التفاسير

< >
عرض

قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ عَلَىٰ نَفْسِي وَإِنِ ٱهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ
٥٠
-سبأ

خواطر محمد متولي الشعراوي

نلحظ أنه صلى الله عليه وسلم نسب الضلال إنْ حدث إلى النفس، ولكنه صلى الله عليه وسلم نسب الهداية إلى الله وإلى الوحي المنزَّل عليه؛ لأن الله إذا أنزل منهجاً هادياً لإنسان مختار، ومجال الاختيار أنْ تُوجد بدائل يختار العقل منها؛ لأن العقل لا مهمة له في الأمر الواحد الذي ليس له بديل، فمثلاً: تقول أريد أنْ أسافر إلى الفيوم، فلا تجد إلا طريقاً واحداً، فلا عملَ للعقل والاختيار هنا، لكن تقول: أريد أنْ أسافر إلى الإسكندرية، فتجد طريقين: الزراعي وصفته كذا وكذا ومميزاته كذا وكذا، والصحراوي وصفته كذا ومميزاته كذا.
والله تعالى خلق كونه كله مختاراً، إلا في الأمور القضائية القدرية، فقد جعلها الله قهريةً لا اختيارَ للإنسان فيها؛ لأن تدخُّلَه فيها يفسدها.
ولا تظن أنك وحدك مختار في الكون، فكُلُّ ما حولك من السماء والأرض مختار أيضاً، إلا أن السماء والأرض والجبال اختاروا مرة واحدة، ثم سحبوا اختيارهم الكليّ على كل الجزئيات التي تأتي بعد، واقرأ في ذلك قوله تعالى:
{ { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [الأحزاب: 72].
فالجمادات اختارت من البداية أنْ تكون مقهورة لله عز وجل، وأبَتْ تحمُّل هذه الأمانة، أما الإنسان فتحملها وقال: أستطيع بعقلي أن أختار بين البدائل، وفاته أنه أدرك وقت التحمُّل، ولم يدرك وقت الأداء، وما يطرأ عليه من عوارض وشهوات ووسوسة شيطان .. إلخ؛ لذلك وصفه الحق سبحانه بأنه كان ظلوماً جهولاً، يعني: ظلُوماً لنفسه، جهولاً بالعواقب.
والمنهج الذي وضعه الحق سبحانه منهج عام، وُضع للمؤمن وللكافر، فالله هدى ودلَّ الجميع إلى طريق الخير، وترك الجميع مختاراً، فمنهم مَن اختار شهوات نفسه في الدنيا، ورأى أنْ يتمتع بها، ويحدث ما يحدث بعد ذلك، ومنهم مَنْ تأمل هذا المنهج، فوجده من مُطاع بمعجزة، وهذه المعجزة خرقت نواميس الكون، فهو - إذن - منهج من عليم قادر وإله أعلى، اختار هذا المنهج لصلاح الخَلْق.
والإنسان عموماً يحب الخير لنفسه، لكن يختلف الناس في فهمهم للخير؛ لذلك يقول سبحانه:
{ { وَيَدْعُ ٱلإِنْسَانُ بِٱلشَّرِّ دُعَآءَهُ بِٱلْخَيْرِ وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ عَجُولاً } [الإسراء: 11].
ويقول سبحانه:
{ { سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ } [الأنبياء: 37].
وكأن الحق سبحانه يقول للإنسان: لا تعجل في دعائك، وارْضَ بما اختاره لك؛ لأن حكمك وفَهْمك للخير على قَدْر علمك بالخير، لكن أعلم منك به، وأعلم منك باستقبالك لهذا الخير وأثره فيك.
لذلك قلنا: إننا نسمع كثيراً مَنْ يقول: أنا أصلي وأسير على منهج الله، ومع ذلك دعوتُ فلم يُسْتَجب لي، نقول: لأنك دعوتَ بالخير بفهمك أنت للخير، لكن ربك أعلم منك بالخير لك؛ لذلك لم يُجِبْ دعاءك.
وكثيراً أيضاً ما نسمع أمَّا تدعو على ولدها الوحيد في ساعة غضب تقول: (إلهي أشرب نارك، إلهي يجيينى خبرك) بالله، لو أن الله أجاب دعاءها، ماذا كانت تقول في ربها؟ إذن: عدم إجابة الله لك فيما تدعو أحياناً هو عين الخير لك، لأنه يعلم حمق دعائك، وهو رب لا يرضى لك بآثار هذا الحمق؛ لذلك يُعدِّل لك ما أخطأتَ فيه.
أمر آخر في هذه المسألة، فقد يكون الدعاء بخير حقيقي، لكن جاء هذا الدعاء من غير مضطر، إنما جاء كما نقول (بغددة)، والحق تبارك وتعالى وعد بإجابة المضطر إذا دعاه، فقال سبحانه:
{ { أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } [النمل: 62] فلو كنتَ مضطراً لأجابك؛ لأن المضطر استنفد كل الأسباب الموهوبة له من الله، وعجزَتْ قوته، فلجأ إلى الله المسبِّب سبحانه، وأغلبنا يدعو الله عن غير اضطرار.
