التفاسير

< >
عرض

يسۤ
١
وَٱلْقُرْآنِ ٱلْحَكِيمِ
٢
-يس

خواطر محمد متولي الشعراوي

(يس) يصح أنْ تكون حروفاً مُقطَّعة مثل (الم) و (طه)، ويصح أنْ تكون حروفاً مُقطّعة صادفتْ اسماً؛ لذلك من أسمائه صلى الله عليه وسلم: يس وطه، ولا مانع أن يكون الاسم على حرفين، بل على حرف واحد مثل (ن) في قوله تعالى: { { نۤ وَٱلْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } [القلم: 1] وقد جُعِل عَلَماً على سيدنا ذي النون عليه السلام، كذلك؛ (ق) أصبح عَلَماً على الجبل المعروف. إذن: هذه حروف مُقطَّعة، يمكن أنْ تُنقل إلى العَلَمية، ويُسمَّى بها.
وكثيراً ما تحدَّثنا عن الحروف المقطَّعة في أوائل السور، وكلما مَرَّ بنا حروف مُقطَّعة لا بُدَّ أنْ نتحدث عَمَّا تحتمله من المعاني، والذي يثبت في الذِّهْن أن الحرف له اسم ومُسمَّى، اسم الحرف لا يعرفه إلا المتعلم، أما مُسمَّى الحرف فيعرفه المتعلم ويعرفه الأمي، الأمي مثلاً يعرف الفعل (أكل) ويقول: أكلتُ، لكن لا يستطيع أنْ يتهجَّى حروفه؛ لأنه لا يعرف إلا مُسمَّى الحروف، أما المتعلم فيعرف اسم الحرف فيقول: ألف فتحة، وكاف فتحة، ولام فتحة. فكيف إذن عرف محمد صلى الله عليه وسلم أسماء هذه الحروف ونطق بها، وهو الأمي الذي لا يعرف القراءة ولا الكتابة؟ الجواب: أنه عُلِّم وعُرف من ربه عز وجل.
والقرآن جاء معجزة يتحدَّى القوم فيما نبغوا فيه، والعرب كانوا أهلَ فصاحة وبيان، ويكفي أنهم كانوا يقيمون المعارض والأسواق للكلمة، كما نقيم نحن الآن المعارض للصناعات المتميزة، ومعروف عند العرب سوق عكاظ وسوق المربد والمجنة .. الخ.
وقد بلغ من اهتمامهم بالكلمة والأسلوب أنْ يُعلقوا القصائد الشهيرة عندهم على الكعبة، وسُمِّيت هذه القصائد "المعلَّقات"، وهي أشهر ما عُرِف من الشعر الجاهلي.
وكَوْن القرآن يتحداهم هذه شهادة لهم بالتفوق، فالضعيف لا يُتحدى بل القوى، كما نرى الآن مثلاً في تحطيم الرقم القياسي في مجال من المجالات.
وتحدِّي القرآن للعرب في الفصاحة والبلاغة مثل تحدَِّي سيدنا موسى للسحرة، وتحدِّي سيدنا عيسى للأطباء، إذن: هذه سنة متبعة في جميع الأمم يتحداها الحق سبحانه بما نبغوا فيه. كذلك القرآن الكريم جاء بلغة العرب وحروفهم وكلماتهم التي ينطقون بها، ومع ذلك عجزوا عن الإتيان بمثله، لماذا مع أن مادة الكلام واحدة؟
قالوا: لأن المتكلم بالقرآن هو الحق سبحانه.
وقد أوضحنا هذه المسألة بمَثَل - ولله المثل الأعلى - قُلْنا: لو أردتَ اختبار مجموعة من عمال النسيج أيُّهم أمهر لا يصح أنْ تعطي أحدهم مثلاً حريراً، وآخر قطناً، وآخر صوفاً؛ لأن المادة الخام مختلفة، إنما تعطي الجميع مادة واحدة، ثم تنظر في نسيج كل منهم، كذلك القرآن ولغة العرب، المادة واحدة لكن المتكلم هنا العرب، والمتكلم هنا الحق سبحانه.
