التفاسير

< >
عرض

أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ ٱلرَّحْمَـٰنُ بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ
٢٣
إِنِّيۤ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٢٤
إِنِّيۤ آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَٱسْمَعُونِ
٢٥
-يس

خواطر محمد متولي الشعراوي

الاستفهام في { أَأَتَّخِذُ } [يس: 23] يحمل معنى التعجُّب والإنكار، فهو يتعجب وينكر: كيف يتخذ من دون الله آلهة، والله هو الذي خلقه، وحين تتأمل معنى الفعل (أتخذ) تجد أن الشيء المُتَّخذ ليس أصلاً، فمعنى اتخاذ آلهة أنها ليستْ آلهة في الحقيقة، وأنها لا تستحق أنْ تكون آلهة، لكن عمدتَ إليها فجعلتها آلهة، ومثله اتخاذ الولد في قوله تعالى: { { مَا ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ .. } [المؤمنون: 91].
فالمعنى: أن الله تعالى ليس له ولد في حقيقة الأمر، وإنْ قلتم اتخذ الله ولداً، فهذا يعني أنه أتى سبحانه إلى ولد فتبنَّاه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وكما تقول أنت اتخذت ولداً. يعني: أتيتَ إلى ولد لم تنجبه فتبنَّيْته.
إذن: ما دامت هذه آلهة متخذة، فالمعنى أنها ليس لها وجود أصلاً، وكأن الرجل يُصحِّح للقوم فكرتهم عن العبادة.
وقوله سبحانه: { إِن يُرِدْنِ ٱلرَّحْمَـٰنُ بِضُرٍّ } [يس: 23] هذه العبارة فيها لفتة لطيفة ينبغي تأملها؛ لأن صفة الرحمة في الرحمن تتناقض مع الضر، فكيف جمع السياق بينهما؟
نقول: إذا فسرتَ ما يجري عليك به قَدَر الله على أنه ضُرٌّ لك فتعقَّل أنه من رحمن، فلا بد أن يكون لمجريه عليك وهو الرحمن حكمة فيما أجرى، لذلك نقول: أحمدك ربي على كُلِّ قضائك وجميع قدرك، حَمْدَ الرضا بحكمك، لليقين بحكمتك.
فكأن الحق سبحانه يقول لك: تنبه أنه ليس كل ما تراه بقوانينك أنت ضاراً لك، هو كذلك؛ لن مُجريه عليك رحمن، ففي طيَّات هذا الضر نَفْع كثير. كما يقدم الأب الحنون ولده للطبيب فيُجري له جراحة مؤلمة، أو يقطع جزءاً منه ليُصلح باقي الجسم، فهذا ضرر في الظاهر، وفي الحقيقة رحمة به.
لذلك سبق أنْ قلنا: إذا دخل عليك ولدك يسيل دمه، فلا تستقبل هذا إلا بالرضا، ولا بالسخط، إلا بعد أنْ تسأل عن الفاعل، فإنْ كان عدواً سخطَتْ عليه، وإنْ كان مُحباً تقبلْتَ ما حدث بالرضا، وقلتَ للولد: لا بد أنَّ عمَّك مثلاً رآك تخطئ فعاقبك.
