، ورأوا فيك قرَّة عَيْن لهم، وأنت وقتها أسمر اللون، كبير الأنف، جعد الشعر يعني: ليس فيك ما يلفت النظر، لكن تذكَّر أنِّي ألقيتُ عليك محبة مني أنا، فأحبوك.
والفضل من الله يأتي الناس جميعاً، لكن الرسل لهم نِعَم متميزة، وفضل أعظم في صورة معجزات، ويُبيِّن الحق سبحانه فضله على نبيه داود بقوله: { يٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَٱلطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ } [سبأ: 10].
(يا جبال) نداء، فالله ينادي الجبال؛ لأنها تسمع وتعي هذا النداء { أَوِّبِي .. } [سبأ: 10] يعني: رجِّعي معه ما يقول وما يقرأ من الزبور أو من الذكر، وهنا دليل على أنه يفهم قول الجبال، وأنها تفهم قوله، وتُردِّد خلفه، إذن: للجبال منطق ولغة أفهمها اللهُ نبيَّه داود.
وقد تناولنا مسألة تسبيح الجمادات لمَّا تعرضنا لقوله تعالى:
{ { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ .. } [الإسراء: 44] ورددنا قول مَنْ قال إنه تسبيح الحال لا تسبيح المقال؛ لأن الله قال { { وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ .. } [الإسراء: 44] وما دام قد حكم سبحانه أننا لا نفقه تسبيحهم، فهو تسبيح بالقول.
والذين قالوا بتسبيح الدلالة استعظموا أنْ يكون للجبل كلام ولغة وتفاهم، لكل هل للجبل كلام معك أنت؟ للجبل كلام مع ربه وخالقه الذي قال:
{ { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } [الملك: 14].
إذن: ما دَخْلك أنت في هذه المسألة؟ ولماذا تنكرها؟
وتأمل قوله سبحانه:
{ { وَيُسَبِّحُ ٱلرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَٱلْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ .. } [الرعد: 13] فجمع بين تسبيح الرعد وهو جماد وتسبيح الملائكة، وهم على أجناس المخلوقات، وأين وجه الدلالة في تسبيح الملائكة؟ فلماذا العجب، وقد ثبت أن لكل شيء لغة تناسبه، وقد رأينا لغة للهدهد، ولغة للنمل .. إلخ.
فعظمة سيدنا داود أنه فهم لغة الجبال، وسمع تسبيحها، ووافق تسبيحُها تسبيحَه، كذلك { وَٱلطَّيْرَ .. } [سبأ: 10] يعني: يا طير أوِّب مع داود، وردِّد معه التسبيح.
{ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ } [سبأ: 10] وهذه معجزة أخرى لسيدنا داود، وإذا قال الله عدة أشياء، ثم حدث في الواقع أنه صدق في واحدة، ألاَ أُصدِّقه في الأخرى؟
فإذا قال سبحانه { وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ } [سبأ: 10] فلا بُدَّ أن نصدِّق بذلك، وأن نعتقد أن الحديد صار في يد سيدنا داود مثل طين الصلصال الذي يشكِّله الأطفال كيفما أرادوا، لأن البعض يرى أن { وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ } [سبأ: 10] يعني: علَّمه الله أن النار تذيب الحديد، ولو أن الأمر كذلك فليس فيه معجزة، ولا ميزة على غيره من الناس.
وللحديد ميزات عدة، وأنواع مختلفة، وتتوقف مدى أهميته على مدى صلابته، ولأهميته أنزله الله من عَلٍ كما أنزل الكتب؛ لذلك تكلم سبحانه في سورة الحديد عن الرسل مثل موسى وعيسى - عليهما السلام - وتكلم عن إنزال الكتب، وقال عن الحديد:
{ { وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ .. } [الحديد: 25].
ومعلوم أن الإنزال يأتي من جهة العلو، فالحق سبحانه أنزل الكتب ينطق بها الرسل لهداية المهتدى الذي يسمع، وأنزل الحديد لردع العاصي وزَجْره، ففي الحديد بأس شديد في وقت الحرب، ومنافع للناس في وقت السلم.