وحين تتأمل حروف العربية تجدها ثمانية وعشرين حرفاً، والحروف المقطَّعة في القرآن أربعة عشر، فهي إذن نصف الحروف العربية. وللفخر الرازي -رحمه الله - جدول مدهش ينظم هذه الحروف، ويوضح أنها وُضعِت هكذا لحكمة، ووُضِعَتْ بقدر وحساب، هذه الحروف الأربعة عشر تقسم كما يلي:
مجموع حروف اللغة ثمانية وعشرون حرفاً، التسعة الأوائل بداية من الألف إلى الذال لم تأخذ الحروف المقطعة منها إلا حرفين: الألف والحاء، وتركت منها سبعة أحرف أما التسعة أحرف الأخيرة، وتبدأ من الفاء فقد أخذتْ منها الحروف المقطعة سبعة أحرف هي: القاف والكاف واللام والميم والنون والهاء والياء وتركتْ منها الفاء والواو، فهي إذن على عكس التسعة الأُول.
أما الحروف العشرة في الوسط، والتي تبدأ من الراء وتنتهي بالغين، فلها نَسَق آخر، حيث أخذت الحروفُ المقطعة منها الأحرف غير المنقوطة، وهي الراء والسين والصاد والطاء والعين، وتركت منها الزاي والشين والضاد والظاء والغين.
كذلك حين نتأمل مثلاً حروف الحَلْق تجد الخاء في المجموعة الأولى لم تُذكر في الحروف المقطعة، وذُكِرت الميم في المجموعة الأخيرة.
وهكذا نرى أن هذه الحروف لم تُوضع هكذا اعتباطاً أو كما اتفق، إنما وُضِعت بقدر ونظام له حكمة ووراءه أسرار، وُضِعت بهندسة مقصودة الذات فهي مثل سنان المفتاح، والله سبحانه وتعالى يفتح بها لمَنْ يشاء، ومن حكمته تعالى أنه لم يُعْطِ كل أسرار هذه الحروف لجيل من الأجيال، إنما وزَّع عطاءها على مَرِّ الأزمان بحيث لا يستقبل جيل من الأجيال كلامَ الله بلا عطاء، وليظل القرآن نوراً يضيء جنبات الدنيا إلى قيام الساعة؛ لذلك يقول سبحانه:
{ { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ } [فصلت: 53].
هذه السين الدالة على الاستقبال نطق بها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال
{ { سَنُرِيهِمْ } [فصلت: 53] وظهرت في عهده أسرار، ونطق بها مَنْ بعده من الأجيال المتعاقبة، وظهرت لها أسرار، وسنظل ننطق بها وتتجلَّى لنا أسرارها إلى قيام الساعة، وإلى أنْ تظهر الآية الكبرى وهي القيامة. إذن: فعطاء القرآن عطاء مستمر لا ينقطع أبداً.
لذلك لما تناقشنا مع بعض المستشرقين في سان فرانسيسكو حول موضوع المخترعين والمكتشفين الذين خدموا البشرية وأسعدوها باختراعاتهم واكتشافاتهم. قال أحدهم: عجباً للمسلمين! لماذا لا يدخل هؤلاء المكتشفون الذين أسعدوا البشرية الجنة؟ فأوضحنا له أنهم نعم خدموا البشرية، لمن لم يكُنِ الله في بالهم حين اكتشفوا ما اكتشفوا، بل كان في بالهم الشهرة والمجد والذِّكْر بين الناس، وقد نالوا ما يريدون فخلّدنا ذِكْراهم وأقمنا لهم التماثيل .. الخ فينطبق عليهم الحديث:
"عملتَ ليُقَال وقد قيل"
إذن: هؤلاء العلماء الذين خدموا البشرية وأسعدوها وهم غير مؤمنين بالله ما هم إلا خَدَم سخَّرهم الله لخدمة البشر، فهم كالشمس والقمر وغيرهما، سخرهما الله للإنسان لفائدته ولمنفعته، ما هم إلا جنود من جنود الله يخدمون هذا الحرف في { { سَنُرِيهِمْ } [فصلت: 53] ليظل يعطي على مَرِّ الأزمان، وفي كل المستقبل.
