التفاسير

< >
عرض

لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ
٧
-يس

خواطر محمد متولي الشعراوي

الحق سبحانه وتعالى سطَّر أزلاً كلَّ ما يكون من مُسْتقبِلي أيِّ دعوة دينية المؤمنين بها والكافرين، لكنه سبحانه ترك للناس الاختيار، وكَوْنه تعالى يسجل ما سيحدث من الناس، ثم يأتي الحدث منهم وفْق ما سجَّل، هذا يعني أن ما قاله قديماً حقٌّ.
والقرآن يقول مرة { حَقَّ ٱلْقَوْلُ } [يس: 7]، ومرة
{ { سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ } [هود: 40]، ومرة { { وَقَعَ ٱلْقَوْلُ } [النمل: 82].
وكلها تدل على أن ما سبق في علم الله من الإخبار عن مختار اختار الهدى أو الضلال مُسجَّل عنده تعالى، وهو حق كما أخبر الله به، ولو كان العبد غير مختار لَقُلْنا: إن الله قهره على ما أراد، لكنه مختار.
والحق سبحانه له طلاقة القدرة وطلاقة العلم، فلعلمه تعالى بما سيكون سجل وكتب، وقد أوضحنا هذه المسألة في كلامنا عن أبي لهب:
{ { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } [المسد: 1] فقد كان بوسع أبي لهب حين سمع هذه الآية أنْ ينطق بكلمة الإيمان ولو نفاقاً، وله إذن أنْ يتهم القرآن وأنْ يُكذِّبه، لكنه لم يفعل وظَلَّ على كفره حتى صَدَق فيه إخبار الله مع أنه مختار.
كذلك في قوله تعالى:
{ { وَيَقُولُونَ فِيۤ أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُ } [المجادلة: 8] وعجيب منهم بعد أنْ فضحهم القرآن، وأخبرهم بما يدور في نفوسهم ألاَّ يؤمنوا به، وألاَّ يسألوا أنفسهم مَنِ الذي أخبر محمداً بما في نفوسنا، ولو لم يكُنْ منهم هذا القول في أنفسهم بالفعل لواجهوا محمداً، ولقالوا: لم يحدث منا هذا.
لذلك الذين أنكروا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم مع إخباره بمغيبات لا تقع عليها عقول البشر أنكروا رسالته، ولكنهم أرادوا أن يُثبتوا له فوق الرسالة أنه إله يخبر بالشيء قبل حدوثه، فهو صلى الله عليه وسلم يقول لهم: أنا رسول وهم يريدونه إلهاً.
القول السابق وقع على هؤلاء؛ لأنهم لا يؤمنون، ولأنهم يكذبون ويعاندون { لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } [يس: 7] لذلك يقولون: إن للملائكة تعجباً، قالوا: وما تعجُّب الملائكة. قالوا: ساعة تقع في كون الله حركةٌ يجدون خبرها عندهم في الكتاب، فيقولون: ما أعلم ربنا وأقدره، يعني: ما أخبر الله به، وقع كما أخبر تماماً، مع أن العباد لهم حرية الاختيار.
ولما حاول الفلاسفة عَرْض هذه المسألة: { لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } [يس: 7] قالوا: الحق سبحانه وتعالى حين ترك الأمر للمكلَّف بالاختيار؛ لأن الإنسان نفسه قَبِل أنْ يكون مختاراً لم يلزمه الله بشيء، على خلاف السماوات والأرض والجبال، فقد رفضتْ هذا الاختيار، واخترت أن تكون مُسخَّرة لله، مقهورة لإرادته سبحانه.
يقول تعالى:
{ { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [الأحزاب: 72].
إذن: الحق سبحانه خَيّر الجميع فأبت السماوات والأرض والجبال، أما الإنسان فقد اغترَّ بعقله وذكائه وتصرفه في الأمور، فَقَبِل الاختيار، فحكم الله عليه بأنه ظلوم وجهول، ظلوم لأنه ظلم نفسه بتحمُّل الأمانة، وجهول لأنه ضمن وقت التحمل، ولم يَضمن وقت الأداء، فالعاقل هو الذي ينظر إلى وقت أداء الأمانة، لا إلى وقت تحمُّلها.
فلو جاءك صديق يُودِع لديك مبلغاً من المال كأمانة لحين الحاجة إليه، فمن السهل أنْ تقبل هذا المبلغ وفي نيتك أداؤه عندما يطلبه صاحبه، لكنك لا تضمن أنْ تتغير ظروفك فتحتاج إليه، أو تتغير ذمتك، أو غير ذلك مما يطرأ على الإنسان.
إذن: فجهل الإنسان هنا أنه أغفل وقت الأداء، وظُلْمه لنفسه أنه جَرَّ عليها مَا لا تقدر عليه؛ لأن شهوات نفسه لا بُدَّ أن تُلح عليه، ولا بُدَّ أنْ تُوقِعه في المخالفة.
