التفاسير

< >
عرض

وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىٰ وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ
١١
-فاطر

خواطر محمد متولي الشعراوي

تعرضت هذه الآية لقضية الخَلْق الأول للإنسان الخليفة، وهذا الخَلْق كان له مراحل، فالإنسان الأول وهو آدم عليه السلام خُلِق خَلْقاً أولياً من مادة الأرض، وهي التراب الذي يُخلط بالماء، فصار طيناً، هذا الطين مَرَّ بأطوار عدة، فالطين إنْ تركْتَهُ حتى يعطن وتكون له رائحة فهو الحمأ المسنون، فإنْ تركته حتى يجفَّ ويتماسك فهو الصلصال، فهذه - إذن - أطوار للمادة الواحدة التي صَوَّر الله منها آدم، ثم نفخ فيه من روحه، وهذا هو الخَلْق الأول الذي أخذ الله منه حواء، ومنهما يتمُّ التناسل والذرية.
وقبل أنْ يتكلم الحق سبحانه عن خَلْق الإنسان تكلَّم عَمَّا خلقه الله للإنسان قبل أنْ يُوجد، فتكلَّم سبحانه عن خَلْق السماوات والأرض
{ { ٱلْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [فاطر: 1] ثم تكلم عن الملائكة الذين ينزلون بالوحي إلى الرسل من البشر، ثم أنزل من السماء ماءً به تنبت الأرض.
هذه كلها مُقوّمات حياة الإنسان، أوجدها الله له قبل أنْ يُوجده هو، وضمن له مُقومات حياته المادية والمعنوية الروحية، المادية بالقوت طعاماً وشراباً وهواءً، والروحية بالمنهج والقرآن؛ لذلك قال سبحانه:
{ { ٱلرَّحْمَـٰنُ * عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ * خَلَقَ ٱلإِنسَانَ } [الرحمن: 1-3].
فالإنسان خُلِق لغاية، كالصانع يحدد غاية الشيء المصنوع قبل أنْ يبدأ فيه، وقُلْنا: إن الذي صنع (التليفزيون) أو الثلاجة لم يصنعها ثم قال: انظروا فيمَ تُستخدم هذه الآلة، إنما قدَّر غايتها، وحدَّد هدفها قبل صناعتها، كذلك الحق سبحانه قبل أنْ يخلق الإنسان قدَّر حركته في الحياة وما يسعده فيها، فوضع له منهج القرآن قبل أن يُخْلق، ثم جاء خَلْق المادة بعد وَضْع المنهج.
والحق سبحانه حينما يتكلَّم عن خلق الإنسان، يقول: { وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ } [فاطر: 11] فجاء الأسلوب كأنه يتحدث عن غائب، ولم يقُلْ سبحانه أنا خلقتُكم، فكأننا نقول: الله خلق الإنسان من تراب؛ ذلك لأن وسائل الخطاب بين متكلم ومخاطب تأتي على ثلاث صور: ضمير المتكلم أنا، أو ضمير المخاطب أنت، أو ضمير الغائب هو.
فالمتكلم حين يتكلم يقول: أنا فعلتُ. من الجائز أن يُكذِّب، فإنْ خُوطِب: أنت فعلت. من الجائز أنْ يُنافق، لكن إذا جاء الأسلوب بصيغة الغائب: هو فعل، فقد برئنا من الادعاء في المتكلم، ومن النفاق في المخاطب.
وحين نقول هو خلق يعني: ليس هناك غيره، وسبق أن قلنا: إن ضمير الغائب (هو) لا ينصرف إلا إلى الحق سبحانه وتعالى.
وإذا استقرأتَ آيات الخَلْق في القرآن الكريم تجدها بأسلوب الغيبة في مائة وسبع آيات، بداية من قوله تعالى فى سورة البقرة:
{ { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } [البقرة: 29] وآخره سورة الفلق: { { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ } [الفلق: 1-2] وبأسلوب المتكلم في ست وسبعين آية، مثل: { { .. إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ .. } [الحجرات: 13].
وبأسلوب المخاطب في أربعة مواضع هي:
{ { رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ } [آل عمران: 191].
وقوله:
{ { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [الأعراف: 12].
وقوله:
{ { أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً } [الإسراء: 61].
فأسلوب الغيبة هو أكثر هذه الأساليب؛ لأن الحديث عن غائب يخلو من ادعاء، ويخلو من نفاق المواجهة، أو نفاق الخطاب.