هؤلاء العلماء غير المؤمنين بالله مَثَلهم كمثَل خادم عندك قُلْتَ له: احمل هذا الحجر مثلاً، فقال لك إنه ثقيل عليَّ لا أقوى على حَمْله، فإنْ قلت له: استعِنْ بمَنْ يحمله معك ربما قال لك لا أجد، لكن إنْ قُلْتَ له احمله وسوف تجد تحته كنزاً هو لك فإنه سيحمله وحده، في هذه الحالة: أحمَله احتراماً لأمرك؟ أم حمله طمعاً في الكنز؟
كذلك لما تقدمتْ العلوم اكتشفوا أن الخمر تضر بالكبد، فأقلع كثيرون عن شربها مخافة ضررها، وبعد أنْ عرف العلة، أمَّا المؤمن فيقلع عنها قبل أنْ يعرف هذه الحقيقة، يقلع عنها لأن ربه عز وجل نهاه عن شربها فينتهي ثقة منه في حكمة ربه، واحتراماً لأمره، ولو لم يعرف العلة.
ولأن سورة يس، ثبت في الحديث أنها قلب القرآن فيجب أن نستهل الاستعاذة والتسمية قبلها، كما استهللناها في السُّوَر قبلها، فالحق سبحانه الذي أنزل القرآن معجزة وكتاب هداية على سيدنا رسول الله ليصحح للمؤمنين به حركة حياتهم قال:
{ { فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْآنَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ } [النحل: 98].
وقلنا سابقاً: إن علة هذا الأمر من الأعلى أن الشيطان حينما عصى ربه في السجود لآدم، وحدث الحوار بينه وبين ربه قال:
{ { لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ص: 82] يعني: حتى لا يتميز آدم وبنوه عنِّي في المعصية { { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } [ص: 83] فقوله: { { لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ص: 82] أي: في أنْ يسلكوا طريقاً غير الطريق الذي رسمه الله لهم، والطريق الذي رسمه الله لهم هو الصراط المستقيم الذي قال فيه: { { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [الأعراف: 16].
نعم، لأن الشيطان لا يأتي الخمارة ولا أماكن القمار والمعصية، إنما يتعرض لأهل الطاعات ليفسد عليهم طاعتهم، والصراط المستقيم هنا هو منهج الله الذي وضعه لإسعاد البشرية، فإبليس بدل أنْ ينتظر إلى أنْ تنفذ منهج الله في حركة الجوارح طاعة ومعصية يأتي للأساس الذي تأخذ عنه تلك الجوارح منهج الحركة، فإذا قرأتَ القرآن جاء ليفسد عليك القراءة.
لذلك يُعلِّمك ربك - عز وجل - الاستعاذة، أولاً لتقطع على الشيطان هذا السبيل؛ لأنه لن ينتظرك حتى تقرأ، وحتى تأتي بثمرة هذه القراءة في حركة الحياة، بل يأتي إلى القرآن نفسه فيفسده عليك من البداية، فإنْ أردتَ أن تنتصر عليه فاستعذ بالله منه.
وحين تستعيذ منه بالله فإنك تلجأ إلى ركن قوي ودرع وَاقٍ لا ينفذ إليك منه شيء من وسوسة الشيطان وهَمْزه وغَمْزه؛ لذلك كان الشيطان واعياً حين قال:
{ { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } [ص: 83] فهم الذين يحتمون منه في حِمَى ربهم وخالقهم.
أما قوله تعالى { بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } فالحق سبحانه خلق الإنسان، وجعله سيد هذا الكون، وسخَّر له كل شيء، ومما سخَّر له سخر أبعاضه لإرادته، فسخَّر مثلاً لسانه لإرادته، فإنْ كان مؤمناً قال: الله واحد. وإنْ كان غير ذلك قال: الله ثالث ثلاثة، كذلك سخَّر له العين تنظر إلى ما أحلَّ وإلى ما حرَّم كذلك الرِّجْل، فكل جوارحك سخَّرها الله لك إنْ أردتَ منها طاعة أطاعتْ، وإنْ أردتَ منها معصية عصتْ، فالإرادة هي التي تملي ما تريده، والجوارح لا تملك إلا أنْ تنفذ طاعة أو معصية لأنها مُسخَّرة.
