التفاسير

< >
عرض

وَٱذْكُرْ عِبَادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي ٱلأَيْدِي وَٱلأَبْصَارِ
٤٥
إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى ٱلدَّارِ
٤٦
وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ ٱلْمُصْطَفَيْنَ ٱلأَخْيَارِ
٤٧

خواطر محمد متولي الشعراوي

هنا أيضاً (واذكر) أي: بالحمد والثناء (عبادنا) جمع عبد وقلنا: إن العبودية ممقوتة إنْ كانت للبشر، لكن العبودية لله عِزٌّ وشرف (إبراهيم) هو أبو الأنبياء (وإسحاق) وهبه الله لإبراهيم بعد أنْ أسلم الحكم لله حين أمره بذبح ولده إسماعيل (ويعقوب) هو ابن إسحاق.
وقد وقفنا على قصة هؤلاء الأنبياء في قوله تعالى على لسان إبراهيم يقول لولده إسماعيل:
{ { يٰبُنَيَّ إِنِّيۤ أَرَىٰ فِي ٱلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ .. } [الصافات: 102] فلم يشأ إبراهيم أنْ يقبل على ذَبْح ولده قبل أنْ يُبيِّن له الأمر الذي صدر إليه، ذلك لأنه أشفق عليه أنْ يأخذه على غِرَّة فيمتلئ قلب الولد على أبيه حقداً؛ لأنه لا يعرف الحكمة من قَتْل أبيه له، ثم أراد أن يشرك ولده معه في التسليم لله وألاّ يحرمه الأجر.
لذلك قال تعالى:
{ { فَلَمَّا أَسْلَمَا .. } [الصافات: 103] يعني: إبراهيم وإسماعيل { { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن يٰإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَآ .. } [الصافات: 103-105] أي: استسلمتَ واستسلم ولدك، إذن ارفع يدك { { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي ٱلآخِرِينَ * سَلاَمٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ } [الصافات: 107-113].
إذن: جاء إسحاق وجاء من بعده يعقوب نتيجة لتسليم إبراهيم وانصياعه لأمر ربه في ذبح إسماعيل، فأبقى على إسماعيل، ووهب إسحاق ويعقوب زيادةً وفضلاً من الله؛ لأن الحق سبحانه لا يريد بالابتلاء أنْ يعذِّب الناس.
لذلك قلنا: إن لسيدنا إبراهيم فضلاً على كل مسلم، وجميلاً في عنق كل مؤمن، لماذا؟ لأن مسألة الذبح لو نُفِّذت في إسماعيل لصارتْ ابتلاءً من الله للإنسان بأنْ يتقرَّب إلى الله بذبح ولده، لكن سيدنا إبراهيم بإيمانه وتسليمه الأمر والحكم لله تحمل عنّا هذه المسألة، ورفع عنا هذا الحكم، وإلا صارتْ المسألة نُسُكاً وعبادة لازمة لكل مؤمن من بعده، وصدق القائل:

سَلَّمْ لِرَبِّك حكْمَهُ فَلِحِكْمَةٍ يَقْضِيه حَتَّى تَسْتَريحَ وتغْنَما
وَاذْكُرْ خليلَ الله في ذَبْحِ ابْنِهِ إذْ قالَ خالِقُهُ فَلَمَّا أسْلَمَا

ونتعلم من هذه المسألة أن كل أمر أو حدث يُسيء الإنسان في ظاهره ويتعبه ويعتبره الإنسان مصيبةً لا ينبغي أنْ ننظر إليه مُنفصلاً عن فاعله، لكن يجب أنْ نأخذَ الحدث بضميمة مَنْ أحدثه؛ لأن الحكم على الحدث يتغير بالنظر إلى الفاعل.
وأوضحنا هذه المسألة وقلنا: هَبْ أن ولدك دخل عليك، والدم يسيل من وجهه، فإنك لا تهتم بالإصابة بقدر ما تهتم بالفاعل، فأول سؤال تسأله: مَنْ فعل بك هذا؟ ثم تنتظر أن تسمع اسم الفاعل، فإنْ قال الولد: عمي ضربني فإنك ستهدأ وتقول: لا بُدَّ أنك فعلتَ شيئاً استوجبَ أنْ يضربك عمك، لكن إنْ قال لك: فلان خاصة إنْ كان عدواً لك، فإنك تقيم الدنيا ولا تقعدها.
إذن: لا يمكن أنْ تحكم على الفعل بالخير أو الشر إلا بنسبته إلى فاعله؛ لأنه بنسبة الفعل إلى فاعل تتمحض الخيرية فيه أو يتمحَّض الشرُّ فيه.
ومعنى { أُوْلِي ٱلأَيْدِي وَٱلأَبْصَارِ } [ص: 45] أصحاب الأيدي وهي جمع يد، وتُطلَق اليد على الجارحة المعروفة، وتُطلَق على ما تأتي به الجارحة من فعل، تقول: فلان له يد عليَّ يعني: فضل وجميل، ولأن أغلب الأفعال تُزَاوَلُ باليد سُمِّيَتْ النعمة التي تصل بطريق اليد باسم هذه الجارحة الفاعلة، ومن ذلك قوْل القائل:

له أيادٍ عليَّ سابغة أعدّ منها ولا أعددها

وفَرْق بين الحركة الفاعلة التي تقوم بالفعل، ومعنى آخر في الحركة الفاعلة هو ما يُوجب عليك الحركة، مثلاً حين نريد البَذْل والعطاء، فمَنْ عنده مال يبذل ويعطي بيده، أما المعدم فلا يعطي إنما ينصح مَنْ عنده المال بأنْ يبذلَ منه.
يقول تعالى:
{ { لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ .. } [التوبة: 91].
فالعمل هنا ليس باليد إنما باللسان، لكن لما كانتْ اليد هي الآلة التي نباشر بها أكثر الأعمال نسبنا كلَّ خير يتعدَّى منك إلى غيرك نسبناه إلى اليد؛ لذلك يقول سبحانه:
{ { يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ .. } [الفتح: 10].
فإذا كان الإنسان غير واجد للمال، وغير قادر على النصح باللسان، فإن الله تعالى لا يحرمه أبداً من العمل الصالح في البذل، ويكتفي منه بأنْ يفرح بمَنْ يبذل ويسعده العطاء من غيره.
ومثال ذلك: الرجل الذي سمعوه يدعو عند الكعبة يقول: اللهم إنك تعلم أنِّي عاصيك، لكن أحب مَنْ يطيعك. والأصمعي يسمع رجلاً عند الملتزم يدعو ويقول: يا رب أنا أعلم أني عاصيك وأستحي وأنا عاصيك أنْ أطلب منك، لكن لا إله إلا أنت، فلمن أذهب؛ فقال له: يا هذا، إن ربك يغفر لك لحُسْن مسألتك.
ومعلوم أن المؤمن يجتهد في الدعاء خاصة عند الملتزم، ويحاول أن يُحسِن الدعاء، ويُحسِن المسألة في هذا الموقف.
مرتبة أخرى يجعلها الله لغير الواجد حتى لا يُحْرم الأجر في العطاء، هي أنْ يحزن لأنه لا يجد ما يبذله، كما جاء في قول الله تعالى:
{ { وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ } [التوبة: 92].
فالحق سبحانه لا يحرم مؤمناً أنْ يكون له موقف في البذل، ولو كان بَذْلاً سلبياً.
ومن معاني اليد: القوة كما في قوله تعالى:
{ { يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ .. } [الفتح: 10] فالمراد { أُوْلِي ٱلأَيْدِي .. } [ص: 45] أي: أصحاب القوة في طاعة الله.
و { ٱلأَبْصَارِ } [ص: 45] أي: البصائر في العلم والدين والحكمة، أما الأبصار بمعنى حَاسَّةِ البصر، فهي موجودة في الجميع المؤمن وغير المؤمن، إذن: المراد الأبصار التي ترى ثم تؤدي مهمة أخرى فوق البصر، وتزيده نوراً على نور.
إذن: البصر وحده لا يكفي لأن آيات الله في الكون هي المعطيات، كما نقول في المسألة الرياضية، وهذه المعطيات تحتاج إلى بصيرة واعية لتصل بالمعطيات إلى المطلوب، وهو الإيمان بمَنْ أعطى هذه المعطيات.
فالأبصار حينما تنظر في الكون، وترى معطياته، وترى آيات الله فيه، ثم لا تتأثر عقلياً ولا وجدانياً بها، ولا تلتفت إلى صانعها ومبدعها، فلا قيمة لهذه الأبصار.
فالمعنى { ٱلأَبْصَارِ } [ص: 45] أي: أصحاب البصائر التي شغلتْ العقول والوجدان، بما تراه من الآيات، وعلمت أن هذا الكون لا يمكن أنْ يُنْسَب إلا إلى قوة قادرة ظاهرة مسيطرة، لا يوجد لها شريك، وإلا لو كان له شريك لظهر أثره، ولدافع عن حقه في هذا الملْك، وما دام لم يظهر هذا المعارض ولم يَدَّعِ أحد أنه خلق، فالقضية تَسْلَم لمن ادعاها.
لذلك يقول سبحانه:
{ { قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِي ٱلْعَرْشِ سَبِيلاً } [الإسراء: 42].
وقدَّم الأيدي على الأبصار، لأن عمل الأيدي نتيجة نهائية للبصر، لأنك تبصر آيات الله في كونه، وتعرف أنه ربُّ الجميع، وخالق الجميع، ورازق الجميع، فيرقّ قلبك للفقير وتعطيه، لعلَّكَ تصبح مثله في يوم ما فتجد من يعطيك، ولا تحقد على واجد وأنت معدم، لأن خير الواجد سينالك بأيِّ حال.
لذلك قال تعالى:
{ { وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } [النساء: 9].
ولنعتبر بقوله تعالى:
{ { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً .. } [الكهف: 82].
ثم يقول سبحانه: { إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى ٱلدَّارِ } [ص: 46].
أخلصناهم يعني: أعطيناهم شيئاً خالصاً لهم، والخالصة التي خصصناهم بها هي التي تلفتهم دائماً إلى دار الجزاء وهي الآخرة، وبهذه الذكرى يظل الإنسان دائماً مُسْتحضراً ثوابَ الطاعة وعقابَ المعصية، وإذا استحضر الإنسان هذه العاقبة استقام على الطاعة وابتعد عن المعصية.
لذلك يقول صلى الله عليه وسلم في بيان هذه المسألة:
".. لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن" .
لماذا نفى عنه الإيمان في هذه اللحظة؟ قالوا: لأنه غفل عن عاقبة فِعْله غفل عن الجزاء، فالغفلة هي التي تكسلنا عن الطاعة، وتُوقِعنا في المعصية، وتُغرينا بها، ولو استحضر الإنسانُ العقوبة على المعصية ما وقع فيها.
وسبق أنْ ضربنا مثلاً فقلنا: لو أن شاباً عنده شرهٌ جنسي. وقلنا له: سنوفر لك ما تريد، لكن بعد أنْ تقضي ليلتك سنأخذك إلى هذا الفرن المسجور، ونضعك فيه لمدة ساعة واحدة، مثل هذا الشاب ما ظنكم به؟ لا بُدَّ أنه سيفر من هذه المعصية، ويهرب منها، ويزهد فيها، لماذا؟ لأنه عاين العاقبة واستحضر الجزاء.
كذلك الطالب الذي يجتهد في دروسه، حتى أنه يهمل في أكله وشربه، لماذا يفعل ذلك؟ لأنه استحضر لذة النجاح وشرف التفوق وعُلُوّ المنزلة بين أهله وزملائه، وفي المقابل الطالب المهمل لا يهمل إلا لأنه غفل عن عاقبة الإهمال وذِلّة الفشل يوم أنْ تظهر نتيجته.
فمعنى { ذِكْرَى ٱلدَّارِ } [ص: 46] أي: يظل دائماً على ذِكْر لها يستحضر الثواب على الطاعة، فيقبل عليها، ويستحضر العقاب على المَعصية فيفرّ منها.
وقوله: { وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ ٱلْمُصْطَفَيْنَ ٱلأَخْيَارِ } [ص: 47].
أي: الذين اصطفيناهم، ولله تعالى في الخَلْق اصطفاءات يصطفي من الأماكن، ويصطفي من الأزمنة ما يشاء، كما اصطفى من الأمكنة الكعبة وبيتَ المقدس، واصطفى من الأزمنة شهر رمضان كذلك يصطفي من الناس رسلاً، ويصطفي من الملائكة رسلاً.
والاصطفاء ليس تدليلاً للمصطفى ولا محاباة له، إنما ائتمان المصطفَى على ما يريده من اصطفاه أي المصْطِفي من إشاعة الخير في جنسه، فاصطفاء الرسل ليس تدليلاً لهم، إنما الاصطفاء يُحمِّلهم أعباء جسيمة في ذواتهم وأنفسهم وفي أموالهم وأهليهم.
كذلك اصطفى رمضان لا لنعبد الله ونطيعه في رمضان وحده، إنما ليشيع الطاعة في الزمان كله بأنْ تأخذ من رمضان الطاقة اللازمة للعام كله، إذن: فاصطفاء الزمان أو المكان أو الإنسان أو الملائكة ليس تدليلاً لخَلْق على خَلْق، إنما لإشاعة الخير في كل الخَلْق للخَلْق.
ومعنى { ٱلأَخْيَارِ } [ص: 47] جمع خيِّر. والمعنى: اصطفيناهم لما فيهم من الخيرية، التي تؤهِّلهم لهذا الاصطفاء.