إذن: حين لا يُجاب دعاؤك، فاعلم أنه دعاء بشرٍّ تظنه أنت خيراً، والخير في ألاَّ يجيبك الله، أو أن دعاءك عن غير اضطرار.
نعود إلى كلامنا عن المنهج الذي وضعه الله لهداية الناس جميعاً، ونقول: الذي آمن بهذا المنهج واهتدى به يعينه الله ويزيده هداية، كما قال سبحانه:
{ { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } [محمد: 17] والذي انصرف عنه وضلَّ كذلك يزيده الله من الضلال، ويختم على قلبه، بحيث لا يدخله إيمان، ولا يخرج منه كفر، ذلك لأنه تعالى رب يعين عبده على ما أحب، ويزيده مما يريد.
إذن: طالما هناك اختيار في قبول المنهج فلا بُدَّ أن توجد هداية، ويوجد ضلال، الهداية تجلب الخير والثواب، والضلال يجلب الشر والعقاب، هنا الحق سبحانه يُوضِّح لنا أن الضلال يُنسب إلى النفس، أما الهداية فتُنسب إلى الله وإلى منهجه، وقد قال سبحانه في موضع آخر:
{ { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } [النساء: 79].
وقال سبحانه قبلها:
{ { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ } [النساء: 78] لماذا؟ لأنه سبحانه جعل الطريقين ودلَّ الجميع، فإنْ نظرتَ إلى الفعل فالله هو الذي أمدَّك، كما قال سبحانه: { { كُلاًّ نُّمِدُّ هَـٰؤُلاۤءِ وَهَـٰؤُلاۤءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً } [الإسراء: 20].
فالله أعطاك مثلاً اللسان تنطق به كلمة التوحيد، أو تنطق به كلمة الكفر والعياذ بالله، فاللسان لم يَعْصِك، لا في هذه ولا في تلك، فمَنِ الذي أعطاك حرية الاختيار؟ الله، لذلك قلنا: لم يكفر كافر قهراً عن الله، أما عدم رضائه عنه، فهذا موضوع آخر.
لذلك قلنا: الرجل الذي أعطى لابنه جنيهاً مثلاً - وهو قوة شرائية - وقال له: اذهب إلى السوق واشترِ به ما تريد، لكن يُرضينى أنْ تنفقه في شيء نافع، فالذي أعطاه القوة الشرائية أبوه، والذي ترك له الخيار أبوه، وهو قادر أنْ يحجر عليه ويسلبه هذه القوة، وهذا هو الاختيار.
كذلك الحق - تبار ك وتعالى - يريد أن يذهب الإنسانُ إليه وهو مختار، وهو قادر ألاَّ يذهب، يريد أن يذهب العباد إليه عن حب، وعن رغبة، وعن إيمان، لا عن قهر وجبروت؛ لأنه سبحانه - كما سبق أنْ قُلْنا - يريد قلوباً تخشع، لا قوالب تخضع.
فقوله تعالى: { قُلْ إِن ضَلَلْتُ } [سبأ: 50] يعني: أنا وأنتم سواء في هذه المسألة؛ لأن الضلال نتيجة للسيئات التي تقترفها النفس، فهي سبب الضلال { قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ عَلَىٰ نَفْسِي } [سبأ: 50] أما الهداية فمن الله؛ لأنها بسبب منهج الله { وَإِنِ ٱهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي } [سبأ: 50].
لكن النبي صلى الله عليه وسلم متفق وأمته في نسبة الضلال إلى النفس، لكن يختلف عنهم في الهداية { وَإِنِ ٱهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي } [سبأ: 50] فالهداية جاءته صلى الله عليه وسلم من الله مباشرة قبل أنْ يبعث له رسولاً بالرسالة، وقبل أنْ ينزل عليه وحتى السماء، أما هداية الأمة فبواسطة الرسول الذي يُبلِّغ منهج الله ويأتي بالمعجزة.
فهداية رسول الله كانت بداية لما اختاره الله رسولاً على هذا الوضع من الهداية، ثم أنزل عليه المنهج لهداية الأمة.
وقوله تعالى: { إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } [سبأ: 50] سميع أي: يعرف مطلوبي، ويسمع مني كل نَفَس، وهو سبحانه مع سمعه قريب مني لا يبطىء عليّ في الإجابة؛ لأن الفعل من الله تعالى لا يحتاج إلى علاج ومزاولة، إنما الفعل من الله بكُنْ.
ثم يرجع الحق سبحانه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ليُسلِّيه:
{ وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ... }.