لكن، ما معنى الخلق؟ قال العلماء: الخَلْق إيجاد من عدم لحكمة أو لغاية مُسْبقة، لا مجرد الإيجاد من عدم، كيف؟ أنت إذا أخذت قطعة كبيرة من طين جاف ورميتَها على الأرض، فإنها تتفتتُ قِطَعاً مختلفةَ الأشكال، وربما وجدت منها على شكل هلال، وأخرى على شكل نجمة، وأخرى على شكل وجه إنسان أو حيوان.
هذا يُعد إيجاداً، لكن لا يُعَدُّ خَلْقاً؛ لأن الخَلْقَ إيجاد مقصود لغاية مقصودة، وحكمة مرادة، وهذه مهمة الخالق وحده سبحانه.
فإنْ قلتَ: كيف واللهُ تعالى يثبت لنا خَلْقاً في قوله تعالى:
{ { فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } [المؤمنون: 14].
قلنا: إن الخالق سبحانه يُقدِّر مجهودات البشر، ولا يبخسهم حقوقهم؛ لذلك يثبت لهم المشاركة في الخَلْق مع الفارق الواضح بين خَلْق الله وخَلْق غيره، فإذا وُصِف الإنسانُ بأنه خالق، فالله أحسن الخالقين؛ لأن سبحانه يخلق من عدم، وأنت تخلق من موجود، وخَلْقك يثبت على حالة واحدة، ويجمد عليها، أما خَلْق الله فيتطور وتدبّ فيه الحياة فيتغذّى وينمو ويتناسل .. إلخ.
ومثَّلْنا لذلك بصانع الزجاج يأخذ مثلاً الرمل المخلوق لله، ثم يعالجه بطريقة معينة، ويُحوِّله إلى زجاج، نعم أنت خلقْتَ شيئاً؛ لأن هذا الكوب لم يكُنْ موجوداً، فأوجدته، لكن من مادة موجودة مخلوقة لله، وعقل فكّر هو من مخلوقات الله، ونار صهرتْ هي من خَلْق الله.
ثم إنك لا تستطيع أنْ تمنح هذا الكوب صفة الحياة، فينمو مثلاً، أو يتكاثر، إذن: إن أثبتَ الله لك خَلْقاً فهو سبحانه أحسن الخالقين.
والحق سبحانه يقول هنا: { وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ } [فاطر: 11] وفي مواضع أخرى قال:
{ { مِّن طِينٍ } [الأنعام: 2] وقال { { مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [الحجر: 26] وقال: { { مِن صَلْصَالٍ كَٱلْفَخَّارِ } [الرحمن: 14] ولا تعارضَ بين هذه الأقوال؛ لأنها أطوار للمادة الواحدة كما بيَّنا، كالثوب الذي تلبسه تقول: هذا الثوب من القطن، أو من الغزل، أو من النسيج، فهي مراحل تمر بها المادة الواحدة.
فليس في هذا تناقض في المراحل، إنما التناقض في أنْ يكون الشيء مرتبة واحدة، ثم تجعله مراتب، إنما هذه المسألة مراحل للمرتبة الواحدة، كالطفل يصير غلاماً، ثم شاباً، ثم رجلاً، ثم كَهْلاً .. إلخ كلها مراحل لإنسان واحد.
الحق سبحانه حكم في كونه بأشياء، ونهى العقل أنْ يفكر في أشياء، قال: أنا خلقتُ لك الكون والمادة، وضمنتُ لك مقوِّمات حياتك، فإنْ أردتَ أن تُرقَّي نفسك فأعمل عقلك في المادة المخلوقة لله، واستنبط منها على قَدْر إمكاناتك، لكن لا تشغل بالك بأمرين لا جدوى من التفكير فيهما، هذان الأمران هما خَلْق السماوات والأَرض وخَلْق الناس؛ لأن الله تعالى يقول:
{ { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً } [الكهف: 51].
فخَلْق السماوات والأرض وخَلْق الإنسان مسألة لم يشهدها أحد منكم، ولم يكُنْ مع الله سبحانه معاون يخبركم بما حدث، لكن احذروا سيأتي في المستقبل مُضِلُّون يُضلُّونكم في هذه المسألة، يقولون لكم - كما يقول المضلون الآن - إن السماوات والأرض كانتا قطعة واحدة ملتهبة، وحدث لها كذا وكذا، أو أن الإنسان أصله الأول قرد تطور إلى إنسان، احذروا هؤلاء، ولا تأخذوا معلوماتكم إلا مِمَّنْ شهدها ويعلمها، وهو الحق سبحانه وتعالى.
لكن الحق سبحانه خلق العقل آلة للتفكير، وجعل له منافذ يصل من خلالها إلى الحقيقة، والاستدلال بما رآه على ما غاب عنه، فعلى العقل أنْ يتأمل ما يراه ويستدل به على ما لا يراه.
نحن لم نشهد عملية الخَلْق، لكن شهدنا عملية الموت، والموت نَقْضٌ للخَلْق، كما أن الهدم نَقْضٌ للبناء.
