التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَارُونَ
١١٤
وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ ٱلْكَرْبِ ٱلْعَظِيمِ
١١٥
وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُواْ هُمُ ٱلْغَٰلِبِينَ
١١٦
وَآتَيْنَاهُمَا ٱلْكِتَابَ ٱلْمُسْتَبِينَ
١١٧
وَهَدَيْنَاهُمَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ
١١٨
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي ٱلآخِرِينَ
١١٩
سَلاَمٌ عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَارُونَ
١٢٠
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ
١٢١
إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٢٢
-الصافات

خواطر محمد متولي الشعراوي

هذا موكب أُولِي العزم من الرسل، فبعد أنْ حدَّثنا القرآنُ عن سيدنا إبراهيم، يحدثنا عن سيدنا موسى { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَارُونَ } [الصافات: 114] منَّ الله على موسى وهارون مِنَّةَ عطاء، بأنْ جعلهما رسولين إلى بني إسرائيل، ومنةَ نَصْر بأنْ نصرهما على فرعون وجنوده { وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ ٱلْكَرْبِ ٱلْعَظِيمِ } [الصافات: 115] والمراد فرعون، ووصفه الله بالكرب العظيم، لأن فرعون لم يكُنْ رجلاً متسلطاً على الناس كملك، إنما متسلط عليهم كإله، وقد أراد الكيد بموسى عليه السلام، وأراد الكيد لقومه في مصر، حيث أخذ منهم الخدم والفعلة والسحرة.
وكلمة فرعون تُطلق على ملوك مصر القدماء، فكل واحد منهم يسمى (فرعون)، لكن في سورة يوسف سُمِّي حاكم مصر العزيز والملك ولم يقُلْ فرعون، لماذا؟ قالوا: لأنه بعد أنْ فُكَّ حجر رشيد علمنا أن الهكسوس حينما أغاروا على مصر كانوا ملوكاً في مصر لا فراعنة، فلما عاد الأمر إلى فرعون كان بنو إسرائيل في خدمة الفرعون بسبب وقوفهم إلى جوار المحتلين الهكسوس، فاضطهدهم الفرعون وأعوانه.
فمعنى { وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ ٱلْكَرْبِ ٱلْعَظِيمِ } [الصافات: 115] أي: من فرعون ومن الاستعباد، حيث خرج بهم موسى - عليه السلام - فأدركه فرعون بجنوده حتى حاصرهم عند البحر، فكأن البحر من أمامهم، وجيش فرعون من خلفهم.
وما أشبه هذا الموقف بموقف طارق بن زياد في فتح الأندلس، حين قال لجنوده: إن البحر من أمامكم، والعدو من ورائكم.
وعندها أيقن بنو إسرائيل أن فرعون سيلحق بهم ويدركهم فقالوا لموسى عليه السلام:
{ { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } [الشعراء: 61] لأن شواهد الواقع تدل على ذلك؛ فهم لا محالة مُدْركون بقوانين البشر، لكِنْ لموسى مع ربه قانونٌ آخرُ، جعل موسى عليه السلام يقول بملء فيه (كلا) كلا لن نُدْرَكَ، قالها بما لديه من ثقة بربه، وبما لديه من الرصيد الإيماني: { { قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [الشعراء: 62] وفعلاً، جاءه الفرج لِتوِّه، وأمره ربه أنْ يضرب بعصاه البحر، وكان ما تعلمون من القصة.
ثم يقول سبحانه { وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُواْ هُمُ ٱلْغَٰلِبِينَ } [الصافات: 116] نعم، وأيّ غَلَبة؟ لأن هناك فرقاً بين أنْ تغلبَ عدوك ويظل المغلوبُ حياً يُرزَق، وبين أنْ تغلبه غلبة تُبيده من الوجود، والذي حدث في قصة موسى وفرعون أن الله قضى على فرعون وجنوده قضاءً مُبْرماً.
ثم { وَآتَيْنَاهُمَا ٱلْكِتَابَ ٱلْمُسْتَبِينَ } [الصافات: 117] المستبين الذي بلغ النهاية في البيان، والمراد بالكتاب التوراة، وقد وصف الحق سبحانه وتعالى - التوراة في موضع آخر، فقال:
{ { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ ٱلْفُرْقَانَ وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ } [الأنبياء: 48].
وقوله تعالى: { وَهَدَيْنَاهُمَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [الصافات: 118] أي: المنهج القويم الموصِّل إلى الله من أقرب طريق { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي ٱلآخِرِينَ * سَلاَمٌ عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَارُونَ } [الصافات: 119-120] يعني تركنا لهما الذكْر الحسن فيمَنْ يأتي مِنْ بعدهم، فكلُّ مَنْ يسمع قصة موسى وهارون ومواقفهما وثباتهما في الحق يقول سلام عليهما { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ } [الصافات: 121] أي: موسى وهارون.
ومعلوم أن هارون جاء بطلب من موسى لما قال لربه:
{ { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّيۤ أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ } [القصص: 34] فاستجاب الله لطلب موسى وأيَّده بأخيه هارون، وجعلهما معاً رسولاً واحداً إلى بني إسرائيل.
والقرآن يُبيِّن لنا هذه المسألة، وأنهما كانا كرسول واحد في قوله تعالى:
{ { وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا ٱطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَٱشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ } [يونس: 88].
فيردّ الحق سبحانه:
{ { قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا } [يونس: 89]، مع أن الداعي موسى وحده، لكن في الجواب قال { { قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا } [يونس: 89] أي: موسى وهارون؛ لأنهما في مجال الرسالة واحد، لا ينفصل أحدهما عن الآخر، فدعوة موسى هي دعوة هارون.
وقد حاول بعض العلماء أن يُقرِّبوا لنا هذه المسألة، فقالوا: أجاب الله موسى بقوله:
{ { قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا } [يونس: 89] لأن موسى دعا، وهارون أمَّنَ على دعائه، والمؤمِّن أحد الداعين.
ثم يقول سبحانه عن موسى وهارون: { إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُؤْمِنِينَ } [الصافات: 122] ثم ينتقل السياق إلى نبي آخر، هو سيدنا إلياس:
{ وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ... }.