التفاسير

< >
عرض

سُبْحَانَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ ٱلأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ
٣٦
-يس

خواطر محمد متولي الشعراوي

كلمة { سُبْحَانَ } [يس: 36] تعني: التنزيه المطلق لواجب الوجود الأعلى عن أنْ تحكمه قوانين الموجود نفسه؛ لذلك تُقال في كل أمر عجيب كما في قصة الإسراء والمعراج، فقد استهلَّ القرآنُ سورة الإسراء بقوله تعالى { { سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ } [الإسراء: 1] فالإسراء بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس، ثم الصعود به إلى السماء السابعة في جزء في الليل يُعَدُّ أمراً عجيباً، وينبغي ألاَّ نقيسَ هذا الفعل على قوتنا نحن، بل على قوة الفاعل؛ لأن الفعل يجب أنْ يُقارن بقوة فاعله قوةً وضعفاً.
وسبق أنْ قُلْنا لتوضيح هذه المسألة: إنني لو قلتُ: صعدتُ بابني الصغير قمة افرست مثلاً، أتقول لي: كيف صعد ولدك الصغير قمة افرست؟
فالحق سبحانه في قوله
{ { سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ } [الإسراء: 1] يقول لنا: لا تتعجبوا من هذه المسألة؛ لأن محمداً لم يَقُل سريتُ، إنما قال: أُسْرِي بي، فأنا الذي أسريت به وأنا مُنَزَّه عن الزمان، ومُنزه عن المكان وعن القوة، وإذا كان كل فعل يُقاس زمنه بقوة فاعله فَقِسِ الزمن على الفاعل الأعلى سبحانه، وعندها ستجد لا زمن.
وقلنا: إنك حين تذهب إلى الإسكندرية مثلاً ماشياً تستغرق عدة أيام، أمّا بالسيارة فتستغرق عدة ساعات، وبالطائرة عدة دقائق، وبالصاروخ ثواني، إذن: كلما زادت القوة قَلَّ الزمن، وعلى هذا قِس الإسراء والمعراج.
لذلك تجد أن هذه الكلمة
{ { سُبْحَانَ } [الإسراء: 1] لا تُقَال ولم تُقَل من قبل إلا لله تعالى، مع كثرة الجبابرة في الأرض، ومع وجود مَنِ ادعى الألوهية، ومَن قال: أنا ربكم الأعلى ومع ذلك لم تُقَلْ إلا لله؛ لذلك نقول في ذكر الله: سبحانك ولا تُقال إلا لك، لماذا؟ لأنها تعني التنزيه المطلق، وهو لا يكون إلا لله.
وكلمة (سبحان) مصدر يعني: لله سبحان أي تنزيه قبل أن يوجد مَنْ ينزهه، فهو مُنزَّه في ذاته قبل أنْ يوجد مَنْ يقول سبحان الله، كما أنه تعالى خالق قبل أنْ يخلق، ورازق قبل أنْ يرزق أحداً، فالصفة موجودة فيه سبحانه قبل أنْ يُوجد لها متعلق، كما تقول: فلان شاعر، أهو شاعر لأنه قال قصيدة رائعة، أم هو شاعر قبل أنْ يقولها؟ نعم هو شاعر قبل أن يقول القصيدة، ولولا موهبة الشعر عنده ما قالها.
إذن: فصفات الكمال كلها موجودة لله تعالى قبل أنْ يوجد لها متعلق؛ لأن هذه الصفات هي التي أوجدتْ متعلقها.
وكما ذكر القرآن كلمة المصدر (سبحان) ذكر المشتق منها من الماضي، فقال سبحانه:
{ { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } [الحشر: 1].
وذكر المضارع في قوله تعالى:
{ { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } [الجمعة: 1].
إذن: الحق سبحانه مُسبَّح قبل أنْ يخلق الخَلْق، ثم لما خلق الخَلْق سبحتْ له كلُّ المخلوقات، وما زالت تُسبِّح وستظل تُسبِّح، فما دام الكون كله مُسبِّحاً فلا تخرج أنت عن هذه المنظومة، وسبِّح معها:
{ { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ } [الأعلى: 1].
والتنزيه المطلق للحق سبحانه له مقامات ثلاثة:
الأول: أنْ تُنزِّه ذاته سبحانه عن كل الذوات.