فهذه قضية فلسفية للعقل فيها دور، فأنت حين تريد بناء عمارة مثلاً من عشرة أدوار تبدأ ببناء الدور الأول، لكن إنْ أردتَ هدمها تبدأ بالدور العاشر، فالهدم على عكس البناء، كذلك الموت نقيض الحياة.
فالذي لم نشاهده من عملية الخَلْق أخبرنا الله به في كتابه، فقال: خلقتكم من تراب صار طيناً، ثم صار الطين حمأ مسنوناً، وصار الحمأ المسنون صلصالاً كالفخار، تشكَّل على صورة الإنسان، ثم نفخ فيه اللهُ الروحَ فدبَّتْ فيه الحياة.
ونحن شاهدنا الموت ورأيناه يأتي على عكس عملية الخَلْق، فأول شيء في الموت أنْ تفارق الروحُ الجسدَ، فيتصلَّب حتى يكون كالفخار، ثم يرمَّ، وتتغير رائحته كأنها الحمأ المسنون، ثم تمتصُّ الأرضُ ما فيه من مائية ليعود إلى تراب وفُتَات يختلط بتراب الأرض، ويعود إلى أمه التي جاء منها.
إذن: خُذْ مما شاهدتَ دليلاً على صدق ما أخبرك الله به مما لم تشاهده.
الحق - سبحانه وتعالى - حينما تكلَّم عن الخلق تكلم عن مرحلتين: الأولى: خَلْق الإنسان الأول آدم عليه السلام من طين، ولكى يتم التكاثر لعمارة الأرض كانت المرحلة الثانية بأنْ خلق له زوجه، فقال:
{ { ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا .. } [الأعراف: 189].
والظنُّ يتسع في هذه المسألة، فيصح أنه سبحانه أخذ قطعة من آدم وخلق منها حواء، ويصح أنْ تكون هذه القطعة كذلك كانت من الطين، لكن اكتفى بالتشريع الأول للرجل، ومن آدم وحواء أنشأ النسل، وتم الاستخلاف في الأرض.
ولكي نخرج من المتاهة في هذه المسألة نقول: قوله تعالى
{ { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [النساء: 1] يعني: من جنسها، من جنس خَلْقها، كما قال سبحانه: { { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } [التوبة: 128] يعنى: من جنسكم.
لكن، أيخلق الله هذا الخَلْق، ويستخلف خليفته في الأرض، ثم يتركه دون أنْ يُمدَّه بالمنهج الذي حكم حركته حياته؟ لا، لا بُدَّ أنْ يُنْزل له المنهج؛ لأن معنى الخلافة تقتضي أنْ يُوجد هذا المنهج.
والحق سبحانه حين يُملِّك خليفته أشياء تأتمر بأمره ربما غرَّه ذلك الملك فقال له: اذكر أنك لستَ أصيلاً، وأنك خليفة، وطالما تتذكر أنك خليفة فلن تطغى، إنما الذي يُطغِيك أن تظنَّ أنك أصيل في الكون، والأصيل في الكون هو الذي يحفظ ما وُهِب له، هو الذي لا يمرض ولا يموت، ولا يوجد معه مَنْ هو أقوى منه. إذن: تذكَّر أنك مُسْتخلف، وما دُمْتَ مستخلفاً فعليك أنْ تنفذ أوامر مَن استخلفك.
بعد أن تكلم الحق سبحانه عن الخَلْق الأول من تراب وخَلْق الزوجة، يُحدِّثنا عن الخَلْق العام الذي سيأتي منه البشر جميعاً بعد آدم وحواء، وبالتزاوج يتم الخَلْق عن طريق النطفة، فيقول سبحانه { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً } [فاطر: 11].
وفي موضع آخر فصَّل مراحل النطفة، فقال:
{ { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } [الحج: 5].
وأول زواج تم بين أولاد آدم تمَّ بالتباعد، فابن هذه البطن يتزوج أخته من بطن أخرى، وهكذا كان التباعد بحسب زيادة النسل قَدْر المستطاع، ومسألة التباعد هذه هي التي أدتْ إلى أول جريمة قَتْل في البشرية، وهي مسألة قابيل وهابيل، فلما اتسعتْ الدنيا، وكَثُر الناس مُنِع زواج الأخت والخالة والعمة.
وقد أثبت العلم أهمية التباعد في الزواج، وأن زواج الأقارب يثمر نسلاً أضعف من زواج الأباعد، حتى في الزراعة أثبتوا أن زراعة الحبوب المستخرجة في نفس أرضها يعطي محصولاً أقلَّ؛ لذلك لجئوا في الزراعة إلى عملية التهجين.
والنبي صلى الله عليه وسلم يحثُّ على هذا التباعد، فيقول:
"اغتربوا لا تضووا" يعني: لا تتزوج شديدة القرابة منك؛ لأن الأقارب خصائص وجودهم واحدة والدم واحد، أما في الاغتراب، فالخصائص مختلفة والدم مختلف؛ لذلك يأتي النسل أقوى؛ لذلك فطن الشاعر العربي إلى هذه المسألة، فقال:

أُنذِرَ مَنْ كَانَ بعيد الهَمِّ تَزْويج أولادِ بناتِ العَمّ
فليسَ بنَاجٍ من ضَوى وسَقَم بأَبي وإنْ أَطْعمتَهُ لا يَنْمي

وقد لاحظوا ضَعْف النسل في الأُسَر التي تزوج أولادها من الأقارب، ومدحوا الاغتراب، فقال الشاعر:

فَتَىً لم تِلدْهُ بنْتُ عَمٍّ قريبة فيضْوَى وقد يَضْوى سَلِيلُ الأقَارِب

وآخرَ يبتعد عن بنت عمه في الزواج رغم حُبِّه لها، ويقول:

تَجَاوزْتُ بنتَ العَمِّ وهْيَ حَبيبةٌ مَخَافَةَ أنْ يَضْوِيَ عليَّ سَليلُها

ثم يقول تعالى: { { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىٰ وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ } [فاطر: 11] عملية حَمْل الأنثى تتم نتيجة الالتقاء بين الذكر والأنثى تحت مظلة الشرع ومنهج الله، وللعلماء كلام طويل في مسألة حمل المرأة، أهي المسئولة عنه أم الرجل، وأخيراً سمعنا من التحاليل التي أجرَوْهَا أنَّ الرجل هو المسئول عن ميكروب الذكورة أو الأنوثة، أما المرأة فتحمل البويضة التي تستقبل هذا أو ذاك.
وعجيب أن تفطن المرأة العربية القديمة إلى نتائج العلم الحديث الآن، وأن يكون لديها إلمامٌ وفَهْم لهذه المسألة، فالمرأة البدوية التي كانت لا تنجب إلا البنات، فغضب عليها زوجها، وذهب فتزوَّج بأخرى لتنجب له الولد، وهجر الأولى، فأنشدت وقالت:

مَا لأبي حَمْزةَ لا يَأْتِينَا غَضْبانَ ألاَّ نَلِدَ البَنينا
تَاللَّه مَا ذَاكَ في أيدينَا ونحن كالأرْضِ لِغَارسِيناَ
*نُعطِي لَهُمْ مثْلَ الذِي أُعْطِينَا*

