التفاسير

< >
عرض

إِنَّ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ ٱليَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ
٥٥
هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى ٱلأَرَآئِكِ مُتَّكِئُونَ
٥٦
لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ
٥٧
سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ
٥٨
-يس

خواطر محمد متولي الشعراوي

قوله تعالى: { إِنَّ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ } [يس: 55] الصاحب هو المنتقَى والمختار من جنسك لتصاحبه ولا تفارقه، فكأن الجنة أُخْرِجت مخرج العقلاء الذين يُصاحِبون ويُصَاحَبون، ذلك لأن الجنة كانت في بالهم وفي أذهانهم، فهم متعلقون بها وهي شُغُلهم الشاغل، فَلَهُم صحبة بالجنة، وللجنة صحبة بهم، فكلما أقدموا على خير تذكَّروا الجنة فرغبوا فيه، وكلما أقدموا على شر تذكروا النار فانصرفوا عنه. أو: أن الصاحب هو المالك للشيء، فكأن الجنة مِلْك لهم، ملكوها وحازوا مفاتيحها بما قدَّموا من العمل الصالح.
ومعنى { ٱليَوْمَ } أي: يوم القيامة { فِي شُغُلٍ } [يس: 55] أي: نعيم يشغلهم عن أيِّ شيء آخر أو: في شُغُل عن معارفهم وأقاربهم الذين دخلوا النار والعياذ بالله، كما قال سبحانه:
{ { وَٱخْشَوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً } [لقمان: 33] فهم في نعيم يشغلهم عن كل هؤلاء، فكأنهم لا يعرفونهم.
{ فَاكِهُونَ } يقال: فَاكِه وفَكِه يعني: متلذذ ومُتنعِّم. ومنها: الفاكهة، فهي ليست من الضروريات إنما من التفكُّه والتلذذ.
وقوله سبحانه: { هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى ٱلأَرَآئِكِ مُتَّكِئُونَ } [يس: 56] أذكر أنني لما قرأتُ هذه الآية على الإخوان ضرب واحد منهم على صدره - وكان شيخاً وقوراً - ضرب على صدره بعنف وانفعال، وقال: (يا خرابي، يعني فلانة هتجيلي تاني) لأنه رأى في زوجته ما يُنفِّره منها، فتعجب أنها ستصاحبه حتى في الآخرة وفي الجنة، فقلنا له: يا شيخ أنت تكره في زوجتك أشياء لكن لها مع الله أعمال طيبة، تجعلها أهلاً للجنة، فعملها الطيب مع الله يلغي عملها السيىء معك.
وربما كنتَ أنت حادّ المزاج، أو طماعاً وعينُك زائغة؛ لأن الله تعالى قال في الحياة الزوجية:
{ { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوۤاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } [الروم: 21].
فالحياة الزوجية في بدايتها سَكَن، حيث يسكن كلٌّ منهما إلى الآخر ويرتاح في حضنه، ثم إذا تغيَّرتْ الأوضاع وَزَهد أحدهما في الآخر أو ظهر منه ما يُنفِّر كانت المودة، فإذا ما أصابهما الكِبَر والعجز فليرحم كل منهما عَجْز الآخر، بما جعله الله بينهما من صفة الرحمة، فالحياة الزوجية في هذه الحالة معيشة تراحم قبل كل شيء.
ثم إن هذه الزوجة التي تنقم منها بعض الصفات، وتنفر من تصرفاتها لن تأتي في الآخرة على هذه الصورة التي تكرهها، إنما ستأتي على صورة جديدة كما قال سبحانه:
{ { وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } [آل عمران: 15] فالله سيطهرها مما كنتَ تأخذه عليها.