الثاني: أنْ تُنزه صفاته سبحانه عن كل الصفات، فأنت تُوصف بالغِنى، لكن غناك ليس كغِنَى الحق سبحانه، أنت موجود والله موجود، فهل وجودك كوجوده سبحانه؟ .. الخ.
ثم الثالث: أنْ تنزه فعله سبحانه أنْ يشبه الأفعال، فإذا قيل: الله فعل كذا. إياك أن تقيس فعْله تعالى بفعلك؛ لذلك قلنا في
{ { سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ.. } [الإسراء: 1] قِسْها على قوة الفاعل سبحانه، لا على قوتك أنت.
الحق سبحانه حينما يأتي بشيء يعلمه المخاطبون الأولون لا يغلق خزائن فضله، إنما يترك لنا رصيداً احتياطياً لكل ما يجد بعد ذلك نتيجة التطور والتزاوج في قوله سبحانه: { سُبْحَانَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ ٱلأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } [يس: 36]، فقوله تعالى: { وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } [يس: 36].
فهو غير معلوم للمخاطبين أولاً، لكن سيُعلم فيما بعد، وأبرز آيات القرآن التي أشارت إلى هذه المسألة قوله سبحانه:
{ { وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [النحل: 8].
فجاء قوله تعالى:
{ { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [النحل: 8] رصيداً احتياطياً لما استجدَّ بعد ذلك من وسائل النقل والمواصلات، كالسيارات والطائرات والصواريخ .. الخ.
فإنْ قلتَ: فلماذا جاءت هذه الأشياء المتسجدَّة على سبيل الإجمال؟ نقول: لأن العقل لم يكُن مستعداً لأنْ يقبلها ساعة الخطاب، وهو لم يَرَ شيئاً من هذا، لكن حين يوجد الشيء يراه صراحة، فقال سبحانه على سبيل الإجمال
{ { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [النحل: 8] لأن كل يوم سيأتي لنا بجديد وبعجائب لم نَرَها من قبل، وآخر ما شاهدناهُ من ذلك الصواريخ، ومَنْ يدريك لعلنا نرى عن قريب ما هو أعجب منها، وعندها سنُدخِل كل هذه الأشياء تحت { { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [النحل: 8].
كذلك هنا في قوله تعالى { وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } [يس: 36] فنحن نعلم الأزواج في { مِمَّا تُنبِتُ ٱلأَرْضُ } [يس: 36] وشاهدناها مثلاً في تلقيح النخيل وغيره من المزروعات، ونعرف منها الذكر والأنثى في النخيل وفي الجميز مثلاً، لكن هناك مزروعات أخرى لا نعرف فيها الذكر من الأنثى، وهذه الأنواع تُلقِّحها الرياح بقدرة الله كما قال سبحانه:
{ { وَأَرْسَلْنَا ٱلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ } [الحجر: 22].
وفي بعض المزروعات جعل الخالق سبحانه الذكورة والأنوثة في العود الواحد، وغالب الظن أنها في المزروعات الضرورية للأقوات كالذرة والقمح، فليس فيهما عود ذكر وأخر أنثى، إنما في العود الواحد كعود الذرة مثلاً نجد في أعلى العود سنبلة تحمل حبَّات لقاح الذكورة وتحتها كوز الذرة الذي تخرج منه شعيرات تمثل الأنوثة وتتلقى حبات اللقاح التي تبعثرها الرياح من أعلى.
لذلك إذا لم تخرج هذه الشعيرات وتبرز من الكوز (يدكَّر) كما يقول الفلاحون يعني: لا يُخرج كوزاً، ولا تتكوَّن بداخله حبَّات الذرة، لماذا؟ لأنه لم يتلقَّ حبات الذكورة.
لذلك من العجائب أنك تجد حبات الذرة في أسفل الكوز أكبر مما يليها إلى أعلى وبالتدريج؛ لأن كل شعيرة من الشعيرات متصلة بحبة من حبات الكوز، وتمثل هذه الشعيرة القناةَ التي تنقل اللقاح إلى الحبة، لكن الشعيرات التي تنزل إلى أسفل الكوز تخرج منه قصيرةً متفرقة، مما يتيح لها أن تتلقى أكبر كمية من اللقاح على خلاف الشعيرات الأعلى، فإنها تكون طويلة متراكمة بعضها على بعض؛ لذلك لا تأخذ كفايتها من اللقاح، فتكون حبَّاتها أقلَّ حجماً، إلى أنْ تضمر في أعلى الكوز وتتلاشى.