كذلك لا تحكم على أقدار الله التي يُجريها عليك إلا من منطلق أنها من رحمن أرحم بك من الوالدة بولدها، وأنت خَلْقه وصَنْعته، وما رأينا أحداً من حمقى البشر يعمد إلى صنعته فيحطمها، إنما يعتنى بها، ويُعمِل فيها يد التجميل والتزيين، كما ترى النجار مثلاً يمسك بـ (الفارة) وينحت في الخشب. أتقول: إنه يضر بصنعته؟ لا بل يُصلحها ويُزينها.
لذلك يقول تعالى في الحديث القدسي:
"يا ابن آدم، أنا لك مُحب، فبحقِّي عليك كُنْ لي محباً" أبعد هذا التودد من الخالق للخَلْق يُجْري عليهم ما يضرهم؟
وفي حياتنا العملية كثيراً ما نرى شواهد لهذه المسألة، فكثيراً ما يفوتك القطار أو الأتوبيس مثلاً، فتأخذ الميعاد التالي، وفي الطريق تجد القطار أو الأتوبيس حدث له حادث فتصحح أنت فكرتك الأولى، وتُحوِّل غضبك لفوات القطار إلى شكر لله الذي نجَّاك، وكنتَ تظن غير ذلك. إذن: انظر إلى مَنْ أجرى عليك الأقدار، ولا تنظر إلى المنفعة السطحية؛ لأن لله تعالى حكمة فيما يُجريه، تعلمها أنت أو لا تعلمها.
أيضاً كثيراً ما يُخفق أحد أبنائنا مثلاً في الامتحان وقد ذاكر واجتهد وحصَّل العلوم .. الخ لكن عَرَض له عارض من مرض أو غيره فلم يُوفَّق. النظرة السطحية للأمور تقول: إنها شر وخسارة تدعو إلى السخط والعياذ بالله، لكن النظرة المتأنية المتأملة ترى لله تعالى حكمة في هذا الإخفاق.
فالأب العاقل في مثل هذه المواقف يقول لولده: يا بني، احمد الله فأنت دائم النجاح، ولعلك إنْ نجحتَ هذا العام لا تَسْلم من عيون الحاسدين، وهذه فرصة لك لتزيد من مجموعك لتدخل الكلية التي تريدها.. الخ.
وهكذا يُوثق الوالد علاقة ولده بالله، ويُزيد من إيمانه ورضاه بربه، ويُبعده عن السخط وعدم الرضا بالقضاء، وهذه مسألة ينبغي على الآباء الاهتمام بها.
إذن: اللمسة التي نريد الوقوف عندها في هذه الآية أن الرحمن إنْ كانت تنافي عندك فِعْل الضر، فهذا عندك أنت، إنما عند مُجريها لا تنافي، لأنها من الرحمانية.
وقوله تعالى: { لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً } [يس: 23] يعني: شفاعة هذه الآلهة - إنْ كانت لهم شفاعة - لا تُجدي، لأنهم شركاء لله وأنداد لله، فكيف تُقْبل شفاعتهم عنده سبحانه؟
وشرط في الشفاعة أن يكون الشافع محبوباً عند المشفوع عنده، فهذه الآلهة على فرْض أنه كان لهم شفاعة، فهي غير مقبولة عند الله تعالى، مع أن هذه الآلهة في ذاتها معذورة حيث لا ذنبَ لها، فهي ما ادَّعَتْ أنها آلهة، إنما ادَّعى البشر ذلك.
وسبق أنْ ذكرنا أن هذه الآلهة قد تبرأت من كونها تُعبد من دون الله، وصدق الشاعر الذي صاغ هذا المعنى: فقال على لسان هذه الآلهة:

عَبَدُونَا وَنَحْنُ أَعْبَدُ للهِ مِنَ القَائِمينَ بالأَسْحَارِ
قَدْ تجنَّوْا جَهْلاً كما قَدْ تجنوه على ابْنِ مريَمَ والحَوارِي
تَخِذُوا صَمْتَنَا عَلينَا دليلاً فغدَوْنَا بهمُ وَقُودَ النَّارِ
لِلْمُغَالِي جَزَاؤُه والمغَالَى فِيهِ تُنجِيهِ رحمةُ الغفَّارِ

وقوله سبحانه: { وَلاَ يُنقِذُونَ } [يس: 23] لأن الشافع حين تُرد شفاعته يمكن أن ينقذ المشفوع فيه من يد المشفوع عنده، أما هؤلاء الآلهة فلا تُقبل شفاعتها، ولا تستطيع أنْ تنقذ مَنْ طلب منها أنْ تشفع له.
وقد بيَّنَّا معنى الشفاعة، وأنها من الشفع يعني: إنسان له قضية، ولا يستطيع وحده بأسباب حَلَّ هذه القضية فيستعين بآخر ليساعده وينضم إليه لِيقوِّيه على حَلِّها، إذن: بعد أنْ كان مفرداً صار بالشافع شفعاً. يعني: اثنين.
ولما أراد الحق سبحانه أن يجلى لنا هذه المسألة قال سبحانه في سورة البقرة:
{ { وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَٰعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } [البقرة: 48].
وقال في موضع آخر:
{ { وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ } [البقرة: 123].
تلحظ أن صدر الآيتين متفق لكن عجزهما مختلف، فلماذا؟ قالوا: لأن مرجع الضمير مختلف؛ لأن عندنا هنا نَفْساً جازية، ونفساً مجزياً عنها، فإنْ أعدْتَ الضمير على المجزى عنها، فالمجزى عنه لا يشفع بنفسه، إنما يعرض العدل أولاً، ويطلب تقويم الضرر ليدفع فِدْيته، فإنْ لم يقبل منه العدل بحث عَمَّنْ يشفع له، إذن: فالمعنى: لا يُقبل من ذاتها عدل، ولا تنفعها شفاعة الغير.
فإنْ أعدْتَ الضمير على النفس الجازية - أي: الشافعة - فإن الشافع يتقدم ليشفع أولاً، فإنْ لم تُقبل شفاعته فإنه يعرض العدل، ويتحمل الفدية.
إذن: هذه الآلهة - على فَرْض أن لها شفاعة - فهي شفاعة مردودة غير مقبولة، وهم أيضاً لا يستطيعون إنقاذ مَنْ يلجأ إليهم من قبضة الحق سبحانه، فهم لا يصلحون للشفاعة، ولا للإنقاذ، وهذا المعنى واضح في قوله تعالى:
{ { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ ٱجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلْمَطْلُوبُ } [الحج: 73].
وقوله: { إِنِّيۤ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [يس: 24] يعني: إنْ فعلتُ ذلك، وذهبتُ إلى عبادة هذه الآلهة أكون في ضلال { مُّبِينٍ } [يس: 24] بيِّن واضح، وقوله: { لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [يس: 24] كأن الضلال يحاصره ويحيط به من كل ناحية، بحيث لا يستطيع أنْ ينجو منه.
ثم يقول هذا الرجل المؤمن: { إِنِّيۤ آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَٱسْمَعُونِ } [يس: 25] هذا الخطاب يصح أنْ يُوجَّه إلى الرسل الذين جاء الرجل ليساندهم في دعوتهم ويناصرهم، فنظر إليهم وقال { إِنِّيۤ آمَنتُ بِرَبِّكُمْ } [يس: 25] ومعنى { فَٱسْمَعُونِ } [يس: 25] أي: اسمعوا مني ما أناصركم به، واشهدوا لي بأنني متطوع بهذه المساندة الإيمانية، لم يُكلِّفنى أحد بها.
ويصح أنْ يكون هذا الخطاب مُوجَّهاً إلى القوم المكذِّبين، فهو يقول لهم: { إِنِّيۤ آمَنتُ بِرَبِّكُمْ } [يس: 25] يعني: الله ربكم رغماً عنكم، وإنْ كنتم كافرين به سبحانه فأنا احترمت ربوبيته لكم، وآمنتُ بها لأدخل في عظمة هذه الربوبية { فَٱسْمَعُونِ } [يس: 25] أي: اسمعوا مني هذا البلاغ لأكون قد أدَّيْتُ ما وجب عليَّ نحوكم، وأبلغتكم ولم أخدعكم أو أغشَّكم.
ثم يقول الحق سبحانه:
{ قِيلَ ٱدْخُلِ ٱلْجَنَّةَ قَالَ يٰلَيْتَ ... }.