لذلك قال تعالى بعدها:
{ { وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِٱلْغَيْبِ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [الحديد: 25] ينصره في أيِّ شيء؟ ينصره في الحديد، وفي استخدامه وقت الحروب، وسيدنا داود - عليه السلام - آتاه الله، وأنزل عليه هذا وهذا: الكتاب للهداية، والحديدَ للحرب.
لذلك قال له: { أَنِ ٱعْمَلْ سَابِغَاتٍ .. } [سبأ: 11] يعني: دروعاً واسعة، وهي عُدة الحرب يلبسها الجندي على مظانِّ الفتك، وخاصة على الصدر؛ لأن بداخله القلب والرئتين، ولم يقُلْ له اعمل فأساً ولا محراثاً مثلاً؛ لأن هذه لمنافع الأرض، والله يريد ما يحمي المنهج ويزجر العاصي.
وكانت الدروع قبله تُصنع ملساء يتحرك عليها السيف ويتزحلق، وربما أصاب منطقة أخرى من الجسم، وكانت تُصْنع على قدر ما يحمي الصدر، فعلَّمه الله أنْ تكون واسعة لتحمي أكبر قدر ممكن من الجسم، فقال { أَنِ ٱعْمَلْ سَابِغَاتٍ .. } [سبأ: 11].
وعلَّمه كذلك أن تكون على شكل حلَقٍ متداخلة { وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ .. } [سبأ: 11] يعني: أحكم تداخل هذه الحِلَق بعضها في بعض، حتى إذا ما نزل عليها السيف ثبت على إحداها ولم يتحرك.
وكان درع الإمام علي - كرَّم الله وجهه ورضي عنه - ليس لها ظهر، فقالوا له: أَلاَ تتخذ لدرعك ظهراً؟ فقال: ثكلتني أمي، إنْ مكَّنْتُ عدوي من ظهري.
فتأمل أن الله تعالى لم يُعلِّم نبيه داود أولاً وسائل السلم، إنما علَّمه أولاً وسائل الحرب وإعداد العُدة لمن نقض كلمة الله، وحاد عن منهجه، علَّمه أنْ يُعِد له ما استطاع من قوة.
ومعنى: { وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ .. } [سبأ: 11] اجعلها بتقدير دقيق وإحكام في النسج، قال العلماء: السرد: الحِلَق التي يتكون منها الدرع، وبها خروق تُوضع فيها المسامير التي تثبت الحِلَق بعضها إلى بعض.
فمعنى { وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ .. } [سبأ: 11] يعني: لا تجعل الخُرْق واسعاً، لا يثبت فيه المسمار، ولا تجعله ضيِّقاً فيغلق المسمار الحلقة، وقال آخرون: { وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ .. } [سبأ: 11] يعني: اعمل منها على قدر ما تحتاج، ولهذا المعنى قصة:
يُرْوى أن سيدنا داود - عليه السلام - كان يأكل من بيت مال المؤمنين؛ لأنه المتولَّى لأمرهم، فأنزل الله مَلَكاً في صورة رجل، وجعل الناس يسألونه: كيف يعيش داود؟ فقال: فيه كثيرون من خصال الخير، إلا أنه يأكل من بيت المال، فلما بلغتْ هذه الكلمةُ داود غضب وتألم لها وبكى، ثم قال: يا ربِّ لم جعلتَ فيَّ هذه المسألة؟ فعلَّمه الله صناعة الدروع ليعيش منها.
فكان يصنع الدرع بأربعة آلاف يعيش منها حتى تنفد، فيصنع درعاً آخر وهكذا، فلما أمره الله بصناعة الدروع قال { وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ .. } [سبأ: 11] يعني: اجعلها على قَدْر حاجتك، ولا تبالغ فيها.
ثم يقول سبحانه: { وَٱعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [سبأ: 11] كأن الحق سبحانه يقول لنبيه داود: تذكَّر حين تعمل ما طُلِب منك أنِّي بصير بعملك مُطلع عليه، وهذه التذكرة لنبي مأمون على التصرف، فما بالك بنا نحن؟
إننا نلاحظ العامل يتقن عمله طالما يراه صاحب العمل، فإنْ غاب عنه أهمل العمل وغَشَّه، فالله يحذرنا من هذه المسألة.
هكذا ورد أمر سيدنا داود في هذا الموضع مختصراً، وإنْ كانت له قصص في مواضع أخرى.
ثم يقول الحق سبحانه:
{ وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ... }.