التفاسير

< >
عرض

وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْحِسَابِ
١٦

خواطر محمد متولي الشعراوي

معنى { قِطَّنَا } [ص: 16] أي: نصيبنا وجزاءنا، وأصلها من القطعة كانوا يكتبون فيها الجائزة. يعني: إنْ كنا مذنبين عَجِّل لنا العذاب الآن قبل يوم القيامة، لكن كيف يأتيكم العذاب الآن في الدنيا والدنيا فانية، ينتهي العذاب بفَنَائها، فكأن عذابهم في الدنيا لا يكفي جزاءً لهم على كفرهم؛ لذلك يُؤخِّره الله لهم إلى يوم القيامة، وهي دار بقاء وإقامة لا نهاية لها.
والحقيقة أن الصيحة ليست هي التي ستُعذِّبهم، إنما هي مجرد جرس إيذاناً ببدء هذا اليوم.
والحق - سبحانه وتعالى - يشرح لنا هذا الموقف منهم ويُوضِّحه في قوله تعالى
{ { وَإِذْ قَالُواْ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [الأنفال: 32].
وهذا دليل غبائهم، فهل يدعو عاقل بمثل هذا؟ وكأن الحق سبحانه يريد أنْ يُدلِّل لنا على أن موقفهم في العناد والتأبّي على الرسالات ضد نفوسهم، فبدل أنْ يقولوا فاهدنا إليه يقولون
{ { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [الأنفال: 32].
لذلك الحق سبحانه يتعجب من استعجالهم العذاب:
{ { أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَآءَ صَبَاحُ ٱلْمُنْذَرِينَ } [الصافات: 176-177].
وعجيبٌ من كفار مكة أن يقولوا { قَبْلَ يَوْمِ ٱلْحِسَابِ } [ص: 16] فهل يؤمنون بهذا اليوم؟ إذن: لماذا ينطقون به ويعترفون بوجوده حتى يظهر في فلتات ألسنتهم؟ قالوا: إنه تنبُّه مواجيد الفطرة قبل أنْ يعمل العقل الماكر، فالذي يكذب يُعمِل عقله في الكذب، ولابُدَّ له أنْ يكون ذَكُوراً؛ لأن الكذب ليس له واقع ثابت.
لذلك كثيراً ما يكذب الإنسانُ كذبةً اليوم، ويكذب خلافها غداً، فالصادق لا يتغير كلامه لأنه يحكي واقعاً، أمَّا الكاذب فيحكي غير الواقع؛ لذلك قالوا: إنْ كنتَ كذوباً فكُنْ ذَكُوراً، مثل رجل كاذب يحكي ويقول: ذهبنا إلى (البندر) ليلة العيد الصغير، وكانت الدنيا (قمر ضهر!!) كيف؟
والمحقق الماهر هو الذي يستغل هذه المسألة ليعلم صِدْقَ الأقوال من كذبها، فالصادق يحكي واقعاً، فلو سأله المحقِّق ألف مرة لجاءتْ أقواله واحدة، أمَّا الكاذب فيحكي خيالاً لا بُدَّ أنْ تتضارب فيه الأقوال فينكشف زَيْفه، الواقع يُملي نفسه عليك، أمَّا الكذب فيُمليه الإفك والتلفيق، فلا تدري على أيِّ صورة يكون.
فقولهم: { قَبْلَ يَوْمِ ٱلْحِسَابِ } [ص: 16] جاء منهم فَلْتة لسان كشفتْ عَمَّا يؤمنون به بين أنفسهم، ومثلها قول المنافقين:
{ { لاَ تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْ } [المنافقون: 7].
فجعلوا النفعية هي المقياس، فكأن أتباع محمد حين لا ينفق عليهم سينفضُّون من حوله؛ ذلك لأن الأمور عندهم مادية، وكل شيء عندهم له ثمن.
وقالوا: لما فَتَر الوَحْي عن رسول الله: إنَّ ربَّ محمد قَلاَه، هكذا تسرقهم المواجيد الفطرية، ويظهر الحق في فَلَتات الألسنة عندما تتنبه الغريزة والفطرة، ويغيب العقل الماكر المدبر.
أو أنهم قالوا: { وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْحِسَابِ } [ص: 16] على سبيل الاستهزاء بالوعيد الذي توعَّدهم الله به، فهم لا يؤمنون بهذا العذاب ولا يثقون في وقوعه، فاستعجالهم له استهزاء به، فكأنهم قالوا: هات لنا العذاب فنحن مشتاقون لعذابك، فلا تُؤخِّرْه إلى يوم الحساب، وهذا التهكم لا يليق مع قولهم { رَبَّنَا } [ص: 16].