قالوا: إن العالم كله محكوم بأمرين: بمشهود، وغيب، ومن عجيب الأمر أن المشهود هو الدليل على الغيب، يعني خُذْ مما تراه دليلاً على ما لا تراه؛ لذلك حين نريد أنْ نربي في الناس الإيمانَ بالله نلفت أنظارهم إلى ملكوت السماوات والأرض:
{ { وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلَّيلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [فصلت: 37]. { { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى ٱلأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ ٱلَّذِيۤ أَحْيَاهَا لَمُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [فصلت: 39].
وبعد أنْ تتأمل في ملكوت الله وآياته في كونه فتؤمن به يعطيك قضايا أخرى لا يتسع لها عقلك، لماذا؟ لأنه سبحانه يريد للإيمان به عنصرين: أنْ تؤمن بالمشهد، وأن تسلم إذا آمنت بالمشهد على وجود حق، وهو الحق واجب الوجود، فتسمع منه سبحانه، فإنْ أخبرك بشيء لم يتسع له عقلك فاقبله من باطن الإيمان به.
فإنْ قال لك إن الصراط مثلاً أدقُّ من الشعرة، وأحدُّ من السيف فلا تنكر، وإنْ كان عقلك لا يتسع لإدراكها، لأن الذي قالها الله المشرع. فأنت أخذتَ من المشهد دليل الغيب وهو الله، وأخذتَ من دليل الغيب وهو الله إيمانك بأشياء لا يعقلها عقلك، فكأن المشهد والغيب عليهما مَدار الإيمان وغيره.
فمطلوبات التديُّن إما مطلوبات من القلب، أو مطلوبات من الجوارح، أو مطلوبات من اللسان. فالقلب مطلوب منه العقيدة بأنْ يؤمن بواجب الوجود، وأنه واحد، وأن يؤمن بأنه لا بُدَّ أن يبلغني منهج حياتي؛ لأنه هو الذي خلقني وأنا صنعته، والصانع هو الذي يحدد قانون الصيانة لما صنع، وقانون الصيانة لا يكون إلا بالبلاغ.
والحق سبحانه لا يكلم الخلْق واحداً واحداً، إنما يصطفي لهذه المهمة - مهمة البلاغ عنه سبحانه - مَنْ يشاء من الملائكة ومن البشر، فالمصطفى من الملائكة يبلغ المصطفى من البشر، والمصطفى من البشر يبلغ بقية الناس؛ لذلك ربَّى النبي صلى الله عليه وسلم الأمة الإسلامية في ثلاث وعشرين سنة، ولو أن كل واحد انتظر أنْ يكلمه الله مباشرة لاستغرقتْ تربية الأمة أكثر من ذلك بكثير.
إذن: البلاغ عن الله ضرورة من ضرورات وجود الله، وإلا إذا كان الله موجوداً فأنت لا تعرف أنه سبحانه واحد، أو أن له شريكاً، أنت بنفسك لا تعرف هذه المسألة، لا بُدَّ من رسول يخبرك: عن الله، عن اسمه، وعن صفاته، وعن مراده منك.
لذلك الذين يعبدون الشمس أو القمر أو الشجر أو الحجر أبلغ رد عليهم أنْ نقول لهم أولاً: ما هي العبادة؟ العبادة طاعة العابد لمعبوده في أمره ونَهْيه، فنقول: ماذا قالتْ لكم الشمس؟ بِمَ أمرتكم؟ وعن أيِّ شيء نهتْكم؟ ماذا أعدَّت لمن عبدها؟ وماذا أعدَّتْ لمَنْ عصاها؟ إذن: هذه آلهة بلا منهج وبلا تكاليف، فهي إذن باطلة مردودة.
وسبق أنْ أوضحنا هذه المسألة بمثال، قُلْنا: لو أن طارقاً طرق علينا الباب، لا بُدَّ أننا جميعاً سنلتقي في فكرة واحدة، هي أن طارقاً بالباب يريد الدخول، إنما لا أحد منا يعرف مَنْ هو؟ ولا لماذا أتى؟ ولا من أين، أهو بشير أم نذير؟ هذه أمور لا بد أننا سنختلف فيها.
إذن: علينا أن نقف عند الحد الذي نتفق عليه، وهو أن طارقاً بالباب، ونترك لهذا الطارق أن يُعبِّر هو عن نفسه، فنقول: مَنْ أنت؟ فيقول: أنا فلان جئت لكذا وكذا. كذلك الحق سبحانه يكفي أنْ تستدل من صُنْع الكون العجيب أن له صانعاً عالماً قادراً حكيماً، له كل صفات الكمال، لكن مَنْ هو؟ وما مراده منك؟ هذه مهمة الرسول المبلِّغ عن الله.
لذلك، فإن خيبة الفلاسفة أنهم لم يقفوا عند تعقُّل واجب الوجود سبحانه، بل أرادوا أنْ يتصوروا واجب الوجود، هذا هو خطؤهم، ولو وقفوا عند التعقُّل لكان كافياً، ثم تقول لمن تعقلته: من أنت؟ وماذا تريد مني؟ ماذا أعددتَ لي إنْ أطعتُك؟ وماذا تفعل بي إنْ عصيتُك؟ وعندها يرسل لك رسولاً يجيبك على كل هذه الأسئلة.
