التفاسير

< >
عرض

بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ
١٢
وَإِذَا ذُكِّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ
١٣
وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ
١٤
-الصافات

خواطر محمد متولي الشعراوي

معنى (بَلْ) إضراب عن الكلام السابق وبداية لكلام جديد (عَجِبْتَ) بالفتح أي: يا محمد. والعَجَبُ: هو استغراب وقوع شيء على خلاف نظائره، ومن ذلك قوله تعالى في العقائد: { { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَٰتاً فَأَحْيَٰكُمْ .. } [البقرة: 28].
يعني: كيف يحدث منكم الكفر بعد أنْ فعلنا بكم ذلك؟ هذا شيء مُسْتغرب، ومسألة عجيبة. يعني: جاءت على خلاف ما يُنتظر منكم.
لكن من أيِّ شيء عجب النبي صلى الله عليه وسلم؟ عجب من إنكارهم ومن كفرهم، مع وضوح الأدلة الدامغة على صِدْق قضية الإيمان. وقد سُقْنا لهم الدليل تِلْو الدليل، ومع ذلك كذَّبوا؛ لذلك قال تعالى مُخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم في موضع آخر:
{ { وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ .. } [الرعد: 5].
يعني: وافق الله محمداً على أنْ يعجب. والمعنى: إنْ تعجب يا محمد فقولهم عَجَب. لكن عجب عند مَنْ؟ يجوز عجب عند رسول الله، ويجوز عجب عند الله تعالى، إذن: هل يعجب الله تعالى كما نعجب؟ قالوا: نعم، بدليل أن فى هذه الآية قراءةً بالضم (بل عجبتُ) بتاء المتكلم سبحانه، وبدليل ما ورد في الحديث الشريف:
"تعجب ربك من شاب ليست له صَبْوة" .
لماذا؟ لأنه خرج على طبيعة التكوين الإنساني، أو قدر على نفسه وتحكم فيها، بحيث لم يفعل ما يفعله الشباب، فهذا شيء مستغرب منه، ومعنى تعجب الحق سبحانه من هذا أنه يستغرب منه هذا العمل؛ ليجازيه جزاءً مُستغرباً كذلك.
وسبق أنْ قُلْنا: إذا وُجدت صفة مشتركة بيننا وبين الحق سبحانه، فعلينا أن نأخذها في إطار
{ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11]. ومن ذلك قوله تعالى: { { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [النساء: 142].
وقوله:
{ { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ } [الأنفال: 30].
لذلك إياك أن تقول: الله خادع أو الله ماكر؛ لأن هناك فَرْقاً بين أسماء الله تعالى وأفعال وصف الله بها نفسه سبحانه. فالمكر مثلاً من أفعال البشر يُراد به خداع الخصم والتخييل عليه، لتستطيع أنت أنْ تنفذ إلى غَرَضك منه، وهذا المكر يقابله مَكْر مثله يشاكله أو أمكر منه.
والمكر مأخوذ من قولهم شجرة ممكورة، وهي شجرة ذات عيدان ملفوفة بعضها على بعض، بحيث لا تستطيع أنْ تميِّزها، ولا أنْ تردَّ كل فرع فيها إلى أصله، كذلك المكر فيه لفٌّ وحيل لتستر سيئاتك عن خَصْمك، هذا في مكر البشر بعضهم ببعض، لكن إنْ مكر الله بك فلن ينجيك من مكره شيء؛ لذلك قال سبحانه:
{ { وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ } [آل عمران: 54].
وقوله تعالى: { وَيَسْخَرُونَ } [الصافات: 12] السخرية هي الاستهزاء من الشيء، والمعنى أنك تعجب يا محمد من نكرانهم وتكذيبهم مع وضوح الأدلة، وهم يسخرون منك ومن تعجبك { وَإِذَا ذُكِّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ } [الصافات: 13] يعني: بآيات أخرى وبراهين ترشدهم { لاَ يَذْكُرُونَ } [الصافات: 13] أي: يُعرضون عنها، ولا يلتفتون إليها، ويصرون على الإنكار { وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً } [الصافات: 14] أي: دليلاً جديداً { يَسْتَسْخِرُونَ } [الصافات: 14] أي: يبالغون في السخرية.
ففي الآية قبل السابقة قال: { وَيَسْخَرُونَ } [الصافات: 12] وهنا { يَسْتَسْخِرُونَ } [الصافات: 14] هذا دليل على أن من هؤلاء المكذبين أناساً ترقُّ قلوبهم لآيات الله وللأدلة الإيمانية، وحين ترقُّ قلوبهم تخفّ لديهم نزوة الكيد لمحمد، فيكتفون بالتكذيب دون السخرية؛ لأن الإباء يأتي على درجات، فواحد يأبى أنْ يفعل ما تأمره به، وآخر يأبى أن يفعل ويسخر منك.
فهؤلاء الذين يسخرون لا يكتفون بالسخرية من رسول الله، إنما { يَسْتَسْخِرُونَ } [الصافات: 14] يعني: يطلبون ممَّنْ لا يسخر أنْ يسخر، يعني: يستسخرون غيرهم، إذن: هناك فَرْق بين يسخرون ويستخسرون، حتى لا نقول كما يقول بعض المستشرقين: هذا تكرار في كلام الله.