وعجيب أنْ تتكلم البدوية بما توصَّلَ إليه العلم الحديث في القرن العشرين، وكأن الحق سبحانه يريد أنْ يثبت لنا أن الفطرة السليمة البعيدة عن الهوى قد تصل إلى حقائق الكون، فسداد الرأي لا يجتمع وهوى النفس؛ لذلك قالوا: آفة الرأي الهوى، ومن ذلك ما رُوِي عن سيدنا عمر من أن القرآن كان ينزل على وَفْق ما يراه، وما ذاك إلا لسلامة فطرته.
وقوله: { وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ } [فاطر: 11] هذه مراحل تمر بها المرأة، أولاً، تزوجت ثم حملت، ثم وضعتْ حملها، وهذه كلها مراحل السلامة، ولم يذكر - سبحانه وتعالى - ما يطرأ على الحمل من عطب، فقد تحمل الأم ويسقط جنينها ولا تضعه.
والإعجاز الذي يصاحب عملية الحمل أن الدم الذي ينزل من المرأة حال الدورة الشهرية يتحول عندما تحمل إلى غذاء للجنين فكأن هذا الدم ليس رزقاً لها، بل رزق ولدها إنْ قُدِّر لها الحمل، وإن لم يُقدَّر لها حمل نزل منها دون أن تستفيد منه بشيء.
والعجيب أن هذا الدم يكفي الجنين الواحد، ويكفي الاثنين والثلاثة، والأكثر من ذلك، وأخيراً سمعنا عن المرأة التي ولدتْ سبعة، ومع ذلك كانت بحالة جيدة يعني: لم ينقص من وزنها شيء، وكأن الخالق عز وجلّ يذكّرنا قبل أنْ تحملوا هَمَّ القوت والأرزاق انظروا ما فعل الله بكم وأنتم في بطون أمهاتكم، فلكُلٍّ منكم رزق لا يتعدَّاه ولا يُخطئه.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الثلاثة" .
ومع تقدُّم العلم الآن لم يستطيعوا تحديد موعد الولادة بشكل قاطع، وستبقى هذه اللحظة في علم الله { وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ } [فاطر: 11] لماذا؟ لأننا نعرف نعم مدة الحمل، لكن لا نعرف على وجه التحديد متى التصق (الزيجوت) في الرحم؛ لذلك فإن أطباء الولادة دائماً ما يقولون ستضع الحامل بين كذا وكذا من الأيام.
إذن: لحظة الولادة أشبه ما تكون في خفائها بلحظة الموت لا يعلمها إلا الله، ومعنى يعلمها يعني: يعلمها بكل ما يحيط بها من ملابسات وأحداث.
وبعد أنْ تضع المرأةُ حملها تتحول إلى مرضعة وحاضنة فيُجري لها الخالق سبحانه رِزْق ولدها لترضعه دون أنْ يأخذ من رزقها شيئاً، لأن إمداد الله لها مستمر، والشيء ينقص إنْ أُخذ منه دون إمداد.
ثم يقول سبحانه: { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ } [فاطر: 11] يُعمّر يعني: يمد الله في عمره، وعندنا في اللغة أفعال ملازمة للبناء للمجهول، فمثلاً نقول: زُكم فلان لأنه لم يجلب لنفسه الزكام، كذلك نقول: فلا عُمِّر. هو لم يُعمِّر نفسه، إنما عمَّره الله، لذلك جاء بصيغة اسم المفعول مُعَمَّر، والمُعمَّر يعني: طويل العمر.
وهذا من المواضع التي وقف عندها المستشرقون معترضين كالعادة، بسبب جهلهم باللغة العربية وأساليبها، قالوا: كيف يُعمَّر بالفعل، فيعيش مائة سنة مثلاً ثم ينقص من عمره؟ نقول: هم معذورون؛ لأنهم لا يعلمون أن في اللغة ضميراً ومرجعاً للضمير.
فتقول مثلاً: قابلتُ فلاناً فأكرمتُه، فالهاء في أكرمته تعود على فلان هذا، وتقول: تصدقتُ بدرهم ونصفه. فهل يعني هذا أنك تصدقتَ بدرهم، ثم أعدته ثانية ونصَّفته؟ لا إنما المعنى: تصدقت بدرهم ونصف درهم مثله، فمرة يعود الضمير على ذات واحدة، ومرة يعود على واحد من مثله، كما في: تصدقت بدرهم ونصفه.
والإنسان له ذات وله صفات، ذاته هي قوام تكوينه، وصفاته ما يطرأ على الذات من أوصاف، فكَوْنه معمَّراً يعني بلغ سناً كبيرة، وكما يعود الضمير على مثل الأول أو على بعض مثله، كذلك يعود على بعض ذاته، فالمعمَّر ذاتٌ ثبت لها التعمير، فعلامَ يعود الضمير في { وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } [فاطر: 11] صحيح حينما يصل إلى مائة سنة لا نستطيع أنْ نُميته في سِنِّ العشرين مثلاً.
إذن: أعد الضمير على الذات دون الصفة، وما يُعمَّر من مُعمَّر، ولا ينقص من ذاته، فالذات لم يثبت لها التعمير إلا بإذن الله، فيصير المعنى مثل: تصدَّقْتُ بدرهم ونصفه.