وسبق أنْ مثَّلنا لذلك بالقائد الأعلى للجيش حين يرسل مثلاً القائد الأدنى على رأس كتيبة في مهمة ما، فعلى الكتيبة أنْ تطيع أمر هذا القائد المباشر طاعة عمياء، حتى لو كانت هذه الأوامر في غير صالحهم، وليس لهم أن يعترضوا عليه حتى إذا ما عادوا إلى القائد الأعلى اشتكَوْا له ما كان من قائدهم المباشر، كذلك طاعة الجوارح لإرادة الإنسان في الدنيا.
أما في الآخرة فسوف تُسْلَب منه هذه القيادة لجوارحه، وسوف تشهد هذه الجوارح على صاحبها أمام الحق الأعلى سبحانه، ففي الآخرة لا سلطانَ لأحد إلا الله:
{ { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [غافر: 16].
وقال سبحانه:
{ { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [النور: 24].
وقال:
{ { وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوۤاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } [فصلت: 21].
فإذا كنتَ تريد عملاً من الأعمال، هذا العمل يتطلب منك أولاً طاقة عقلية فكرية تخطط له، ثم يتطلب قوة في الجوارح لتفعل، مَنِ الذي خلق لك العقل المفكر؟ ومَنِ الذي أمدَّ جوارحك بالقوة والطاقة الفاعلة؟ أهي تأتمر لك وتفعل مطلوبك بقوة ذاتية فيك؟ أم بتقدير الله لها؟
إذن: عليم أنْ تُقبل على كل فعل، فكراً وتخطيطاً وتنفيذاً وعملاً بقولك بسم الله، وحين تقولها فكأنك تقول للجوارح: أنا لا أطلب منك بقوتي، ولكن من باطن قوة بسم الله، فبسم الله أفعل لا بي.
بدليل أن الله تعالى إنْ أراد سلب الإنسان ذاتية الحركة وذاتية الطاقة والفكر فتُشَلّ الجوارح ويُشَلّ التفكير، إذن: أقْبل على كل أعمالك ببسم الله الذي يُعينك عليها.
ثم أنت في الأعمال تحتاج إلى حكمة، وإلى قدرة، وإلى علم .. الخ، فمَن الجامع لكل هذه الصفات؟ إنه الله. إذن: فقُلْ بسم الله الجامع لصفات الكمال كله الممِدّ خَلْقه بها، فهو سبحان العالم الذي يمدّك بالعلم، القادر الذي يمدك بالقدرة، الحكيم الذي يمدّك بالحكمة، العزيز الذي يمدّك بالعزة، القهار الذي يمدّك بالقهر .. الخ.
ألسنا نسمع القاضي يقول عندما يجلس للحكم: بآسم الشعب يعني: هو لا يحكم بذاته، إنما يحكم بقوة الشعب، كذلك المؤمن يقول: بسم الله عند كل عمل يعني أيتها الجوارح، أطيعيني من باطن طاعتك لله.
ثم يصف الحق سبحانه نفسه بقوله
{ { الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } [الفاتحة: 1] لأن الحق سبحانه خلق الخَلْق مختارين، فكان منهم المؤمن والكافر، والطائع والعاصي، وربما غفل الإنسان عن منهج الله فصدرتْ منه صغائر بل وكبائر، فكيف يقبل على عمله ببسم الله؟ وكيف يستعين به سبحانه وقد عصاه.
لذلك يقول له ربه عز وجل لا تستح أنْ تقول بسم الله، لأنني رحمن رحيم، أغفر لك وأتجاوز عَمَّا كان منك، ولن أتخلَّى عنك، إذن: تشجَّع ولا تترك الاستعانة باسمي مهما كان منك من ذنوب، واعتمد في ذلك على أنِّي رحمن رحيم.
وقد رُوِي أن الأصمعي سمع رجلاً يقول - وهو يطوف بالكعبة - اللهم إني عاصيك وأستحي أنْ أطلب منك، لكن أطلب مِمَّنْ، وليس في الكون إلا أنت؟ فقال له الأصمعي: يا هذا، إن ربك قد أجابك لحُسن مسألتك له.
