التفاسير

< >
عرض

فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ
٧٦
-يس

خواطر محمد متولي الشعراوي

الحق سبحانه وتعالى يُسلِّي رسوله صلى الله عليه وسلم ويُطيِّب خاطره، والتسلية لا تكون إلا من مُسلٍّ لمسَلَّىً، المسلِّي هو الذي أرسل المسلَّى، فلابد أن يجامله حتى في الشدة، وسنة الله في الرسل جميعاً أن الله ما أرسل رسولاً وخذله أبداً، وما كانت الشدة في رحلة وموكب الرسالات إلا تصفيةً لنفوس المؤمنين، وتمحيصاً لهم، وتصحيحاً للعقيدة، حتى لا يبقى إلا المؤمن الحق الذي يتحمل مسئولية الرسالة والدفاع عنها.
لذلك يقول سبحانه مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: { فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ } [يس: 76] لا تحزن يا محمد، والحزن: أسف النفس على عدم تحقيق ما يتمنى الإنسان وطُروء ما يفسد، فإنْ حَزن رسول الله وانقبضتْ نفسه، فمَنْ يُسلِّيه؟ ومَنْ يُخفِّف عنه؟ يُسلِّيه الذي أرسله؛ لأنه سبحانه يحصي عليهم كل شيء، ويعلم ما يُسِرُّون وما يعلنون.
{ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } [يس: 76].
لكن، ما الذي أسَرَّهُ هؤلاء؟
الذين واجهوا رسول الله كانوا قسمين: قسم واجهه بشجاعة، فأعلن بلسانه ما في قلبه من أنه لا يؤمن به، وهؤلاء هم الكَفَرة، وقسم آمن بلسانه وكتم الكفر في قلبه، وهؤلاء هم المنافقون، فمعنى { مَا يُسِرُّونَ } [يس: 76] أي: من النفاق { وَمَا يُعْلِنُونَ } [يس: 76] من الكفر. أو { مَا يُسِرُّونَ } [يس: 76] من الإيمان الحقيقي بك، وأنك رسول وأمين وصادق { وَمَا يُعْلِنُونَ } [يس: 76] من الكفر، بدليل قوله تعالى:
{ { وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } [النمل: 14].
بدليل أنهم لم يُكذِّبوا القرآن، ولم يعترضوا عليه، إنما اعتراضهم أنْ ينزل على محمد بالذات، لذلك قالوا كما حكى عنهم القرآن:
{ { لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31].
وبدليل أنهم كانوا يأتمنون رسول الله على ودائعهم وأماناتهم، هذا كله دليل على إيمانهم برسول الله، لكنهم مع ذلك أعلنوا كلمة الكفر خوفاً على السلطة الزمنية والمنزلة والسيادة والجبروت، وقد جاء الدين الجديد ليسلِبَ منهم هذا كله، ويُوقف تسلُّطهم على الضعفاء وعلى الفقراء.
إذن: لا بُدَّ أن يصادموا رسول الله، وأن يقفوا في وجه دعوته، بكل قواهم رغم إيمانهم بصدقه في قرارة أنفسهم؛ لذلك كانوا في المدينة يستعدون لتنصيب ملك منهم فلما دخلها رسول الله واجتمع الناس عليه انفضَّتْ مملكتهم، وزالتْ قبل أن تُولد، ذهبت السلطات الزمنية التي كانت للكفار كما ذهبت السلطة من أيدي اليهود، وكانوا أهلَ العلم وأهلَ المال وأهلَ القتال، ذهب كل هذا يوم عَلَتْ كلمة الإسلام.
أو: يُرادُ بما يُسِرُّون وما يعلنون أن عمل الإنسان حصيلة أمرين: شيء أو حاجة تختمر في النفس تُعَدُّ سِرّاً وعقيدة تدفعه إلى العمل فإنْ ترجمَتْ إلى عمل وبرزتْ للوجود صارتْ علانية، وعليه يكون المعنى: نعلم ما يُسِرُّون من عقائدهم الفاسدة، وما يعلنون من فِعْل القبائح.
لكن أيمتنُّ الله بعلم الشيء دون فائدة من وراء هذا العلم؟ المسألة لا تنتهي بمجرد العلم، إنما لا بُدَّ أنْ يترتب على هذا العلم جزاءٌ يعاقب الكافر العاصي، ويُثيب المؤمن المطيع، إذن: تدبَّروا أمركم، واحذروا ما يترتب على هذا العلم من آثار؛ لأن علم الله ليس (فنطزية) علم ومعرفة.
لذلك قال تعالى في الآية الأخرى:
{ { وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ ٱلْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً } [يونس: 65] البعض فهم أن كلمة { { إِنَّ ٱلْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً } [يونس: 65] هي قول الكافرين، لكن كيف يقولها الكافر، ليتهم قالوا إنما قالها الله تذييلاً لقوله: { { وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ } [يونس: 65] لماذا؟ لأن العزة لله جميعاً.
بعد أن تكلم الحق سبحانه عن آياته في الآفاق في الأرض وفي الشمس والقمر والفُلْك والدواب والأنعام يتكلم سبحانه عن آياته في النفس الإنسانية، فإذا كانت الآيات في الآفاق من حولهم لم تلفتهم إلى الله، فهذه هي آياته في ذات أنفسهم التي لا تفارقهم:
{ أَوَلَمْ يَرَ ٱلإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ ... }.