التفاسير

< >
عرض

إِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ
٣
-يس

خواطر محمد متولي الشعراوي

هذا هو جواب القسم، الحق سبحانه يرد على كفار مكة، ويقسم لهم: إنك يا محمد لمن المرسلين، والمتكلم حين يرى المخاطب خالي الذَِّهْن عن الأمر الذي يتحدث فيه يُلقي له الكلام طبيعياً بدون تأكيد، فإنْ كان شاكاً في الكلام أو مُنكِراً له أكّد المتكلمُ كلامه بمؤكِّد يناسب الشكَّ أو الإنكار.
لذلك الحق سبحانه يؤكد هنا كلامه بأكثر من مؤكد { إِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } [يس: 3] فاستخدام التأكيد بإن واللام، وقبل ذلك القسم؛ لأن الكفار منكرون لرسالته صلى الله عليه وسلم، وعلى قدْر الإنكار يكون تأكيد الكلام.
وتأمل في ذلك قوله تعالى:
{ { إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوۤاْ إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ } [يس: 14] وكانت النتيجة الإنكار { { قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ ٱلرَّحْمَـٰنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ } [يس: 15].
لذلك يؤكدون كلامهم بأكثر من مؤكد:
{ { قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ } [يس: 16].
وقلنا: إن هذه الآية جاءت دليلاً وبرهاناً في صورة اليمين، كأن الله يقول: الذي يقرأ القرآن لا بُدَّ أن يؤمن بأنك يا محمد مُرسَل من الله، لماذا؟ لأنهم أمة كلام وتذوُّق، وما وُجِدت أمة من الأمم حتى المعاصرة تقيم معارض للكلمة، أما العرب في جاهليتهم فقد أقاموا للكلمة أسواقاً ومعارض يتبارى فيها الخطباء والشعراء كل عام في المربد وعكاظ وذي المجنة وغيرها.
وقد بلغ اهتمامهم بالكلمة أن يعلقوا أروع قصائدهم على أستار الكعبة، وما دام العرب أمة كلام، إذن: كان عليهم أنْ يستقبلوا القرآن بهذه المَلَكة، وألاَّ يخفى عليهم إعجازه، لكنهم كذَّبوه وقالوا: سحر وقالوا: شعر وقالوا: افتراء. فلما أعيتهم الحيل ولم ينالوا من ذلك شيئاً قالوا:
{ { لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31] يعني: القرآن لا غبار عليه إلا أنه ينزل على محمد، هذه آفته عندهم؛ لأن مَلَكتهم البلاغية لا يصح أن تقف أمام القرآن أو تُكذِّبه.
لذلك كانوا حتى وهُمْ على كفرهم يحبون سماع القرآن، يتخفَّى الواحد منهم، ويذهب يتسمَّع القرآن من رسول الله ليلاً، وربما تقابل الاثنان منهم عند حجرات رسول الله، فسأل أحدهما الآخر: ماذا أتى بك إلى هنا يا فلان، فلا يملك إلا أنْ يقول: جئتُ لزيارة خالتي المريضة، والآخر يقول جئت لكذا وكذا!! لكن هيهات فحالُه يُغني عن مقاله.
لذلك تأمل قول الشاعر في هذه المسألة:

انْظُروهُمْ وقَدْ تَسَلَّل كُلٌّ بَعْدمَا انفَضَّ مجلِسُ السُّمَّارِ
اخْتِلاساً يَسْعَى لحجرةِ طه لِسَماعِ التنزيل في الأسْحَارِ
اعذروهم حسنه فَلمَّا تَراءَوْا علَّلوها ببَارِدِ الأعْذَارِ

لذلك كان الواحد منهم حينما يسمع القرآن من رسول الله ويعود إلى قومه، فيقولون: لقد رجع فلان بغير الوجه الذي ذهب به.