والحق سبحانه حدَّثنا عن التعمير عندما تكلم عن اليهود:
{ { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ } [البقرة: 111].
وقالوا:
{ { وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } [البقرة: 80].
فردَّ الله عليهم: إنْ كنتم ضمنتم الجنة، وأنه لا يأخذها منكم أحد، فتمنَّوْا الموت الذي يوصلكم إليها:
{ { قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ عِندَ ٱللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [البقرة: 94].
ثم حكم الله عليهم { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمينَ * وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ ٱلْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } [البقرة: 95-96].
فمعنى { وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } [فاطر: 11] يعني: من عمر ذات لم يثبت لها التعمير إلا بإذن الله.
وقوله { إِلاَّ فِي كِتَابٍ } [فاطر: 11] أي: في اللوح المحفوظ، فكلُّ ما يحدث في الأعمار وفي فترات الحمل والوضع من الإنقاص أو الزيادة، كله مُسطَّر معلوم في اللوح المحفوظ { إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } [فاطر: 11] فإنْ كان صعباً عليكم وعلى فهمكم فهو يسيرٌ وسهلٌ على الله سبحانه.
ألاَ ترى لسيدنا زكريا عليه السلام وهو يدعو الله أنْ يرزقه الولد الصالح الذي يرث النبوة من بعده، مع أنه بلغ من الكِبَر عتياً وامرأته عاقر، وأيّ ذرية بعد هذا السِّن خاصةً إنْ كانت الزوجةَ عاقراً؟ لكن، إنْ كانت بقوانين الله، فالأمر سهل ميسور.
واقرأ:
{ { وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِيَ مِن وَرَآءِى وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً * يٰزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ ٱسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً * قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ ٱلْكِبَرِ عِتِيّاً * قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } [مريم: 5-9].
إذن: لا تقِسْ المسألة على قدرتك وقانونك؛ لأن الفعل يُنسَب إلى الله، لا إلى بشر.
كذلك سيدنا موسى - عليه السلام - لما تبعه فرعون بجنوده حتى حاصره وضيَّق عليه الخناق حتى قال أتباع موسى
{ { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } [الشعراء: 61] ولم لا والبحر من أمامهم وجنود فرعون من خلفهم، فقال موسى قولةَ الواثق بربه وقدرته التي لا حدودَ لها { { قَالَ كَلاَّ } [الشعراء: 62] يعني: لن يدركونا، قالها بما لديه من رصيد الثقة بالله { { إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [الشعراء: 62] فجاءه الفرج لِتوِّهِ { { أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ } [الشعراء: 63].
رأى موسى طريقاً يابساً يشقُّ البحر، فعبر هو وقومه إلى أن أصبح في الجانب الآخر، فأراد أنْ يضرب البحر مرة أخرى ليعود إلى سيولته، فلا يعبره فرعون، لكن نهاه ربه، فالمعجزة لم تنتهِ بَعْد، وما زال لها بقية، والله تعالى قادر على أنْ يُنْجي ويُهلِك بالشيء الواحد، وظل الطريق اليابس على يبوسته حتى اغترَّ به فرعون، فعبره ليلحق بموسى، ولما نزل آخر جندي من جنود فرعون أطبقَ اللهُ عليهم الماءَ، وأعاده إلى سيولته، فأغرق فرعونَ وجنوده، هذه طلاقة القدرة التي لا تحدُّها حدود، ولا تخضع للأسباب.
كذلك تأمل مسألة الخَلْق والتكاثر تجد جمهرة الناس جاءوا من ذكر وأنثى، وهذه هي القاعدة، لكن قدرة الله لا يُعجزها أنْ تأتي بالخَلْق في كل مراحل القسمة العقلية المنطقية في هذه المسألة، فالخالق سبحانه خلق آدم بلا أب وبلا أم، ثم خلق حواء من أب بلا أم، وخلق عيسى من أم بلا أب. إذن: نقول الأمر هَيِّن يسير على الله، وإنْ ظننْتَهُ أنت صعباً.
ثم يقول الحق سبحانه:
{ وَمَا يَسْتَوِي ٱلْبَحْرَانِ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ... }.