هذا هو مطلوب التديُّن القلبي، وهو الاعتقاد بوجود إله واجب الوجود، واحد أحد، وأنه يرسل الرسول ليبلغ عنه، وهذا الرسول صادق في البلاغ مُؤيَّد بمعجزة، هذه مسألة عقلية واضحة.
وبعد أنْ آمنتَ بهذه العقلية الواضحة المشهودة يخبرك بأشياء غيبية لا دليلَ عليها، كالإخبار مثلاً عن الجنة وصفاتها، وأنك ستتمتع فيها وتأكل دون أن تتغوط .. إلخ هذه كلها مسائل يقف العقل أمامها، لكن مَنْ أخبرك بها؟ الله الذي صدقك فيما شاهدتَ، وسبق أنْ آمنتَ به ووثقتَ بكلامه.
ثم يأتي دور مطلوبات الجوارح، فالإله الذي آمنتَ به لا بُدَّ أنْ تكون على اتصال دائم به سبحانه؛ لذلك شرع لك الصلوات الخمس، وفيها دوام الولاء لله.
لكن، لماذا جعلها خمس صلوات؟ قالوا: كانت خمسين لتستوعب كل الزمن يعني: خمسين تُوزَّع على أربع وعشرين ساعة، بمعدل صلاة كل نصف ساعة، ومن رحمة الله بنا أنْ جعلها خمساً في العمل، وخمسين في الأجر، ومع ذلك يملّ الناس منها.
وأذكر أننا ونحن في الحرم، كنا نصلي الظهر مثلاً، وسرعان ما يُؤذَّن للعصر، فلا نتمكن من الجلوس في الحرم والتأمل فيه، والنكتة المشهورة في هذا المقام أن الشيخ أحمدرحمه الله كان كثيراً ما يُذكِّر واحداً منا بالصلاة (قوم يا واد صلي). فقال له: يا شيخ أحمد (احنا جايين نحج، مش جايين نصلي).
إذن: نقول جُعِلَتْ الصلاة خمساً لتستوعب كل اليوم والليلة، ولتحقق استدامة الولاء لله تعالى، ثم أنت في الصلاة نفسها تجد هذه ركعتين، وهذه ثلاثاً، وهذه أربعاً دون أنْ يعي عقلُك الحكمة من العدد هنا، ويكفي أن تقول هنا إن الله هو الذي شرعها كذلك وتقف.
ثم أنت لا تعيش في المجتمع بمفردك، بل مع أناس، منهم الضعيف، ومنهم الفقير والمحتاج، وهؤلاء لا بُدَّ أنْ يعيشوا كما تعيش أنت، فعليك أن تُعينهم بالزكاة أو الصدقة.
ثم شرع لك الصيام، وهو عبادة تُعوِّدك ألاَّ تعصي الله وتُبعدك عن المخالفة، حتى تصير الاستقامة عادةً مُتأصِّلة فيك، والله يريد أنْ يستديم في التكاليف حرارة العبادة، لا إِلْفَ العادة؛ لذلك يأتي إلى ما أحلَّه لك في شعبان، ويمنعه عنك في رمضان.
كذلك في اللسان الذاكر الناطق بالكلمات، هناك في القرآن كلام تفهمه، وكلام يقف أمامه عقلك، ففواتح السور مثلاً كلها مما تقف فيه العقول، والباقي مما تتفتَّح فيه العقول وتفهمه؛ لأن هناك فرقاً بين مَنْ يُقبل على الشيء لتعقله، ومَنْ يُقبل على الشيء بدون تعقُّل، ولكن لأن الآمر أمر به.
وسبق أنْ ضربنا مثلاً قُلْنا: هَبْ أن سيداً في بيته وعنده عمال، فقال لواحد منهم: انقل هذا الحجر من مكانه إلى مكان آخر فقال: لا أقدر وحدي، وسوف أستعين بزميل لي، فقال: إن تحته مالاً هو لك، عندها سيكافح وحده لنقْل الحجر، إذن: نقله للعلة أم للأمر؟ للعلة، والإيمان لا يكون كذلك، الإيمان لا يكون لعلة، إنما انصياعاً للأمر.
فالمعنى: { لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ } [يس: 7] يعني: وجب وثبت وجاء كما سجلناه عليهم، وقوله { عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ } [يس: 7] يعني: ليس عليهم جميعاً، وهذا كما قلنا سابقاً احتياط للواقع، وهو دليل على أن منهم مؤمنين، ولو رجلاً واحداً، وهذا الاحتياط من القرآن نسميه "صيانة الاحتمال".
وقوله تعالى: { فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } [يس: 7] إخبار يدل على حيثيات هذا الإخبار.
ثم يقول سبحانه:
{ إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً ... }.