ونحن جميعاً نشاهد صِدْق قوله تعالى
{ { وَأَرْسَلْنَا ٱلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ } [الحجر: 22] حين ننظر مثلاً إلى الجبال وهي جرداء قاحلة، فإذا نزل عليها المطر اخضرَّتْ، فمَنْ بذر فيها هذه البذور؟
والحق سبحانه وتعالى في قوله { سُبْحَانَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ ٱلأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } [يس: 36] إنما يُطمئننا على امتداد النعمة وامتداد المنعَم عليه، فبالتزاوج يبقى النوع ويتكاثر، والزوجية موجودة في كل شيء، وكلمة زوج لا تعني اثنين كما يظن البعض، إنما الزوج يعني: الشيء الواحد لكن معه مثله، فنحن لا نقول للحذاء مثلاً زوج يعني اليمين والشمال، إنما نقول زوجين، ومثلها كلمة توأم، فكل واحد منهما يقال له: توأم وهما توأمان.
والزوجية موجودة في كل شيء في الوجود، كما قال سبحانه في آية أخرى:
{ { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } [الذاريات: 49].
وإذا نظرتَ إلى هذا الوجود كله بعين العلم الفاحصة المجرِّبة المدقِّقة لوجدتَ كل شيء في الوجود زوجين لاستدامة الصنف، بعض هذه الأشياء ندري مسألة الزوجية فيها، وبعضها لا ندري به، وما دام الزوجان يجتمعان للتكاثر فلا بُدَّ من تلقيح أحدهما بالآخر، فما الذي يدلّنا على ميعاد هذا التكاثر؟
قالوا: الشيء الذي لا دَخْلَ للإنسان فيه فالله يعلم ميعاده، ويجعلها تتكاثر كُلٌّ بما يناسبه، لكن المشكلة عندك أنتَ أيها الإنسان، ولو كانت عندك مقاييس دقيقة في الذات لعلمتَ أن هناك تغيُّرات كيماوية في جسمك تحتاج منك إلى دِقَّة ملاحظة، هذه التغيرات هي التي تدلُّك على ميعاد التكاثر.
والآن اخترعوا ساعة تضعها المرأة بعد الحيض، وتلاحظ منها درجة حرارتها، فإذا ارتفعت عن 37 فهذا يعني وجود تغيُّر كيماوي في الجسم، يدل على نزول البويضة؛ لذلك نرى كثيرين من الأزواج تتأخر عندهم عملية الإنجاب، لأن المرأة ليست لديها دِقَّة الملاحظة التي تعرف منها وقت التبويض الذي يُؤدي إلى الإنجاب.
وذكر الحق سبحانه الزوجية في { مِمَّا تُنبِتُ ٱلأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } [يس: 36] ولم يذكر الحيوان، لماذا؟ لأنه سبحانه ذكر الأعلى، وهو الإنسان الحيوان الناطق، فالآخر مِثْله وتابعٌ له.
ومعنى { وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } [يس: 36] أن في الكون أشياء كثيرة لا نعلم وجه الزوجية فيها، وقد نعلمها مستقبلاً مع تَقدُّم العلوم التجريبية، كما حدث مثلاً في الكهرباء، وعرفنا أنها سالب وموجب، ولا نستفيد بالكهرباء إلا إذا التقى السالب بالموجب، أما إنِ التقى سالبٌ بسالب أو موجبٌ بموجب، فالنتيجة تكون عكسية، والسالب والمُوجب هنا نوع من أنواع الزوجية، كذلك الحال في الذرَّة وغيرها مما اكتشفه العلم الحديث.
إذن: فكلمة { وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } [يس: 36] لها مدلولات وقعتْ، أخبر الله عنها قبل أنْ نكتشفها لنعلم أن الغيب الذي يخبرنا الله به يأتي كمقدمة لغيب آخر سنعرفه في المستقبل، وكأن الحق سبحانه يلفت أنظارنا: كما صدَّق الواقع ما أخبرتُ به من الغيب، فصدِّقوا ما أخبرتُكم به من غيب الآخرة.
بعد أن تكلَّم الحق سبحانه عن المكان وهو الأرض تكلَّم عن الزمان؛ لأن الإنسان يعيش بالأحداث، والحدث يحتاج إلى زمان وإلى مكان، فبعد أن حدَّثنا الحق سبحانه عن الأرض وما عليها وهي المكان، يُحدِّثنا عن الزمان، فقال سبحانه:
{ وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلَّيلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ ... }.