والحق سبحانه وتعالى حين يُعدِّد نعمه على عباده يقول
{ { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } [إبراهيم: 34] نعم، لأن عَدَّ الشيء مظنة إحصائه، ومع تقدُّم العلوم وتخصُّص جامعات ومعاهد للإحصاء لم يُقبل أحد على عَدِّ نِعَم الله؛ لأنها لا تُعَدُّ، بل النعمة الواحدة مطمور فيها مَا لا يُحصى من النعم؛ لذلك لم يقُل سبحانه: وإنْ تعدوا نِعَم الله، بل نعمة الله، فالنعمة الواحدة مستور فيها ما لا يُدرَكُ من النعم.
ونلحظ في هذه الآية أنها وردتْ في موضعين، لكن لكل منهما تذييل، فواحدة:
{ { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ٱلإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [إبراهيم: 34] والأخرى: { { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [النحل: 18].
وكأن الحق سبحانه يقول لنا: أنت أيها الإنسان المُنْعَم عليه ما تُقابل به نِعَم الله من الظلم وكفران النعمة، فربُّكَ المنعِم سبحانه يقابل ظلمك وكفرك لنعمه باستدامة النعم؛ لأنه غفور ورحيم.
وللعلماء أقوال في (يس) قالوا: الياء للنداء و (س) من أسمائه صلى الله عليه وسلم؛ لأن عادة العرب أنْ تحذف بعض حروف الكلمة، وتُبقي على الحرف المميز قوى الجرْس، فمثلاً كلمة إنسان، السين أقوى حرف فيها؛ لذلك ورد قول النبى صلى الله عليه وسلم:
"كفى بالسيف شا" والمراد: شاهداً.
ومن ذلك قول الشاعر:

أَفَاطِمُ مَهْلاً بَعْضَ هَذَا التَّدلُّلِ وإنْ كنتِ قَدْ أزمَعْتِ صَرْمي فأجْمِلِي

والمراد: فاطمة.
ونحن في حديثنا اليومي نختصر بعض الحروف، فحين ننادي مثلا يا أحمد، بعضنا لا ينطق الدال، وخاصة في لهجة الدمايطة. إذن: فحَذْف بعض الحروف وإبقاء بعضها مما له جَرْس قوي أمر وارد في لغة العرب.
وقال آخرون: بل اسمه صلى الله عليه وسلم (يس) وحُذِفت ياء النداء والخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم.
الحق سبحانه وتعالى علَّم الإنسان الأسماء كلها، يعني: علَّمه الكلمة المطلوبة له في التخاطب، وبعد ذلك ساعةَ يتكلم الإنسانُ ويتخاطب يتواضع ويصطلح على أسماء أخرى، فالإنسان مثلاً الآن يعرف (التليفزيون) ويتعارف على هذا الاسم، فهل علَّم الله آدم اسم (التليفزيون)؟ لا إنما اصطلح عليه الإنسان بما علَّمه الله.
فالمعنى:
{ { وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا } [البقرة: 31] أي: الصالحة لتخاطبه الآن في البيئة البدائية، وعليه هو أنْ يُنمي لغته، فيضع لهذا الشيء اسم كذا، وهذا اسم كذا.
ونحن نعرف أن الحروف قسمان: القسم الأول: حروف مَبْني يعني مهمتها بناء الكلمة، دون أن يكون لها معنى غير ذلك، كما نقول مثلاً: كتب، فالكاف والتاء والباء حروف تُبنى منها هذه الكلمة دون أنْ تعطي معنى آخر زيادةً على معنى هذا الفعل الذي كوَّنته الحروف.
القسم الثاني: حروف معنى، وهي أن يكون للحرف معنى يدل عليه بذاته كما نقول: كتبتُ. فهذه التاء الأخيرة تحمل معنى آخر غير معنى الكتابة؛ لأنها تدل على الفاعل المتكلم فإنْ جاءت مفتوحة دلَّتْ على الفاعل المخاطب، وإنْ جاءت مكسورة دلَّتْ على المؤنث، وهكذا.
وقُلْنا: إن اسم الحرف قد يصادف عَلَماً على شيء، فالسين مثلاً اسم لنهر معروف، والعين حرف معجم لكن سُمِّي به أشياء كثيرة: العين الباصرة، وعين الماء، والعين بمعنى الجاسوس، والعين للنفيس من المال من الذهب أو الفضة.