ومعنى: { فِي ظِلاَلٍ } [يس: 56] أي: لا شمسَ هناك، ولا حَرَّ يؤذيهم، والظل معروف ألِفه المكلَّفون في الدنيا، وإليه يفيئون في حَرِّ الشمس، فهو أمر مألوف لهم، أما في الآخرة فهي ظلال يُمتَّعون فيها، أو في ظل الله كما ورد في الحديث الشريف:
"سبعة يُظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.." .
والأرائك: جمع أريكة، وهي السرير الذي له حَجَلة (النموسية) أو: هي الوسادة التي يُتكأ عليها.
ومعنى { مُتَّكِئُونَ } [يس: 56] الاتكاء حالة وهيئة للإنسان، فهو: إمَّا قائم، أو قاعد، أو متكئ، والاتكاء أَمتع هذه الحالات؛ لأن القائم قائم لعمل، والقاعد يقعد لِهَمٍّ يفكُر فيه، فلا هو قادر على القيام للعمل، ولا هو قادر على الاتكاء للراحة، فقوله سبحانه { مُتَّكِئُونَ } [يس: 56] يعني: تمام الراحة لهم.
ثم يقول سبحانه: { لَهُمْ فِيهَا } [يس: 57] أي: في الجنة { فَاكِهَةٌ } [يس: 57] الفاكهة من التفكُّه والتلذذ، وعرفنا أن الطعام يأكله الإنسان إما للاقتيات وهو الضروريات، وإما فاكهة للتلذُّذ والتنعُّم، وهنا يذكر الحق سبحانه الفاكهة فحسب؛ لأننا لا نأكل في الجنة إلا تفكُّهاً وتنعُّماً، لا عن حاجة أو جوع.
{ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ } [يس: 57] أي: ما يدعون به وما يخطر ببالهم، فيجدوه بين أيديهم، وقال بعضهم (مَا يدَّعُون) يعني: لا يدخر الله لهم دعوة؛ لأنه سبحانه يعطيهم قبل أن يدعوا.
وبعد ذلك يتكلم الحق - سبحانه وتعالى - عن معنى كان يريده لخَلْقه في الدنيا نتيجة للسير على منهجه وصراطه المستقيم، فيقول سبحانه: { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [يس: 58] فثمرة الإسلام أنْ يُسْلِموا زمامهم جميعاً إلى يد خالقهم، وأن يكونوا إخوة عابدين لمعبود واحد، وأن يعيشوا معاً في أمن واطمئنان وسلام.
إذن: فالأمن والسلام هما الغاية من منهج الله، وهما تمام النعمة، وإلا فلو نعِم الإنسانُ بكل ألوان النعيم وفقد نعمة الأمن والسلام لنغَّصَتْ عليه كل النعم، وما هنئ بعيش ولا تمتُّع بلذة؛ لذلك امتن الله تعالى على قريش فقال:
{ { ٱلَّذِيۤ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [قريش: 4].
السلام يكون منك حين تُقبل على آخر فتقول: السلام عليكم يعني: أنا مقبل عليك بسلام، فيردُّ عليك: وعليكم السلام، والمعنى: لا أنت تؤذينا، ولا نحن نؤذيك، وكُلٌّ يعطَى من السلام على قدر إمكاناته، فإذا كان السلام من الله، فهو السلام المطلق، السلام الذي يحميك من كل جوانبك، فلا ينفذ إليك شيء يضرُّك.
ومعنى: { سَلاَمٌ قَوْلاً } [يس: 58] يعني: الله تعالى هو قائله ليس مناولةً عن طريق الملائكة مثلاً، فيقول لهم: سلِّموا على فلان، فالمعنى: سلام حالة كونه قَوْلاً من رب رحيم، وليس بلاغاً عن الله من أحد، واختار هنا لفظ الربوبية التي تقتضي أن المربِّي يحب المربَّى، فما بالك إذا وصفتَ الربوبية بالرحمة { مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [يس: 58]
وبعد أنْ حدَّثنا الحق سبحانه عن المؤمنين، وما ينتظرهم من النعيم يُحدِّثنا عن المجرمين:
{ وَٱمْتَازُواْ ٱلْيَوْمَ أَيُّهَا ... }.