التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ ٱلْمُجِيبُونَ
٧٥
وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ ٱلْكَرْبِ ٱلْعَظِيمِ
٧٦
وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ ٱلْبَاقِينَ
٧٧
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي ٱلآخِرِينَ
٧٨
سَلاَمٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي ٱلْعَالَمِينَ
٧٩
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ
٨٠
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُؤْمِنِينَ
٨١
ثُمَّ أَغْرَقْنَا ٱلآخَرِينَ
٨٢
-الصافات

خواطر محمد متولي الشعراوي

لكن، لماذا بدأ بسيدنا نوح عليه السلام؟ قالوا: لأن دعوته كانت أشبه بدعوة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لذلك قال تعالى: { { شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } [الشورى: 13].
الحق سبحانه وَصَّى نُوحاً، ووصَّى غيره من الرسل مِمَّنْ هم أعلى منه، ومع ذلك عطفهم عليه، وجعله في المقدمة. قالوا: لأن لنوح خصوصية هي في البيئة التي كان فيها، وفيمن آمن به، فكان المؤمنون به هم الذين نجَوْا في السفينة، وهم وحدهم الموجودون في العالم كله في ذلك الوقت، فكأن له عموميةَ رسالة بخصوص الموضوع، ورسول الله صلى الله عليه وسلم له عمومية رسالة، لكن في عموم الموضوع.
قوله سبحانه: { وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ } [الصافات: 75] كلمة (نَادَانَا) تدلُّ على أنه - عليه السلام - استنفد كل وسائله في دعوة قومه ولم تفلح، بدليل أنه قال في موضع آخر كما حكى القرآن:
{ { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوۤاْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } [نوح: 26-27] وما دعا نوحٌ على قومه هذه الدعوة إلا بعد يَأْسٍ منهم، وبعد أنْ وجد أن أسبابه الإيمانية المحيطة به من أتباعه غير كافية، فلمَنْ يلجأ إذن؟ يلجأ لله، لأنه وحده القادر على أنْ يُخلِّصه منهم، فيناديه: يا ربِّ أنت بعثتني فلا تتخلَّ عني، وهذه ظاهرة فطرية لكل مستنجد مستغيث، فأنت حين يطرأ لك خطر، لا تستطيع دفعه بقوتك وحيلتك تستنجد بأقرب الناس إليك، فإن لم تجد تستنجد بالبعيد، فإنْ عَزَّ المغيثُ تقول - كما قُلْنا سابقاً - (يا هوه) يعني: يا ربِّ ليس غيرك يُغيثني.
ثم يأتي جواب هذا النداء: { فَلَنِعْمَ ٱلْمُجِيبُونَ } [الصافات: 75] لأنه عليه السلام - كان نِعْمَ الداعي، فلا بُدَّ أنْ يقابل بنعم المجيبون، ولم يقُلْ: فلنعم المجيبُ، لأنه الحق يجيبه بجنوده في الأرض مثل: الهواء والماء والملائكة ..
{ { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } [المدثر: 31] ونتيجة هذه الإجابة { وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ ٱلْكَرْبِ ٱلْعَظِيمِ } [الصافات: 76].
وهنا وقف المستشرقون يقولون: كيف وقد أهلك اللهُ ولده، أليس من أهله؟ لكن في موضع آخر قَصَّ القرآن علينا قصة نوح عليه السلام وولده الذي شَذَّ عنه، فغرق مع المغْرَقين ولم تُفلح توسُّلاتُ نوح:
{ { رَبِّ إِنَّ ٱبْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ ٱلْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ ٱلْحَاكِمِينَ } [هود: 45].
وهذا اللبس ناتج من أن الناس أغفلوا أنَّ بنوة الأنبياء ليستْ بنوة النسب، إنما بنوة الإيمان بالله؛ لذلك رَدَّ اللهُ على نوحٍ:
{ { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ .. } [هود: 46].
فالأهلية هنا أهليةُ عقيدةٍ وإيمانٍ بالله، لا أهلية دمٍ ونسبٍ؛ لذلك إذا نظرتَ في هذه الآية تجد الحق سبحانه لم يَنْفِ الذاتَ، إنما نفى فعل الذات
{ { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ .. } [هود: 46].
لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" .. لا يأتيني الناس بأعمالهم، وتأتوني بأنسابكم وأحسابكم" .
وكلمة { مِنَ ٱلْكَرْبِ ٱلْعَظِيمِ } [الصافات: 76] المراد: الغرق، والكرب هو: المكروه الذي لا تستطيع دفعه عن نفسك، ولا يدفعه عنك مَنْ حولك حين تستغيثُ بهم، فإنْ كان لك فيه حيلة للنجاة فلا يُسمَّى كَرْباً، ووَصْف الكرب هنا بأنه عظيم، لأنه جاء بحيث لا يملك أحدٌ دَفْعه، فالماء ينهمر من السماء، وتتفجَّر به الأرض، ويغطي قِمَمَ الجبال، فأين المفرُّ إذن؟
ومعلوم أن الماء قِوَام حياة كل حَىٍّ، ومن أَجَلِّ نِعَم الله علينا، لكن إنْ أراد سبحانه جَعَلَ الماء نقمة وعذاباً، وقد رأينا في قصة سيدنا موسى - عليه السلام - كيف نجَّى اللهُ موسى بالماء، وأهلك فرعونَ بنفس الماء.
وقوله تعالى: { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ ٱلْبَاقِينَ } [الصافات: 77] أي: الذين كانوا معه في السفينة وهم المؤمنون بدعوته { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي ٱلآخِرِينَ } [الصافات: 78] أي: في الناس جميعاً من بعده يثنون عليه.
{ سَلاَمٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي ٱلْعَالَمِينَ } [الصافات: 79].
فالناس جميعاً عليهم حين يسمعون سيرة هذا النبي الذي تحمَّل في سبيل دعوته المشاقّ، ومكث في دعوة قومه هذا العمرَ الطويلَ، الذي خالف أعمار الناس أن يُسلِّموا عليه، وينبغي حين نسمع ذِكْره أنْ نُسلِّم عليه، فنقول: عليه السلام { سَلاَمٌ عَلَىٰ نُوحٍ } [الصافات: 79] أي: اعْطِه السلامة والسلام { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ } [الصافات: 80] يعني: هذه سُنة لله مُتَّبعة في أنبيائه، أنْ ينصرهم ويُبْقِى لهم الذكْرَ الحسن من بعدهم { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُؤْمِنِينَ } [الصافات: 81].
وقوله: { ثُمَّ أَغْرَقْنَا ٱلآخَرِينَ } [الصافات: 82] يعني: الكافرين. وكلمة (الأخِرِين) إهمالٌ لهم، واحتقارٌ لشأنهم.