التفاسير

< >
عرض

وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ ٱلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ
٣٠
إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِٱلْعَشِيِّ ٱلصَّافِنَاتُ ٱلْجِيَادُ
٣١
فَقَالَ إِنِّيۤ أَحْبَبْتُ حُبَّ ٱلْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ
٣٢
رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِٱلسُّوقِ وَٱلأَعْنَاقِ
٣٣

خواطر محمد متولي الشعراوي

من عجائب السياق القرآني في ذكر داود وسليمان أنهما يشتركان في مسألة واحدة، فلو نظرتَ إلى أول آية ذكرت سيدنا داود تجدها في سورة البقرة في قوله تعالى: { { فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ .. } [البقرة: 251].
وآخر ذكر له هنا في سورة (ص): { وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ .. } [ص: 30].
كذلك أول ذِكْر لسيدنا سليمان ورد في سورة البقرة في قوله تعالى:
{ { وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ .. } [البقرة: 102].
وآخر ذكر له في سورة (ص) في قوله تعالى:
{ { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ } [ص: 34].
قوله تعالى: { وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ .. } [ص: 30] الوهْب: عطاءٌ بلا مقابل، فإنْ قُلْتَ: فالإنجاب كله يُعَدُّ بلا مقابل، نعم لكن الخالق سبحانه يهبك ذاتاً، ثم يزيد عليها هبة أخرى هي الصفات التي تتوفر للذات، مثل: الملك والحكمة وغيرها؛ لذلك الذين يطلبون الأشياء على غير مَظانِّها من الأسباب يطلبونها بالهبة، كما في قوله تعالى:
{ { وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۤ .. } [ص: 35].
وقوله تعالى:
{ { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً } [مريم: 5-6].
فسيدنا زكريا حين طلب من الله الولد كان شيخاً كبيراً، وكانت امرأته عاقراً، فالأسباب كلها ليست مُواتية وليست صالحة للإنجاب، لذلك طلبها على سبيل الهبة من الله، لا بالقانون والأسباب. وإنْ كانت الأسبابُ في ذاتها هبةً إلا أنها هبة عامة، لكن ما يلحق الذات من الصفات الخاصة تُعَدُّ هبة خاصة.
وقوله تعالى: { نِعْمَ ٱلْعَبْدُ .. } [ص: 30] نعرف أن نِعْم تُقَالُ للمدح، والمدح هنا بالصفة العقدية، وهي العبودية لله تعالى. وسبق أنْ قلنا: إن كلمة عبد وعبودية كلمة ممقوتة عند الناس ولهم الحق في مَقْتها، لأن العبودية للبشر يأخذ فيها السيدُ خَيْر عبده، لكن العبودية لله تعالى يأخذ العبد من خير سيده، فهذه هي العبودية الحقة التي تُعَدُّ عِزَّاً للعبد ورفعة.
لذلك لما تجلى الحق سبحانه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بنعمة الإسراء والمعراج، قال:
{ { سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ .. } [الإسراء: 1] فكأن عبوديته لربه هي التي أوصلْته إلى هذه المنزلة.
لذلك - ولله المثل الأعلى - الرجل صاحب الصنعة (أسطى) أو معلم وتحت يده صبيان، يُقرِّب منهم المخلص الذي يُحسن صنعته، ويجيد الخضوع له والطاعة والخدمة، لذلك يختصه بمواهبه، ولا يضِنُّ عليه بخفايا الصَّنْعة ودقائقها، ويعطيه خصوصيات لا يعطيها لغيره.
ومع أنه - عليه السلام - كان مَلِكاً إلا أن ربه مدحه بصفة العبودية { نِعْمَ ٱلْعَبْدُ .. } [ص: 30] ثم بيَّن لنا مَناط المدح بالعبودية، فقال { إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ص: 30] يعني: رجَّاع إلى الله إنْ هفت نفسه هفوة أنَّبَ نفسه عليها، ورجع إلى ربه، ويتوب إليه، لذلك يقول تعالى في بيان التوبة:
{ { إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ .. } [النساء: 17].
معنى
{ { بِجَهَالَةٍ } [النساء: 17] يعني: لم يخطط لها ولم يرتب للمعصية، وإذا حدثتْ منه لا يفرح بها ولا يجاهر، بل يحزن ويلوم نفسه { { فَأُوْلَـٰئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ ٱلآنَ وَلاَ ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [النساء: 17-18].
وضربنا مثلاً لهذين النوعين بطلاب العلم الذين كانوا يسافرون في بعثات علمية إلى فرنسا، فكان منهم المستقيم الملتزم بمنهج الله، لكن تفاجئه إحدى الفتيات المنحرفات ليلاً، وتعرض نفسها عليه، وتظل تغريه حتى يرتكبَ معها الفاحشة، هذا فعلها بجهالة ودون قَصْد أو تدبير، على خلاف الآخر الذي يسعى إلى الفاحشة ويتتبع عناوين أصحابها، وهذا هو الذي يقصد المعصية ويسعى إليها.
وكلمة { أَوَّابٌ } [ص: 30] يعني: كثير الأَوْبة والرجوع، فهي صيغة مبالغة بمعنى رجَّاع إلى الحق، فهو لم يفرح بالمعصية، وإنما ندم عليها وتدارك خطأه وصوَّب طريقه، بدليل قوله تعالى بعدها: { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِٱلْعَشِيِّ ٱلصَّافِنَاتُ ٱلْجِيَادُ } [ص: 31].
العشيّ: ما بعد الظهر إلى المغرب، وعرض عليه مثل العرض العسكري الذي يستعرض فيه القائد جنوده وقواته. ومعنى { ٱلصَّافِنَاتُ .. } [ص: 31] جمع صَافِن، وهو الجَواد العريق الأصيل، وتستطيع أنْ تلاحظ الجواد الأصيلَ من وقفته، فهو لا يقف على أربع، إنما على ثلاث في رشاقة، وكأنه على أُهبة الاستعداد.
ومعنى { ٱلْجِيَادُ } [ص: 31] جمع: جَوَاد وهو القوي السريع، فلما عُرِضَتْ على سيدنا سليمان الصافناتُ الجيادُ من خَيْلِه وقواته، قال { إِنِّيۤ أَحْبَبْتُ حُبَّ ٱلْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ } [ص: 32] قالوا: الخير هنا يُرَاد به الخيل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"الخيل مَعْقُود بنواصيها الخيرُ إلى يوم القيامة" .
وقال: "خَيْر ما ربيت فرس تُمسك عَنَانه، حتى تسمع كل صيحة تطير إليها" .
لذلك لما أمرنا ربنا أنْ نستعدَّ لأعداء الدين والمنهج، قال: { { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ .. } [الأنفال: 60] أي: قوة عامة. ثم خَصَّ الخيل، فقال: { { وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ .. } [الأنفال: 60].
فلما عُرِضَتْ الخيل على سليمان قال { إِنِّيۤ أَحْبَبْتُ حُبَّ ٱلْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي .. } [ص: 32] يعني: حباً ليس للتباهي والخيلاء، كالذين يُربُّون الخيل للمظهر ودخول السباق وذياع الصيت، إنما أحببتها حباً صادراً عن ذِكْر ربي وذكر منهج ربي، الذي أمر بإعداد الخيل والرباط والقوة التي تستطيع أنْ تفرض منهج الله في الأرض.
{ حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ } [ص: 32] الفاعل هنا مستتر، والفاعل حين يأتي مستتراً لا بد أنْ يكون له مرجع كما تقول: جاءني رجل فأكرمتهُ يعني: أكرمتُ الرجل المذكور.
وقوله: { تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ } [ص: 32] مشهود في الشمس حين تغيب، فالمعنى حتى توارت الشمس وغابت.
وقالوا: إنه فاتته صلاة العشي لانشغاله باستعراض الخيل، فلما فاتَتْه الصلاة { رُدُّوهَا عَلَيَّ .. } [ص: 33] أي: الخيل، أرجعوها إليَّ { فَطَفِقَ .. } [ص: 33] شرع { مَسْحاً بِٱلسُّوقِ وَٱلأَعْنَاقِ } [ص: 33].
يعني: يمسح على سُوق الخيل وأعناقها دلالةً على إكرامها والاهتمام بها، وخصَّ السُّوق والأعناق من الخيل لأنها أكرمُ ما فيها، فالأعناق بها الأعراف، والسُّوق أداة الحَمْل والجري، والمعنى أنه سُرَّ منها فمسح بيده على السُّوق والأعناق.
بعض المفسرين لهم رأي آخر، قالوا: المسح هنا يُراد به أنه أراد قَتْلها وذبْحها؛ لأنها أَلْهَتْهُ عن الصلاة، وهذا الكلام أقربُ إلى الإسرائيليات؛ لأن الخيل لم تشغله، بل هو الذي شغلها وشغل الدنيا كلها من حوله، فما ذنب الخيل؟
والعجيب أن في الإسرائيليات أشياء كثيرة تقدح في نبوة الأنبياء في بني إسرائيل، وكثيراً ما نراهم يتهمون أنبياءهم بما لا يليق أبداً بالأنبياء، والعلة في ذلك أن الذي يسرف على نفسه وهو تابع لدين يريد أنْ يلتمس فيمن جاءه بهذا الدين شيئاً من النقيصة ليبرر إسرافه هو على نفسه، من هنا اتهموا أنبياءهم وخاضوا في أعراضهم.