وقوله سبحانه: { وَٱلْقُرْآنِ ٱلْحَكِيمِ } [يس: 2] هذه الواو تسمى واو القسم فما دخلتْ عليه كاليمين، لكن هل المطالب التي يريدها المتكلم من المخاطب تأتي بالقسم أم بالدليل؟ تأتي بالدليل، وقد يأتي اليمين فيه الدلالة على الغرض المراد. فمثلاً يقول لك صاحبك: يا أخي أنت لم تُقدِّرني، لأنني مررتُ بأزمة، فلم تقف بجانبي فتقول له: وحياة الشيك الذي كتبتُه لك يوم كذا، وحياة الهدية التي أخذتها يوم كذا، فتحلف له بالدليل على صِدْقك.
كذلك هنا الحق - تبارك وتعالى - يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: أنت مرسل وأنا أحلف بالقرآن لأنه دليل على أنك رسول صادق.
كلمة قرآن مصدر لقرأ تقول قرأت قراءة وقرآناً، ولا بُدَّ أن الزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى، فقلنا قرآناً لنفرق بين قراءة القرآن وقراءة غيره، وهي أيضاً تدل على أنه كتاب مقروء، ومرة أخرى يسميه الكتاب لأنه مكتوب، فالقرآن إذن مقروء من الصدور، مكتوب في السطور.
ومرة أخرى يسميه الذِّكْر، لأنه يُذكِّرنا بعهد الفطرة الأولى التي قال الله فيها:
{ { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ } [الأعراف: 172].
وهذا التذكير بالعهد الأول يُعَدُّ رحمة من الله بنا، فمن رحمة الله بنا أن يُذكِّرنا إذا نسينا أو غفلنا، فمنذ أنْ خلق آدم وإلى الآن، الحق - تباك وتعالى - يُذكِّر عباده، فكما يُلقِّن الوالد ولده حركة الحياة يُلقِّنه أولاً حركة هذا الدين، ولا بد أنْ يستمر هذا التلقين وهذا التذكير، وأنْ يتوالى من جيل إلى جيل؛ لأن طبيعة الإنسان فيه غفلة وفيه نسيان، وتحدث منه معصية.
لذلك الذين قالوا:
{ { إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ } [الزخرف: 22] كاذبون في هذا القول؛ لأن آدم وأمته في البداية كانوا على هُدًى، فلماذا لم تتبعوهم؟ إذن: أنتم اتبعتُم الآباء الضالين لا المهتدين.
كذلك حين تتأمل مسألة جمع القرآن تجد أن الذين جمعوا القرآن كانوا يتحرَّوْن في الآية قبل تسجيلها أن تكون مكتوبة أولاً في قرطاس أو في الرقاع والعظام التي سُجِّل عليها القرآن أولاً، ثم يشهد على صحتها اثنان من القراء، لماذا؟
قالوا: لأن القرطاس لا هوى له، فيغير ما كتب فيه، أما الإنسان الحافظ فهو عُرْضَة للخطأ والنسيان والغفلة، فلا بُدَّ أنْ يكون معه آخر يُذكِّره على حَدِّ قوله تعالى:
{ { أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلأُخْرَىٰ } [البقرة: 282].
والقرآن وصفه الله بالحكمة، وهي وَضْع الشيء في موضعه الحق ليؤدي مهمته، وكلُّ المعاني الدينية مأخوذة من مُحسَّات قبل الدين، فمثلاً الفَرَس يركبه الإنسان ليُوصلِّه إلى مراداته، فإنْ كان مرادك من ركوب الفرس التنزُّه بين الحقول سار بك سَيْراً بطيئاً كسَيْر الحنطور مثلاً، وإنْ أردتَ به قَطْع المسافة جرى بك كالريح.
لذلك جعلوا للحصان لجاماً يُوضَع في حنكه ليكبح سرعته، ويتحكم فيه، هذا اللجام يُسمى الحَكَمَة ومنها الحِكْمَةُ التي تكبح جماح الأهواء، كي لا تشرد وتضع المسائل في موضعها، فالإنسان له هوًى يميل به، وينحرف بحركته عن الجادة، فيأتي القرآن بالحق الواضح الذي يُقوِّم هذا الميل ويُصلحه، والقرآن في الحقيقة حكيم، لأنه محكم من الحكيم الأعلى سبحانه، إذن: فالقرآن كلام من الحكيم، وهو بالنسبة للإنسان كالحَكَمة للفرس.
ولحكمة القرآن اختصّ بأشياء، فتناول القرآن لا يكون كتناول غيره من الكتب، فالكتاب العادي أتناوله في أيِّ وقت وعلى أيِّ حال كنت جُنُباً أو مُحدثاً، أما القرآن فلا يمسُّه إلا طاهر، لأنك مع القرآن تُقبل على مقدس له خصوصية، فإياك أنْ تتناوله وأنت غير طاهر، كما قال الحق سبحانه:
{ { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ } [الواقعة: 77-79].
فالحق سبحانه جعل لك هذه الضوابط النفسية لتعرف أنك مُقبِل على كتاب له تميُّز عن سائر الكتب الأخرى.
كذلك للقرآن خصوصية في حروفه، فالحروف هي التي تُكوِّن الكلمات، فهي عبارة عن نبرات صوتية، لكل منها منطقة في أعضاء الكلام، فمثلاً حروف تخرج من الجوف والصدر هي:

هَمْزٌ فَهَاءٌ ثُمَّ عَيْنٌ حَاءُ مُهْملَتَانِ ثُمَّ غَيْنٌ فَاءُ

فإنْ خرجنا من منطقة الجوف نجد الحروف اللسانية التي تُنطق من اللسان بداية من: (لغلوغه) ثم وسطه ثم طرفه. فالقاف مثلاً تخرج من أقصى اللسان، والشين والجيم من وسطه، والضاد واللام والراء من طرفه، كذلك هناك حروف تخرج من الشَّفة، كالفاء من باطن الشَّفة السفلي، والباء من باطن الشفتين معاً، كذلك الواو يشترك في نطقها الشفتان.
ولكي نقرأ القرآن قراءة صحيحة لا بُدَّ أنْ نلتزم بهذه المخارج الصوتية، على خلاف قراءة أيِّ كتاب آخر، فلا يُشترط له هذا الشرط؛ لذلك نقول: إن كمال القرآن لا يتعدى ما دام له طريقة معينة ونغمة مضبوطة، فلا بُدَّ أن تُراعى.
فمثلاً لو أنك تتكلم في خطبة عادية تقول: أيها السادة السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، لقد استدعاني فلان لألتقي به في مكان كذا.. لو نطقتَ هذا الكلام بنغمة القرآن وطريقته لكان شيئاً غير مقبول (بايخ) أمَّا إنْ كان هذا النَّغَم في القرآن، فإنه يأتي جميلاً متناسقاً.
إذن: كمال القرآن لا يُتعدَّى حتى في نطقه؛ لأن هذا شيء مُختصٌّ به وحده دون غيره من الكلام، فإنْ عدَّيْتَ خصائص القرآن إلى غيره من الكلام جاء سخيفاً مردوداً لا يُقبل.
أذكر ونحن صغار أنهم كانوا ينصحوننا بقراءة كتب الأدب مثل كتب المنفلوطي مثل "العبرات" أو "النظرات" لنتعلم الأسلوب الجميل في كتابه الإنشاء، وبالفعل كان أسلوبنا يتحسَّن ويترقَّى بقراءة كتب الأدب، ونكتسب منها تعبيرات جديدة، فإنْ جئتَ إلى حافظ القرآن الذي جوَّده على القراءات العشر أو الأربعة عشر، وقرأتَ له كلمة أو مقالاً، فإنك تجد أسلوبه لا يتأثر بالقرآن لماذا؟ لأن كمال أسلوب القرآن لا يُتعدَّى.
إذن: نفهم أن حكمة القرآن جاءت من هذه الخصوصية: في حروفه حكمة، وفي كلماته حكمة، وفي نَظْمه، وترتيله، وفي أسلوبه الذي لا يُبَارى ولا يُنقل إلى غيره.
ثم يقول الحق سبحانه:
{ إِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ }.